فرنسا: هل يكون سلاح التأشيرات طوق نجاة ماكرون؟
دافعت الحكومة الفرنسية عن هذا القرار الجذري وغير المسبوق، مؤكدة ضرورة اتخاذه. وذلك في سياق الرد، على رفض الدول إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لترحيل المهاجرين من مواطنيها، وهي وثيقة التي لا يمكن بدونها تنفيذ الطرد.
واستندت باريس في معرض تبرير هذه الخطوة التصعيدية، إلى أرقام وزارة الداخلية، فحتى منتصف العام الجاري، لم تصدر الجزائر سوى 31 تصريحا قنصليا، ولم ترحل فعليا إلا 22 شخصا، من أصل 7731 شخصا المعنيين بقرار الترحيل. فيما سجل المغرب نسبة 2,6 في المائة، بعد ترحيله 80 فردا من أصل 3301. ورحّلت تونس 134 شخصا من أصل 3424، مسجلة أعلى نسبة؛ 4,5 في المائة.
الهجرة ورقة انتخابية رابحة
لا يمكن عزل توقيت وفجائية، وحتى سرية القرار الفرنسي؛ عن سياق السباق الرئاسي، ربيع عام 2022. فليس صدفة أن يتخذ مثل الإجراء قبل أكثر من شهر، ويُتحفّظ عن الإعلان عنه، حتى موعد تقديم مرشحة اليمين المتطرف للرئاسة مارين لوبن، مسودة مشروع الاستفتاء بشأن الهجرة، ناهيك عن صعود الغريب لإريك زمور؛ نجم اليمين الأكثر تطرفا، المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية، صاحب المواقف والسياسيات التحريضية (الاستبدال الكبير) ضد الأجانب والمهاجرين.
على هذا الأساس، يكون القرار؛ من منظور داخلي، مجرد مناورة انتخابية، في قضية حساسة، تشهد منافسة حادة بين مختلف الفاعلين السياسيين، قصد اقتراح أكثر الاجراءات تشددا ضد المهاجرين، من أجل طمأنة الرأي العام الفرنسي الخائف من تداعيات الهجرة. بهذه الإجراء التصعيدي؛ ضد دول ذات أكبر الجاليات بفرنسا (الجزائر والمغرب)، يبعث الرئيس ماكرون رسائل إلى الداخل الفرنسي، مفادها أنه قادر على اتخاذ إجراءات حازمة في ملف الهجرة. يذكر أن الرئيس، قد وعد في بداية ولايته الرئاسية التي توشك على نهايتها، بتنفيذ قرارات الترحيل، بنسبة 100 في المائة، لجميع البلدان المعنية.
يذكر ماكرون أن موضوع الهجرة يأتي ضمن صدارة اهتمامات الفرنسيين، لذا يسارع الزمن؛ حتى الانتخابات الرئاسية، لتصحيح أخطائه وتدارك هفوات سياسته الخاصة بهذا الملف، ما يدفعه نحو اتخاذ قرارات جذرية لضمان استمالة أصوات الناخبين (اليمين واليمين المتطرف).
أسلوب ضغط وابتزاز خارجي
من ثمار أحداث الربيع العربي، في نسخته الأولى والثانية، تعكير صفو العلاقات الدبلوماسية الفرنسية المغاربية؛ لا سيما مستعمرات القديمة. يعزى ذلك إلى الارتباك والتردد الذي طبع مواقف باريس حول الأحداث، ما أسقط وهم الحماية الفرنسية للأنظمة الاستبدادية بشمال أفريقيا، إذ ظهر أن الأمر، في حقيقته، مجرد وسيلة لتسهيل نهب خيرات واستغلال ثروات الحديقة الخلفية لباريس.
حاولت هذه الدول، كل حسب قدرتها، التحرك بعيدا عن التبعية والارتهان المطلق لفرنسا. فوجدت نفسها، أكثر من مرة، في اصطدام مباشر مع باريس. وذلك عندما تصبح مصالح هذه الأخيرة محل تهديد حقيقي، من طرف قوى دولية أخرى، نجحت في فرض نفسها بمنطقة شمال افريقيا (روسيا والصين وتركيا...).
كان لذلك وقع كبير على علاقات فرنسا بهذه الدول، فقد شهدت غير ما مرة أزمات صامتة؛ تتطلب وقتا طويلا لتجاوز تداعياتها. وأحيانا أزمات حادة؛ على غرار ما وقع مع المغرب عام 2014. تكشف تفاصيل كل أزمة على حدة، أن العقلية الاستعمارية لا تزال تحكم رؤية باريس لعلاقاتها بدول المغرب الكبير.
لا يخرج قرار خفض التأشيرات عن هذا السياق، فهو من ناحية، مناسبة لتذكير الداخل والخارج معا، بمجد وهيبة الجمهورية الفرنسية، لا سيما بعد خسارة صفقة الغواصات بسبب التحالف الثلاثي "أوكس". ومن ناحية أخرى، ورقة قوية تصلح لمساومة أو ابتزاز الأنظمة المغاربية، لتحقيق مكاسب وضمان مصالح فرنسا.
الردود بين المهادنة والتصعيد
ما كان لفرنسا أن تجرأ على قرار جذري كهذا، ضد ثلاثة بلدان دفعة واحدة، لولا وقوفها عند حقيقة الوحدة المغاربية، وإدراكها أن مشروع الاتحاد المغاربي ولد مَيِّت. ما يجعلها تتوقع الردود قبل القرار، لا سيما مع احتدام الأزمة بين المغرب والجزائر بشكل غير مسبوق، ما جعل مجرد التفكير في جبهة موحدة لمواجهة القرار أمرا مستحيلا.
اختارت الجزائر الدخول في مواجهة دبلوماسية مع فرنسا، ما يندر بمزيد من التأزيم في علاقات مأزومة أصلا، منذ اندلاع الحراك الجزائري، وعزل الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. فاستدعت السفير الفرنسي للاحتجاج على القرار، ثم تطورت الأمر إلى سحب سفيرها في باريس، للمرة الثانية في أقل من عام، عقب تصريح للرئيس إيمانويل ماكرون حول "قضايا الذاكرة"، اعتبرها الجزائر مستفزة، وتدخلا في شؤونها الخاصة. وبلغ التصعيد مستوى غير مسبوق، بإعلان الحكومة الجزائرية حظر تحليق الطائرات الفرنسية، لمراقبة منطقة الساحل في إطار عملية برخان، فوق الأراضي الجزائرية.
وانزاح المغرب نحو التهدئة، حين اعتبر القرار الفرنسي غير مبرر، ولا يعكس حجم التعاون في ملف الهجرة غير النظامية. وأضاف ممثل الدبلوماسية المغربية، بأن حل مسألة عودة المهاجرين بين يدي فرنسا، مؤكدا على وجود أشخاص يملكون تصاريح المرور إلى المغرب، دون أن يتمكنوا من ذلك، لاعتبارات تقنية، تتعلق بعدم خضوعهم للفحص الخاص بفيروس كورونا، اللازم لدخول التراب المغربي.
وراء هذه اللغة الدبلوماسية اللبقة أكثر من تفسير، بدء بسياق القرار الفرنسي الذي يأتي بعد توتر حاد في العلاقات بين باريس والرباط، بشأن برنامج التجسس "بيغاسوس"، والذي اتهم المغرب باستخدامه ضد مسؤولين فرنسيين، مرورا بالسعي وراء تقليل جبهات الصدام داخل أوروبا (إسبانيا ثم ألمانيا)، لا سيما بعد دخول اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي منعطفا جديدا. وانتهاء بالرغبة في استمالة فرنسا لصف المغرب، في ظل التصعيد الجزائري المستمر.
تراوحت ردود العواصم المغاربية، على القرار الأحادي الجانب من الحكومة الفرنسية، بين خيار المهادنة وأسلوب التصعيد، وفق ما تسمح به معادلة كل بلد على حدة، ما يفرض أسلوبا معينا في التعاطي مع الإجراء، فتونس غارقة في الصراع مع نفسها، والجزائر تبحث عن جاهدة عن شرعية خارجية، بقطع العلاقات مع المغرب أو الصدام مع فرنسا، بعدما عجز النظام عن تحصيلها من صناديق الاقتراع. فيما يسعى المغرب جاهدا إلى الانطلاقة في معركة ما بعد كورونا، بعد ترتيب بيته الداخلي، بمحو أثار الربيع العربي في آخر محطة انتخابية.
حقوق النشر: قنطرة 2021
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.