النظرة العنصرية إلى أطفال غزة الرضع كأعداء

أطفال نازحون في غزة Vertriebene palästinensische Kinder im Gazastreifen
"نحن لن نرى على أية حال حجم المأساة الكامل في غزة إلَّا عندما تنتهي الحرب. وبعد ذلك ستنتظرنا حشود وفيالق من أطفال مصابين بصدمات نفسية ومشوَّهين ومبتوري الأطراف. ولن تكون لدينا أية إجابة"، كما تكتب شارلوته فيدمان. صورة من: Mohammed Abed/AFP

تساهم النظرة العنصرية إلى الأطفال الفلسطينيين في قبول قتلهم بالآلاف في قطاع غزة كما ترى الكاتبة الألمانية البارزة شارلوته فيدمان في تحليلها التالي لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Charlotte Wiedemann

لقد كان ذلك طقسًا احتفاليًا كئيبًا وهادئًا عندما قُرِئَت في برلين أسماء أكثر من عشرة آلاف طفل قتلوا في قطاع غزة. أُقيم حفل التأبين هذا بجانب نصب نويِه فاخِهْ التذكاري -وهو مكان تاريخي لإحياء ذكرى ضحايا الحرب والعنف- ويوجد فيه تمثال بيتا الشهير للفنانة كيته كولفيتس، أي تمثال "الأم الحزينة". واستمرَّت قراءة الأسماء عشرين ساعة حتى إلى ما بعد منتصف الليل.

ليس من السهل قراءة أسماء الأطفال القتلى مع أعمارهم، وأنا لم أشعر بأنني قادرة على تحمُّل ذلك. وبعد أن نشرتُ لاحقًا صورة حفل التأبين على الإنترنت، كانت هناك ردود فعل كهذه: أوَّلًا إنَّ هذا نموذج كلاسيكي معادٍ للسامية لجريمة قتل أطفال، وثانيًا لم يكن هؤلاء القتلى أطفالًا بل إرهابيين ناشئين.

تُمَثِّل حقيقة عدم السماح للأطفال بمغادرة منطقة الحرب في حدِّ ذاتها مسألة غير عادية. فمخيَّمات اللاجئين في العالم تمتلئ بأمهات وأطفالهن يحاولون الهروب من النزاعات المسلحة. ولحسن الحظ فقد وجدت الكثير من النساء الأوكرانيات وأطفالهن ملجأً في ألمانيا.

ولكن على العكس من أوكرانيا فإنَّ المعارك وأعمال الحرب تجري في جميع أنحاء قطاع غزة، حيث يعاني منذ ثمانية أشهر مليون طفل وشاب -منهم ثلاثمائة وخمسة وثلاثون ألف طفل دون سن الخامسة- من التشرُّد والنزوح بحثًا عن ملجأ آمن في منطقة مساحتها أصغر بقليل من مساحة مدينة كولونيا الألمانية. وهذه الأرقام من منظمة اليونيسيف.

Here you can access external content. Click to view.

ألمانيا منهمكة في إجراءات بديلة

والأطفال يُعتبَرون بمثابة مرآة في هذه الحرب وكذلك في غيرها من الحروب، ومعاناتهم تعكس فشل المسؤولين. ليس من السهل قول ذلك. وعلى الرغم من أنَّ السودان مهدَّد حاليًا بأكبر كارثة إنسانية قياسًا بأعداد اللاجئين فإن الألمان متورِّطون في حرب غزة وقد قدَّموا لإسرائيل أسلحة ودعمًا معنويًا.

من الواضح أنَّ دوافع الغرب -إلى إغلاق عينيه عن العواقب- قوية. وبالنسبة للغرب من الأفضل ألَّا يرى الأطفال الذين يمكنه إنقاذهم عندما تقول الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي معًا وبكلِّ وضوح: "هذا يكفي يا نتنياهو" (فعلى أية حال توجد صفقة محتملة مع حماس مطروحة على الطاولة).

ولكن بدلًا من ذلك تنهمك ألمانيا في إجراءات بديلة - هل تتذكَّرون الجرَّاح الفلسطيني غسان أبو ستة الذي يعتبر شاهد عيان على اليأس في غزة؟ والحكومة الألمانية الاتحادية لم تمنع هذا الطبيب من دخول ألمانيا وحدها بل فرضت عليه أيضًا حظر سفر يمنعه من دخول الاتحاد الأوروبي كله. ولكن هذا الحظر لم يصمد أمام المحكمة التي ألغته. وكيف لا؟

وبرأيي إنَّ مَنْ يشكِّك في عدد ضحايا الحرب القاصرين في غزة البالغ أربعة عشر ألفًا أو حتى خمسة عشر ألفًا بإمكانه أن يفعل ذلك. ولكن نظرًا لوجود ثلاثمائة وخمسة وثلاثين ألف طفل تحت سن الخامسة فإنَّ معدل الوفيات هذا لا يبدو لي غير متناسب بعد ثمانية أشهر من التشرُّد بين الأنقاض والركام والقمامة والمعاناة من الإسهال المزمن وسوء التغذية.

وعندما تم إجلاء الأطفال -الذين ترعاهم منظمة قرية الأطفال إس أو إس- من رفح إلى بيت لحم في شهر آذار/مارس 2024 وجلس الأطفال البالغ عددهم ثمانية وستين طفلًا أمام طاولات إفطار الصباح لأوَّل مرة، لم يلمسوا أي شيء على الطاولة، لأنهم لم يكن بإمكانهم أن يُصدِّقوا أنَّ هذا الطعام كله كان موضوعًا لهم وحدهم.

تشريد الأطفال من طفولتهم

ما من شكّ في أنَّ الأطفال اليهود الإسرائيليين يعانون أيضًا من الحرب، وخاصةً هناك حيث تشن حماس وحزب الله هجمات وتدوي صفارات الإنذار كثيرًا. لقد تضرَّرت أرواح الكثيرين من خلال الخوف الذي يشعرون به لدى آبائهم وأمهاتهم منذ السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.

كما أنَّ مشاهدة خوف الوالدين وانعدام الأمن تعتبر تجربة عميقة لكلِّ طفل. والأطفال الفلسطينيون في الضفة الغربية يلقون الحجارة على المركبات العسكرية الإسرائيلية معتقدين أنَّهم يستطيعون بذلك حماية منازلهم وقريتهم. وهذه جريمة يعاقَبون عليها بالسجن لمدة تصل إلى عشر سنين.

يكاد يكون من غير الممكن تصوُّر شعور الطفل الذي ينشأ تحت نير الاحتلال ولا يعرف أي شيء آخر غير الاحتلال. ويوجد من وجهة نظر القومَوِّيِين العِرقيين الإسرائيليين ببساطة عدد كبير جدًا من الأطفال الفلسطينيين - الذين سيشكِّلون من الناحية الديموغرافية في المستقبل المنظور الأغلبية بين النهر والبحر، أي في المنطقة التي أكَّد مؤخرًا وزير الطاقة في حكومة نتنياهو -إيلي كوهين- أنَّه لن يكون فيها سوى "دولة إسرائيل من النهر إلى البحر".

وغالبًا ما يُفضَّل إنكار وجود عنصرية ضدَّ الأطفال، ولكنها موجودة بطبيعة الحال، كما أنَّ العنصرية ضدَّ الأطفال الفلسطينيين لها نوع مميَّز، إذ يُقال عنهم إنَّهم يفتقرون إلى البراءة وإنَّهم خطرون - وكأنَّهم يحملون في داخلهم جينات الإرهاب منذ نعومة أظافرهم أو حتى وهم في سن الرضاعة.

تطلق الفلسطينية نادرة شلهوب كيفوركيان -وهي أستاذة لعلوم الجريمة والعمل الاجتماعي في الجامعة العبرية- على هذه السياسة اسم سياسة "نزع الطفولة"، وهي شكل من أشكال الطرد من الطفولة، وهذا يتَّضح في العدد الكبير من القاصرين المعتقلين في السجون الإسرائيلية.

Here you can access external content. Click to view.

سياسة الاحتلال تُمزِّق العائلات

وفي القدس الشرقية المحتلة كثيرًا ما لا يستطيع الآباء إخراج أطفالهم من السجون إلَّا من خلال الموافقة على وضعهم تحت الإقامة الجبرية. ثم يحدث مثلًا شيء كهذا: يريد إياد البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا أن يفتح النافذة المطلة على الفناء من أجل الحديث مع زملائه، ولكنه يجدها مغلقة بعد أن وضع والده قفلًا عليها خوفًا من انتهاك الأسرة الشروط المفروضة من المحكمة. وهذا الصبي يغضب ويتألم وينقلب ألمه على والديه اللذين يبدوان الآن مثل حرَّاس السجن.

وفي هذا الصدد تكتب الأستاذة نادرة شلهوب كيفوركيان أنَّ تمزيق العائلات يمثِّل جزءًا من سياسة الاحتلال الإسرائيلي. لقد أردتُ زيارتها عندما كنتُ مؤخرًا في القدس ولكن هذه الأستاذة في الجامعة العبرية كانت هي نفسها محتجزة حجزًا مؤقَّتًا لدى الشرطة الإسرائيلية. ونُشر كتابها -الصادر من مطبعة جامعة كامبريدج- الذي يحمل عنوان "الطفولة المُحتجَزة وسياسة نزع الطفولة".

تساهم النظرة العنصرية المُشوِّهة للأطفال الفلسطينيين في قبول موت آلاف منهم في غزة. ثم توجد هنا في ألمانيا عملية توطيد لثقافة العجز الألمانية النموذجية التي تفيد بأنَّ: "هذا كله مُعقَّد جدًا فماذا يمكننا أن نقول"… ولكن ما هو الصعب جدًا هنا في الاحتجاج على موت الأطفال؟ وما هو الصعب جدًا في قول: "هذا القتل يجب أن يتوقَّف فورً؟".

ونحن لن نرى على أية حال حجم المأساة الكامل في غزة إلَّا عندما تنتهي الحرب. وبعد ذلك ستنتظرنا حشود وفيالق من أطفال مصابين بصدمات نفسية ومشوَّهين ومبتوري الأطراف. ولن تكون لدينا أية إجابة.

 

 

شارلوته فيدمان

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2024

Qantara.de/ar