فاطمة الزهراء في لندن
شكّلت فتوى الخميني بشأن سلمان رشدي مرحلة جديدة لوضعية الإسلام في الغرب، وبالأخص في مجالات العمل الإبداعي. وبينما كان التهديد مركّزاً على شخص بعينه في قضية "آيات شيطانية"، فإن أزمة رسوم الكاريكاتور الأقرب وتبعاتها شديدة الدموية، طاولت دوائر أوسع، وتمددت عابرة للحدود من بلد أوروبي إلى آخر، الأمر الذي صنع من الإسلام ما يشبه التابو غير المعلن في الغرب. فالحقول الثقافية والأفراد الناشطون فيها، فرضوا على أنفسهم درجات متفاوتة من الرقابة الذاتية بشأن الجدالات المتعلقة بالإسلام ورموزه، لتفادي مخاطرة الاستهداف.
على تلك الخلفية التاريخية القريبة، قررت سلسلة "سيني وورلد" البريطانية لعرض الأفلام وتوزيعها، وقف كافة العروض المقررة لفيلم "سيدة الجنة" في القاعات الإنكليزية. وجاءت أثار الفيلم الذي يتناول حياة السيدة فاطمة الزهراء، اعتراض عدد من الهيئات الإسلامية في بريطانيا، ووقع أكثر من 120 ألف شخص عريضة تطالب بسحب الفيلم من قاعات السينما.
وكان مبرر الاحتجاج، كما عبّر عنه رئيس مجلس مساجد بولتون، آصف باتيل، هو أن الفيلم يحمل "أيديولوجيا طائفية ويشوه الأحداث التاريخية كما يسيء إلى الشخصيات الموقرة في التاريخ الإسلامي".
ورغم أن الاعتراضات، ومن ضمنها كلمات باتيل المنتقاة بدقة، فقد تقدمت الانتقادات السياسية والتاريخية على الاعتبارات الدينية، ورغم أن الوقفات الاحتجاجية ضد الفيلم لم تجتذب سوى العشرات وكانت سلمية بالكامل، فإن مسؤولي "سيني وورلد" سرعان ما أصابهم الذعر. وفي تبريرهم لقرار وقف العرض، لم يحتو البيان الرسمي على أي إشارة لمضمون الاعتراضات، لا من باب التفنيد ولا القبول، بل اكتفت الشركة بالتأكيد على رغبتها في الحفاظ على سلامة "العاملين والجمهور".
ومع أن المتظاهرين خارج مقر الشركة استقبلوا القرار بهتاف "الله أكبر"، فإن نصه كان إهانة لهم أكثر منه انتصاراً، فاحتجاجهم السلمي تم التعامل معه بشكل آلي بوصفه خطراً أمنياً، أما مبرراتهم فلم تُفحص بالأساس. وعلى مستوى سياسي، انتقد عدد من أعضاء البرلمان والحكومة البريطانيين، من بينهم وزير الصحة ساجد جاويد، قرار "سيني وورلد" باعتباره تهديداً لحرية التعبير وخضوعاً للابتزاز ولثقافة الإلغاء.
أما سلسلة "فيو" المنافسة، فمن جانبها أعلنت مضيّها قدماً في عرض الفيلم كما هو مقرر في قاعاتها السينمائية في لندن وجنوب شرقي إنكلترا، وهو ما حدث بالفعل من دون أي منغصات.
صراع الدولة الإسلامية والحشد الشعبي
يبدأ العرض بتنويهين متتاليين، النص الأول يشير إلى أن الفيلم يدعم التعايش السلمي ويعارض العنف، والثاني يؤكد على احترامه "التقاليد الإسلامية" التي لا تقبل بتأدية ممثلين لأدوار الشخصيات المقدسة.
لكن، ولأن كلاً من نبي الإسلام محمد، وعلي بن أبي طالب، يظهران في الفيلم، فالتنويه يضيف أن ظهور مثل تلك الشخصيات تم تحقيقه على الشاشة عبر "تقنية خاصة" تمزج بين المؤثرات البصرية والصوت ومؤثرات الكاميرا والإضاءة.
وفي الواقع لا يظهر أي توظيف لتقنيات خاصة، فباستثناء فاطمة التي تظهر بظَهرها أو مغطاة الوجه أو في صورة نور، تظهر بقية الشخصيات مع بعض الإضاءة الإضافية على وجوه الممثلين أو باستخدام المرشحات المبيضة للصورة لتضفي ما يشبه الهالة الخافتة على حدود وجوههم وأجسادهم.
"آل البيت يظهرون بوجوه مضيئة وبيضاء ناصعة. أما الأشرار في الفيلم، أي عمر بن الخطاب وأبو بكر وابنته عائشة، فيظهرون ثلاثتهم سود البشرة"
تتبع قصة الفيلم التي كتبها الداعية الشيعي الكويتي المثير للجدل، ياسر حبيب، خطّين: أحدهما من الماضي الإسلامي، والآخر من الحاضر. وتكون نقطة التلاقي في لحظة استيلاء الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية. قصة السيدة فاطمة تروى كحكاية قبل النوم لطفل فقد والدته، بعدما قتلها مسلحو "داعش". لا تروى الجدة التي تبنت الولد، قصة الزهراء، كأمثولة في الصبر فقط، بل كاستمرارية لتاريخ الظلم ورسوخ تقسيمة العالم بين الشر المطلق والخير المطلق.
وفي حاضر الفيلم تمثل "الدولة الإسلامية" الأول، فيما يقف "الحشد الشعبي" في مقام الثاني. بتلك المقابلة الزمنية، يتجاوز التشابه بين الماضي والحاضر مجرد الاستمرار، ليصل إلى حد التطابق شبه الحرفي، فالأم المقتولة تُدعي هي أيضاً فاطمة.
الحس الملحمي الذي وظفه المخرج، إيلي كينغ (ممثل أسترالي من أصل مصري)، لتأطير الأحداث التاريخية، احتوى خليطاً متنافراً من التأثيرات. فمشاهد كدخول الرسول إلى "المدينة"، صُممتْ على نسق مشاهد دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم، فالتأثر بأيقونية أفلام المسيح يظهر بشكل جلي بصرياً، وأحياناً أقل في الصوت. وفي ما يخص مشاهد المعارك الحربية والأزياء وأداء الممثلين، فيقترض كثير من عناصره من أفلام بوليوود حول أساطير الآلهة الهندوسية، وثنائيتها الجذرية بين النور والظلمة.
بشكل حرفي، ساذج ومخز معاً، تلتزم بصريات الفيلم بتلك الثنائية. آل البيت يظهرون بوجوه مضيئة وبيضاء ناصعة. أما الأشرار في الفيلم، أي عمر بن الخطاب وأبو بكر وابنته عائشة، فيظهرون ثلاثتهم سود البشرة. أضافت هذه السقطة الصادمة تهمة العنصرية إلى تهمة الطائفية التي لحقت بصنّاع الفيلم.
بعيداً من فنيات الفيلم شديدة الركاكة، كانت مثيرة مشاهدة فيلم يدور حول التاريخ الإسلامي، ويتحدث ممثلوه بلكنة أحياء المهاجرين في المدن الإنكليزية. يبعث وقع الشريط الصوتي للفيلم على بعض الضحك وكثير من الارتباك.
حقوق النشر: المدن 2022