من الديكتاتورية والطغيان إلى "داعش" و "الإخوان"
لكل ثورة طابورها الخامس.
هي طوابير متفرقة بقيادات متعددة، لكنها ذات غاية واحدة: اختراق الثورة ثم السيطرة على قيادة بعض فصائلها حيث تتاح لها الفرص والإمكانات. هذا ما حصل، من تونس إلى سورية. وها هي السنة الثالثة من مسيرة الثورات العربية، ومجاري الدم لا تتوقف، والدمار يزحف على المدن والأرياف، ويحصد عشرات الآلاف، ويشرّد الملايين، فيما «المجتمع الدولي» يستسلم أمام الزعيم الروسي الجديد للشرق الأوسط فلاديمير بوتين، ومعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، معتمداً على الأخضر الإبراهيمي الذي يتنقل طائراً بين القارات، مخلّفاً وراءه علامات الاستفهام.
وفي الوقت عينه تنشر كبريات الصحافة الأميركية خرائط جديدة لإعادة تقسيم الدول العربية، فتبدو حقول ألغام مذهبية جاهزة للانفجار قبل ترسيم حدودها.
إن لم يكن كل هذا الذي يجري منذ ثلاث سنوات مؤامرة، فكيف تكون المؤامرات؟
لقد انتظرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس حتى نهاية عهدها مع جورج بوش الابن لتعترف بأن إدارة الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديموقراطيين مسؤولة، إلى حد كبير، عن استفحال الديكتاتوريات العسكرية التي نشأت في العالم العربي منذ عام 1949. أي بعد تساقط الحكومات العربية المحافظة إثر سقوط فلسطين وقيام دولة إسرائيل.
لكن كونداليزا رايس هي التي ابتكرت استراتيجية «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط. وها هي هذه الاستراتيجية تعمّ البلاد العربية بشطريها المشرقي والمغربي، وها هو باراك أوباما، الرئيس الآتي من جذور العالم الثالث إلى البيت الأبيض، يشرف على المرحلة التي قد تكون ما قبل الأخيرة من مخطط تدمير الدول العربية، تمهيداً لتقسيمها وتنصيب «خلفاء تكفيريين» عليها.
ولعل أوباما قد تأخر نحو خمس سنوات ليكتشف في بداية ولايته الثانية أن حليفه السياسي في الشرق الأوسط هو النظام الإيراني. فكلاهما لا يريد ديموقراطية مدنية تتيح للشعوب التي تحظى بقسط كبير من العلم والطموح أن تنال الحريات والفرص لتمتلك قدراتها وقراراتها.
ومن سوء حظ الشعوب العربية، والشعب الإيراني معاً، أنها ظلّت خارج نطاق ارتدادات الحدث التاريخي الذي أسقط الإمبراطورية السوفياتية في مستهل العقد الأخير من القرن الماضي. ففيما أخذت شعوب منظومة دول أوروبا الشرقية تعزل رؤساءها وتتحرر من حكم المطرقة على الرأس، والمنجل على العنق، لتلتحق بركب العصر الجديد، استمرت الشعوب العربية تعيش على حلم التغيير، وتنتظر فرصها من القدر، وقد داوم معظمها على ملء فراغ البطالة، والساحات العامة، مأموراً بالهتاف تمجيداً للنظام، ودعاء بالموت لإسرائيل وحليفها الشيطان الأكبر في البيت الأبيض.
ويروي سفير سابق في عاصمة عربية أنه خرج ذات يوم مع ضيفه إلى شرفة السفارة المطلة على الساحة الرئيسية في المدينة. كانت الساحة تغصّ بالبشر، وضجيج الهتافات الصاخبة يدوي في أرجاء المكان: «الموت لأمريكا.. الموت لأمريكا».
كان الضيف الزائر سفيراً أيضاً، وقد وقف مع مضيفه العربي يستمعان إلى الهتاف الموحد الذي يتكرر: الموت لأمريكا.
وقال السفير الزائر لمضيفه، وكان معروفاً بظرفه: ما رأيك أن ندعو السفير الأميركي إلى هنا ونقترح عليه أن يقف إلى جانبنا ويعلن باسم بلاده عبر مكبّر الصوت أن سفارتها مفتوحة الآن لمنح تأشيرة إقامة وعمل لمن يطلبها منكم.
وأردف السفير: ترى من يبقى في هذه الساحة هنا؟!
أعجبت الفكرة – الطرفة السفير المضيف فقال لضيفه: دعنا أولاً نسأل الفرّاش في السفارة، فهو من أهل هذه البلاد.
جاء الفرّاش فسأله السفير: هل تحب الذهاب إلى أميركا للإقامة والعمل؟. فتح الفراّش عينيه مندهشاً، ثم تروّى قبل أن يجيب: والله أنا أموت بأميركا.
منذ أواخر القرن التاسع عشر والمواطن العربي المكسور يحلم بالسفر إلى أميركا. فتلك القارة البعيدة، من جنوبها إلى شمالها، تستهوي الفاشلين والطامحين. وقد كانت الولايات المتحدة التي حملت اسم القارة كلها، باب الدخول إلى عالم النجاح، والتقدم، والإبداع. ذلك أنها بلاد الحرية، والفرصة، والنظام، والقانون، وفيها مناخ التسامح، والاندماج... هذه حقيقة لا ينكرها حتى ألدّ أعداء أميركا.
لكن هناك إسرائيل في قلب القدس، وهناك مستوطناتها التي تتغلغل في أحشاء أرض فلسطين. وهناك دائماً من يسكن البيت الأبيض في واشنطن، وأذنه مفتوحة على «تل أبيب».
أوباما يعمل الآن لمستقبله كرئيس سابق للولايات المتحدة الأميركية. صحيح أنه لا يحلم بموقع أعلى من كرسي البيت الأبيض، لكنه يجهد ليستحق بعد انتهاء ولايته الثانية صفة الرئيس الأميركي الذي لم يورط الولايات المتحدة في حروب خارج حدودها. أي أنه يعمل لينجو من لعنة آلاف العائلات التي قد يكون من نصيبها هلاك أبنائها في حروب الآخرين، فضلاً عما يصيب هؤلاء «الآخرين» من موت ودمار.
الشعب السوري، والشعب العراقي اليوم، هما من هؤلاء الآخرين. وأوباما يستحق لعنتهم.
لم يكن الشعب السوري، ولن يكون حتماً، في حالة انتظار الأساطيل الجوية والبحرية، أو الجيوش البرية، لتخلصه من طغيان نظام نشأ، واستفحل، واستمر، وما كان ليستمر، لولا رعاية دولية هي الآن ثنائية بين واشنطن وموسكو، وثلاثية مع إيران، ورباعية مع الصين، ومع مجموعة الدول الأوروبية التي يئست من مساعيها لتغيير لعبة الموت، والتدمير، والتمزيق، في جسد سورية.
منذ البدء، أي منذ الانتفاضة في مدينة درعا (15 آذار/مارس 2011) التي سمتها السلطة «انتفاضة صبيانية» لم يكن في حساب عاقل، أو في حساب أي مواطن، عربي، أو غير عربي، لديه قبس من حس الحرية، والضمير، والأخلاق، والرحمة، أن سورية سوف تبلغ هذه المتاهة الرهيبة.
قد يخطر لمؤسسة إعلام أو أبحاث أن تجري استطلاع رأي حول نتائج «ثورات الربيع العربي»، بدءاً من تونس وصولاً إلى سورية عبر ليبيا ومصر، واليمن، فماذا يمكن أن تكون خلاصة مجمل الآراء؟
صعب الجواب... فالربيع العربي يزهر أيضاً في كهوف الظلام، وفي أقبية قيادات التكفير، والتفجير، والتهجير، حيث تسيل الأموال، وترخص الأرواح، لتنتشر الدعوات إلى الإفناء.
في المقابل هناك في موسكو، وفي طهران طبعاً، وفي الصين، دوائر بدأت تعمل على حسابات إعادة تعمير «سورية الجديدة». يجري ذلك قبل معرفة مصير «سورية القديمة»، تلك التي لم يحن بعد وقت إحصاء أعداد شهدائها وإجراء الكشوفات على ما أصابها، حتى الآن، من دمار، واندثار، طاول تراثها الباهر في تاريخ الحضارات والمدنيات. وأغرب ما في الأمر أن المعلومات والأرقام أخذت تتسرب من مراجع سورية وروسية، وتشير إلى أن الكلفة تقدّر بمئتي بليون دولار. أما من ناحية الزمن، فلن تعود سورية قبل عام 2025 بلاداً قادرة على استرداد أهلها واستعادة دورها المميز في البلاد العربية وفي منطقة الشرق الأوسط.
إنه المثال العراقي يتكرر بعد عشر سنوات من الغزو الأميركي، ولا تزال بغداد أخت دمشق في النكبة. من أجل ماذا؟. من أجل الحفاظ على مقام القائد ودوام رسولية النظام.
ما من أحد في هذا الشرق العربي استطاع أن يكتشف سر ذلك اللغز الديكتاتوري. كان جدار برلين الذي ارتفع بين شرقها وغربها، رمزاً للانفصال بين عالمين: عالم القمع والتخلّف، وعالم الحرية والتقدم، وهو أيضاً، عالم الاستعمار والاستغلال.
لكن، ما إن أخذت المطارق وقبضات الأيدي تضرب ذلك الجدار، حتى بدأت منظومة الامبراطورية السوفياتية تتخلخل. ولم تمض أسابيع حتى انهارت دول تلك الامبراطورية لتنهض الشعوب التي كانت مغيّبة عن دورها، مسلوبة الإرادة والحقوق، والإمكانات العلمية والثقافية، فتستعيد خلال فترة زمنية قصيرة دورها في قارتها الأوروبية وفي العالم أجمع.
إلى ذلك المثال الذي كان يسمى «أوروبا الشرقية» تتطلع الشعوب العربية إلى يوم تتخلص فيه من أباطرتها. ولهذا الهدف انتفضت الملايين في تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية. كانت تلك الملايين مفعمة بالأمل والعزة بالنصر مسبقاً، لكنها ما لبثت أن واجهت ما هو أفظع وأشنع مما كانت تعاني، ولا تزال. فقد ظهرت أمامها وجوه من زمن غابر، مظلم، ضارب في أغوار الفتن، معبأ بالحقد والكراهية، مشحون بشهوة الدم، وكأنها شهوة النعيم في الآخرة..!
لا تريدون الديكتاتورية؟.. هاكم «داعش» و «الأخوان»، فمن ذا الذي أمر بفتح أبواب سورية أمام تلك الجحافل؟
ربما الذي يعرف الجواب يدرك أن المؤامرة بدأت على الربيع العربي يوم أشعل أول شهيد في تونس الثورة المدنية على الحاكم، فبادرت المؤامرة إلى تهريبه، ثم سهلت لـ «جبهة النهضة» أن تحلّ مكانه باسم «الثورة»، وهكذا فعلت المؤامرة في مصر. وحين فشلت بعدما استعاد الشعب المصري ثورته، جنّت المؤامرة وتحالفت مع أعدائها ومع حلفاء النظام السوري لإحباط ثورة الشعب. لكن الشعب السوري لا يزال يقاوم، في الداخل، ومن حيث توافر له مكان، فيما الملايين من أهله تتشرد تاركة خلفها بلاداً عزيزة ما قهرها كمن حكمها باسم الحرية والوحدة والاشتراكية.
وكما سورية، كذلك مصر وتونس وليبيا واليمن... وغيرها. كلها دول وشعوب استهلكت أجيالها واستنفدت مواردها وثرواتها، وهي ترنو إلى الحرية، والديموقراطية و «المدنية».
عزت صافي الإثنين
حقوق النشر: الحياة 2013
عزت صافي الإثنين كاتب وصحافي لبناني