فخ داعش: انقسام العالم إلى أبيض وأسود والتغاء المنطقة الرمادية

معلّقون سياسيون في كل مكان يقولون إن الاعتداءات الوحشية في بروكسل هجوم على أسلوب الحياة والحرية الغربية. غير أن تكتيكات تنظيم "الدولة الإسلامية" واستراتيجيته متطوِّرة إلى حدّ أبعد بكثير مما يقولون، مثلما يرى الصحفي كريم الجوهري في تعليقه التالي لموقع قنطرة. فمن خلال هجماته الإرهابية في أوروبا يأمل داعش في أن تُهمِّش أوروبا مسلميها فيسْهُل عليه اجتذابهم وينقسم العالَم إلى أبيض وأسود (مسلمين وغير مسلمين). فتلتغي المنطقة الرمادية (التعايُش المشترك)، وهو ما يصبو إليه أيضاً اليمين المتطرف في الغرب.

الكاتبة ، الكاتب: كريم الجوهري

في وسائل الإعلام الأوروبية لا يكاد يتم حتى الآن تسليط الضوء على أنَّ الجهاديين يسعون إلى هدف استراتيجي يناقشونه بشكل صريح ومكشوف جدًا: فهم يريدون قبل كلِّ شيء أن يخلقوا في أوروبا أيضًا عالمًا باللونين "الأبيض والأسود". ويطالبون بالقضاء على "المنطقة الرمادية". والمقصود بهذا هو القضاء على التعايش بين المسلمين وغير المسلمين. وهدفهم هو الاستمرار في استقطاب أوروبا، على أمل التمكُّن حينئذ من تعبئة المسلمين في أوروبا برسالتهم الداعية إلى الحقد والكراهية.

لقد تمت مناقشة فكرة "القضاء على المنطقة الرمادية" هذه بشكل مسهب وتحت العنوان نفسه في مجلة دابق التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" بعد الهجمات التي استهدفت مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة في شهر شباط/فبراير 2015، أي قبل فترة طويلة من سلسلة الهجمات التالية في باريس في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015 والآن الهجمات الأخيرة في بروكسل. وفي المقال المنشور باللغة الإنكليزية يتم تقسيم العالم إلى معسكرين: معسكر الإسلام بخلافته الجديدة في الدور القيادي و"معسكر الكفَّار" و"الدول الصليبية".

وفي هذا المقال يرد أيضًا اقتباسٌ من أسامة بن لادن، الذي قال ذات مرة إنَّ جورج دبليو بوش كان على حقّ في قوله: "مَنْ ليس معنا فهو ضدنا ومع الإرهابيين"، وذلك لأنَّ بن لادن يرد هنا على جورج بوش مضيفًا: إمَّا أن "تكونوا مع الإسلام أو مع الصليبيين؟".

Cover des IS-Magazins Dabiq
Perfide Strategie der gesellschaftlichen Polarisierung: Anschläge wie in Brüssel oder Paris haben also vorwiegend das Ziel, Europa zwischen Muslimen und Nichtmuslimen zu spalten. Sie sollen die Muslime zu einer Entscheidung zwingen, sich der dschihadistischen Ideologie des IS anzuschließen. Dabei hoffen die Dschihadisten des sogenannten „Islamischen Staates“ auch auf eine europäische Reaktion, die die in Europa lebenden Muslime ausgrenzt, in der Hoffnung, dass diese Muslime sich dann einfacher für den Dschihad rekrutieren lassen.

لا رحمة مع المرتدين

والمسلمون الذين لا ينطبقون مع هذه الصورة و"ينتمون إلى المنطقة الرمادية" يجب - بحسب منطق هذا المقال - أن تتم إبادتهم. وبحسب هذا المقال فقد تم للمرة الأولى جعل هذه "المنطقة الرمادية" غير آمنة قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وفيما بعد تعرَّض تقسيم أوروبا المطلوب مرة أخرى للخطر من خلال الربيع العربي، الذي تم دعمه من قبل المرتدِّين - أي من قبل أشخاص أصبحوا خارجين عن دينهم، ولكن أيضًا من قبل طوائف أخرى أو مسلمين شيعة، مثلما هي الحال في الانتفاضات في البحرين.

ولكن على أبعد تقدير مع ظهور ما يعرف باسم تنظيم "الدولة الإسلامية" والخلافة - مثلما تواصل مجلة "دابق" جدالها - لم يعد يوجد للمسلمين أي عذر لعدم المشاركة في الحرب ضدَّ "الكفَّار". إذ إنَّ تأسيس الخلافة منح كلَّ فرد مسلم الشعور بالانتماء إلى شيء أكبر، حسبما تقول المجلة.

وبالتالي فإنَّ: المسلمين الذين يتعاملون بشكل محايد في هذا الاستقطاب أو يحافظون على استقلالهم عن عقيدة الجهاد، يتم وصفهم في سياق هذا المقال بأنَّهم "آثمون". كما أنَّ مَنْ لم يعتبر نفسه كمسلم بما يتناسب مع مفهوم تنظيم "الدولة الإسلامية" يجب - بحسب تعبير المجلة - أن يتم التعامل معه على أنَّه مرتدٌّ عن دينه.

ولذلك فإنَّ الهجمات مثل التي وقعت في بروكسل أو باريس هدفها على الأغلب تقسيم أوروبا بين مسلمين وغير مسلمين. وهذه الهجمات يفترض أن تُجْبِر المسلمين على قرار اتِّباعهم الإيديولوجيا الجهادية الخاصة بتنظيم "الدولة الإسلامية". وفي ذلك يعقد جهاديو ما يعرف باسم تنظيم "الدولة الإسلامية" أملهم أيضًا على ردة فعل أوروبية، تُهَمِّش المسلمين المقيمين في أوروبا، على أمل أن يصبح حينئذ تجنيد هؤلاء المسلمين للجهاد أسهل.

دعوة عالمية للقتال المسلح

في نهاية شهر أيَّار/مايو 2015 دعا زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" أبو بكر البغدادي في رسالة صوتية المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى تسليح أنفسهم. وفي هذه الرسالة أشار أيضًا إلى آلية بسيطة: فكلما تم تهميش المسلمين أكثر - مثلًا في أوروبا - كلما أصبحوا على استعداد أكثر لاتِّباع إيديولوجيا تنظيم "الدولة الإسلامية".

وفي رسالته قال البغداد إنَّ "الصليبيين يدَّعون أنَّهم ليسوا ضدَّ عامة المسلمين باعتبارهم مسلمين، بل إنَّهم يعملون فقط ضدَّ أولئك المسلحين". غير أنَّ البغدادي أضاف موجِّهًا كلامه إلى المسلمين: "ستشاهدون قريبًا أنَّهم يعملون ضدَّ جميع المسلمين. وعندما يقوم الصليبيون في بلدان الصليب بمراقبة المسلمين، وبإلقاء القبض عليهم والتحقيق معهم، فسوف يبدؤون قريبًا بترحيلهم ويكونوا ميتين ومُعْتَقَلين أو من دون وطن. ولن يتركوا أحدًا يعيش في هدوء، سوى أولئك المسلمين الذين أصبحوا مرتدِّين عن دينهم ويتَّبعونهم".

IS-Führer Abu Bakr al-Baghdadi; Foto: picture-alliance/AP
Wer nicht für uns ist, ist gegen uns: "IS-Führer Abu Bakr al-Baghdadi hatte letzten Mai in einer Audio-Botschaft die Muslime weltweit aufgefordert, sich zu bewaffnen. Dabei hatte er auch auf einen einfachen Mechanismus hingewiesen. Je mehr die Muslime, etwa in Europa, ausgegrenzt werden, desto mehr werden sie anfällig für die Ideologie des IS", schreibt Karim El-Gawhary.

لقد جهَّز مؤلفو هذا المقال المنشور في مجلة تنظيم "الدولة الإسلامية" نتيجة واضحة، تفيد بأنَّ: "في يوم ما سوف تنقرض المنطقة الرمادية، وعندئذ لن يكون هناك أي مكان بعد للألوان الرمادية وحركاتها، بل سيكون هناك فقط معسكر المؤمنين ضدَّ معسكر الكفَّار".

دعم لليمينيين الشعبويين

إنَّ بعض تصريحات وأقوال تنظيم "الدولة الإسلامية" تجد نظيرها لدى الحركات اليمينية الشعبوية الأوروبية، التي تريد بكلِّ سرور أيضًا تقسيم أوروبا إلى معسكرين وتهميش المسلمين باسم إنقاذ الغرب. وبهذا المعنى على الأرجح أنَّ حركة بيغيدا وأتباعها أفضل صديق لتنظيم "الدولة الإسلامية" في أوروبا. وضمن هذا السياق يمكن أن يُقرأ البيان المنشور على شبكة الإنترنت من المهاجم النرويجي والمعادي للإسلام أَنْدِرْس بريفيك كأنَّه تقريبًا بمثابة مقالة جدلية لتنظيم "الدولة الإسلامية" من الجبهة الأخرى في الصراع بين الحضارات.

بعد كلِّ سلسلة من الهجمات في أوروبا، مثلما هي الحال الآن في بروكسل، تتم مناقشة كيف يمكن لأوروبا أن تحمي وتدافع عن نفسها. والآن أيضًا باتت تتم مناقشة إجراءات وترتيبات أمنية جديدة، تعتبر ضرورية، لكنها في نهاية المطاف لن تخلق أيضًا أية حالة أمن وأمان نهائية. وهذه الإجراءات الأمنية بالذات تحتاج إلى دقة وبراعة وإتقان، إذا لم يكن الغرض منها أن تؤدِّي إلى تطرُّف جيل آخر من الشباب المسلمين في أوروبا.

ومع ذلك فإنَّ مهمة أوروبا السياسية تكمن في عدم الانزلاق إلى مصيدة الأسْوَد والأبيض، التي نصبها تنظيم "الدولة الإسلامية" والتي يأمل منها الحصول على غنيمة دسمة من المجنَّدين. وهنا يبقى أفضل علاج مضاد للسموم الإيديولوجية المستخدمة من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية" هو المنطقة الرمادية البغيضة على هذا التنظيم والحيَّة في التعايش القائم بين المسلمين وغير المسلمين.

 

كريم الجوهري

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016