المكياج أو الإحراج الاجتماعي؟
استوقفتني حادثة عروس المحلة -كما أطلق عليها- والجدل الذي أُثير حولها على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن التصرف غير اللائق لصاحبة صالون تجميل سيدات (ميك أب أرتست) التي قيل: إنها أجبرت الفتاة على غسل وجهها، بعد أن اختلفا على المقابل المادي لتجميل الفتاة.
تقول الفتاة إنها أرادت وضع مساحيق خفيفة تتناسب مع حالتها المادية، وتم الاتفاق على ذلك، ولكن حدث الخلاف حينما علمت "الميك أب أرتست" أن المكياج لحضور حفل خطوبتها، وليس لمجرد حضور حفل عادي.
ضغوط مادية يضعها المجتمع على عاتق العروسين
وجدت الفتاة نفسها أمام خيارين: إما دفع مبلغ مضاعف، أو إزالة المكياج وإحراجها أمام الحضور، وكان الاختيار الثاني هو المناسب لحالتها المادية، كما قالت.
أحدثت الواقعة جدلًا كبيرًا على السوشيال ميديا في مصر، فقد استنكر رواد مواقع التواصل الاجتماعي التصرف غير اللائق (للميك أب أرتست)، بينما عرض آخرون من المتخصصين في مجال التجميل القيام بتجميل العروس مجانًا.
الغريب أنه لم يتطرق أحد للإشكالية الأساسية، وهي: التجميل والضغوط المادية، التي يضعها المجتمع على عاتق العروسين -خصوصًا- والبنات -عمومًا- فلا يزال 29.7 في المائة من سكان مصر، أي ما يقارب ثلت سكانه يعانون من الفقر -بحسب تصريحات وزيرة التخطيط هالة السعيد- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب التساؤل حول مسألة التفاضل بين: إما المكياج وإما الإحراج الاجتماعي.
لماذا ينتج بالضرورة الشعور بالعار في حالة عدم إخفاء الشكل الطبيعي للعروس، وعدم التجميل المبالغ فيه؟ "لماذا ينتج بالضرورة الشعور بالعار في حالة عدم إخفاء الشكل الطبيعي للعروس؟"
أشارت دراسة لشركة الأبحاث "يورو مونيتور إنترناشيونال" إلى أن سوق مستحضرات التجميل والعناية بالجمال، قد زادت في العالم العربي إلى 300 في المائة في الأعوام الثلاثة الماضية؛ فقد بلغ إجمالي مبيعات أدوات التجميل ومساحيقه في المنطقة العربية 2.1 مليار دولار، ما جعل هذه المبيعات الأعلى في معدلات استهلاك مستحضرات التجميل على المستوى العالمي.
ويشير التقرير الأخير لصحفية "الاقتصاد" إلى أنه بالرغم من المشاكل الاقتصادية في المجتمع إلا أن حجم سوق مستحضرات التجميل فى مصر يبلغ سنويا 40 مليار جنيه، متفوقًا على قطاع الدواء، الذى لا يتعدى نحو 34 مليار جنيه؛ حيث تستورد مصر أدوات التجميل بأكثر من 9 مليارات جنيه، بالإضافة إلى منتجات للعناية بالبشرة واليدين والقدمين بنحو 746 مليون جنيه.
وبحسب إحصائيات الاستهلاك لعام 2022 في مصر لموقع "صناع المال"، وهو من أشهر المواقع التي تقدم معلومات عن الأرباح، وفرص الاستثمار في الشرق الأوسط، احتل المظهر الخارجي (الملابس، الإكسسوار ومستحضرت التجميل) المراتب الأولى تباعًا، حتى إنه أعلى من الإنفاق على المواد الغذائية، التي حلت في المرتبة الثامنة، بينما حلت الاحتياجات الأساسية، كأدوات المنزل وديكوراته، وغيرها في المرتبة الثامنة عشرة، تليها الأحذية والإكسسوارات والمكياج والعطور.
تكلفة جلسة تجميل تعادل راتب موظف حكومي في شهر
و يرى الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادى، أن مستحضرات التجميل واحدةٌ من الصناعات التى تحفز بشكل كبير النمو الاقتصادى لدول عديدة. ويرجع ازدهارها فى الأساس إلى انتشار صالونات التجميل على مستوى واسع؛ حيث تحولت إلى استثمارات كبرى فى العالم، ولعبت دورًا كبيرًا في الترويج لهذا الاستثمار، وكشف الخبير الاقتصادى عن أن هذه الصناعة لا تستفيد منها الدول العربية؛ بسبب اعتمادها على استيراد مستحضرات التجميل بنسب تتعدى الـ 90 في المائة من الدول الأجنبية التى تعتبر المستفيد الأول من هذه الصناعة.
ومع ذلك، فإن الإقبال الكبير على التجميل فتح مجالات وفرص عمل لأيدٍ عاملة محلية، وهم أصحاب صالونات التجميل، وعمالها، ونخص بالذكر هنا من يطلق عليهم "الميك أب أرتست "، فكل ما يحتاجه/ تحتاجه (الميك أب أرتست) هو موهبة في فنون التجميل، وعدد لا بأس به من الدورات التدريبية (الكورسات)، التي تساعدهـ/ـا على صقل هذه الموهبة، ومع ذلك فما يتلقاه هؤلاء من أجر مقابل عمل ساعات قليلة؛ من أجل تجميل فتاة واحدة، أصبح يفوق الخيال.
فمن خلال جولة سريعة للنظر على أسعار الجلسات على (السوشيال ميديا) تكتشف أن جلسة التجميل للفتاة تترواح بين 2000 و 7000 جنيه، أي ما يعادل راتب الموظف الحكومي في شهر، وفي بعض الحالات يكون ضعفه.
ومما زاد هوس الناس بالتجميل، ورسخ ضرورته (الزائفة) في أذهانهم، هو الترويج لهذه الصالونات عن طريق استخدام العديد من مشاهير السينما والتليفزيون، وحتى مشاهير (السوشيال ميديا) في الإعلان عنها، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعى فى الترويج لهذه السلع.
الهوس بالتجميل هو نتاج دعاية وخطاب بدأته الحداثة الرأسمالية
صحيحٌ أن الاهتمام بالمظهر الخارجي وبالجمال كان -وما زال- حاضرًا بقوة في الثقافة المصرية كغيرها من الثقافات حول العالم، بل إن المرأة المصرية القديمة استخدمت مساحيق التجميل، وتفننت الحضارة المصرية القديمة في صناعته، وألهمت الحضارات الأخرى في ذلك، لكن الهوس المبالغ فيه بالتجميل، الذي نراه اليوم هو نتاج دعاية وخطاب بدأته الحداثة الرأسمالية، التي كرست صورة المرأة الجميلة الحديثة المستهلكة لمستحضرات التجميل والمظهر الخارجي مقابل المرأة التقليدية المحتشمة التي لا تستخدم مستحضرات التجميل.
فما كان من المرأة العصرية في مجتمعاتنا الشرقية، إلا أن تتبع المرأة الأوروبية في اهتمامها بمستحضرات التجميل، وكانت نساء الطبقات العليا أُوَل من اتبعن، وتبعهن في ذلك نساء الطبقات الدنيا، وإن كن قد استخدمن خاماتٍ مقلدة ورخصية، بالرغم من أضرارها على البشرة.
لقد تشجعت المرأة الأوروبية في العقود الأخيرة، واستطاعت العودة بقدر كبير إلى الحياة الطبيعية والتخفيف قدر المستطاع من استخدام مستحضرات التجميل؛ لتلافى أضراره من جهة، بينما لا تزال المرأة العربية -بصفة عامة- تبالغ في استخدامه -وخاصة الشابات- رغبةً منهن في إثبات أنهن لسن (فقيرات)، أو (متخلفات)، أو لإرضاء صورة مثالية سائدة عند الشباب عن المرأة الجميلة، والتي ترسخها الثقافة الشعبية من جهة والمشاهير من الفتيات بمكياجهن المبالغ فيه.
هذه الصورة كثيرا ما تنتهي بالشباب بالعزوف عن الزواج من مثل هؤلاء المبالغات في التزين بصورة فجة، أو بالطلاق بعد أن تنكشف في العادة الصورة الحقيقية للمرأة، التي كانت تختفي وراء صورة مزيفة مبالغ فيها.
فوفقًا لدراسة غير منشورة اطلع عليها رصيف22، فإن أكثر من 55% من حالات سوء الخلافات الزوجية ترجع إلى عدم قبول الرجال لأشكال أجسادهن ومظهرهن.
ووفقًا لهذه الدراسة التي أعدها باحثون اجتماعيون في مكاتب التسوية بمحاكم الأسرة بمصر فإن نسبة نسب الطلاق التي وصلت إلى 30% بين المتقاضين في إحدى محاكم شرق القاهرة، كانت بسبب مقارنة الأزواج بين مظهر زوجاتهن، والأخريات اللواتي يظهرن على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي.
إن الهوس بمستحضرات التجميل الذي نشاهده اليوم -في ظل المبالغة في الأسعار، وانتشار الفقر مع غياب دور للدولة- يعد جريمة في حق المرأة، ولوضع حد لهذا الاستغلال المادي والمعنوي توجد حاجة إلى وقفة من نخبة المثقفين لنشر الوعي بين الشابات، وترسيخ اتجاه يعزز ثقة النساء في مظهرهن من جهة، وتوجد حاجة إلى دعم الدولة كذلك من خلال وضع حد للأسعار المبالغ فيها لصالونات التجميل من جهة أخرى.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
أماني الصيفي - أكاديمية وباحثة في تخصص الدراسات الأدبية والثقافية.