متاجرة بمصير الفلسطينيين
في مدينة زاربروكِن (ساربروكِن) الألمانية خلال شهر رمضان لبَّى الكثيرون دعوة جمعية دارِين غير الربحية المتعدِّدة الثقافات لتناول الإفطار -أي إفطار الصائمين التقليدي بعد غروب الشمس- وكان من بين المدعوِّين أيضاً فلسطينيون جاؤوا إلى قاعة الاحتفالات -في شارع ميرفيزينتال- مباشرةً بعد مظاهرتهم المعتادة يوم السبت في وسط المدينة، وكانت حالتهم المزاجية كئيبة ولم تكن مفعمة بالحيوية، وهذا بعكس ما كانت عليه في الأعوام السابقة خلال الإفطار.
وجرت قبل البدء بتناول الطعام حلقة نقاش أظهرت الإحباط الذي يشعر به الألمان إزاء التغطية الإعلامية الإشكالية التي تعرضها وسائل الإعلام الألمانية للصراع في الشرق الأوسط. والحرب في قطاع غزة تزداد ضراوة وتُشغِل بال الجميع. وكلُّ أسرة فلسطينية في مدينة زاربروكِن فقدت على الأقل فردًا من أفرادها، كما قالت شابة محجبة.
ففي هذا اليوم الذي أقامت فيه جمعية دارين إفطارها الجماعي كان عددُ الفلسطينيين الذين قُتِلوا في قطاع غزة قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف قتيل. صحيح أنَّ هذه الأرقام تُقدِّمها حماس -وهو ما أقر به ضيف مصري- ولكن حتى لو كان عدد القتلى الحقيقي نصف هذا العدد فقط فإنَّ عددهم كبير جدًا. وقال إنَّ من بين القتلى بشكل خاص نساء وأطفال. ولا يمكن -بحسب تعبيره- ترك ذلك من دون نقاش. وتابع قائلًا: "المصريون لا يحبُّون حماس ولكن مَنْ يموتون هناك أشخاص مدنيون وليسوا فقط مقاتلي حماس وحدهم، وهذا بعكس ما يزعم الإسرائيليون دائمًا".
يدفعون أي ثمن بسبب اليأس
وكان يبدو أبو إسماعيل أهدأ قليلًا من الضيوف الفلسطينيين الآخرين في جمعية دارين. ولكنه مع ذلك يتحدَّث عن الدمار الهائل والعدد غير المسبوق من القتلى والجرحى في هذه الحرب الجديدة في غزة. وهو فلسطيني جاء للدراسة في ألمانيا عام 2001 وكان عمره أربعة وعشرين عامًا.
وتخرَّج أبو إسماعيل بشهادة دبلوم إدارة أعمال وحصل على الجنسية الألمانية. وكان يعود في الفترة من عام 2011 وحتى عام 2020 إلى قطاع غزة وقد شهد في ذلك الوقت عملية انتشار قوَّات برية من الجيش الإسرائيلي. ويتذكَّر قائلًا: "لا توجد أية مقارنة مع حرب غزة اليوم".
وعندما أعلنت إسرائيل عن ردها الانتقامي بعد المذبحة التي ارتكبتها حماس -ضدَّ مدنيين إسرائيليين في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023- كان أبو إسماعيل يعي البعد الذي قد يعنيه هذا الرد. وقد أخرج على الفور أفراد عائلته من قطاع غزة وكانوا في ذلك الوقت من أوائل الذين غادروا هذا القطاع المغلق، و"بسعر مناسب" بلغ ستة وعشرين ألف دولار -كما يقول مبتسمًا- خرج من القطاع ستةٌ وعشرون فردًا من أفراد أسرته: والدته وأخوه وأختان وجميع أفراد أسرهم.
أمَّا اليوم -كما يقول- فإنَّ إنقاذ شخص وشراء حرِّيتة من غزة بات يُكلِّف خمسة أضعاف هذا المبلغ وأحيانًا حتى عشرة أضعافه، يضيف أنَّ أحد أبناء عمومته خرج قبل أسبوع من قطاع غزة مقابل اثني عشر ألف دولار، وأنَّ إخراج النساء والأطفال أرخص من إنقاذ الرجال وشراء حرِّيتهم، ويقول أبو إسماعيل "إنَّهم يدفعون خمسة آلاف دولار فقط".
وذكر أنَّ خان يونس -التي تُعَدُّ ثاني أكبر مدينة في قطاع غزة وتعيش فيها عائلته- قد أصبحت جحيمًا بشكل خاص، وأنَّ المعارك العنيفة هناك باتت تهيمن في الأسابيع الأخيرة على عناوين الأخبار الدولية، ولذلك يحاول الفلسطينيون في جميع أنحاء العالم وخاصةً في أوروبا إخراج أقاربهم من القطاع. اعترف أبو إسماعيل أثناء الإفطار في زاربروكن قائلًا: "نعم، هذا اتجار بالبشر ولكنَّ يأسنا يجعلنا نلجأ إلى أية وسيلة ممكنة".
ما قد يدفع مصر لفتح حدودها أمام فلسطينيي غزة
مع تهديد إسرائيل بشن عمل عسكري محتمل يستهدف مدينة رفح -التي بات يقطنها أكثر من مليون نازح- تتعرض مصر لضغوط متنامية لفتح حدودها واستقبال النازحين. فما الذي قد يدفع مصر إلى فتح حدودها أمام الفلسطينيين؟ كاثرين شير والتفاصيل.
اللعب بالأمل
ومن أجل الكشف عن الخلفيات واصلتُ البحث والتقصِّي في القاهرة. يقع مكتب الوكالة التي أخرجت عائلة أبو إسماعيل من قطاع غزة في شارع فرعي متفرِّع من شارع المنطقة السادسة العريض في منطقة مدينة نصر، فهناك يوجد مكتب شركة "هلا للاستثمارات والخدمات السياحية"، وتكشف الطوابير الطويلة أمام المدخل عن أنَّ هذه الشركة ليست شركة سفر عادية.
فشركة "هلا" هي وكالة سفر تُخرِج الفلسطينيين من رفح في قطاع غزة عبر الحدود إلى مصر، وتعلن "هلا" على الإنترنت عن أنَّها "شركة تُقدِّم خدمات السفر والسياحة وخدمة نقل المسافرين "المُهمِّين" VIP لمعبر رفح البري بأفضل الطرق وأحدث وسائل النقل على أعلى درجات الخدمة". وشركة "هلا" كانت تعرض -حتى قبل اندلاع حرب غزة- خدماتها على الفلسطينيين في قطاع غزة وتقوم بترتيب الحصول على أوراق الخروج وتنظيم الخدمات اللوجستية والنقل وحتى توفير الطعام والشراب أثناء الرحلة من الحدود إلى القاهرة.
أمَّا الآن فتجني "هلا" ما يصل إلى مليون دولار – يوميًا، وذلك بحسب تقديرات حديثة من قناة سكاي نيوز التلفزيونية البريطانية.
"يجب عليك الوقوف هنا في الطابور الساعة الثامنة صباحًا من أجل الحصول على رقم"، كما يقول شخص فلسطيني ينتظر هنا وقد تمكَّن بنفسه قبل بضعة أيَّام فقط من مغادرة قطاع غزة ويريد الآن إخراج أسرته. ويضيف: "ثم يُسمَح لك بالصعود إلى الطابق الرابع وتسجيل أسماء أقاربك".
هجوم رفح يرفع الأسعار
وبعد التحقُّق من البيانات الشخصية يُدخِلون مُقدِّم الطلب ليدفع المال وتوضَع أسماء أقاربه على قائمة في معبر رفح الحدودي ليتم تقديمها عند المغادرة للمسؤولين هناك. ويقول هذا الفلسطيني الذي خرج مؤخرًا من قطاع غزة ويقف في طابور الانتظار إنَّه دفع مقابل سفره عشرة آلاف دولار.
وبحسب تعبيره: "تختلف الأسعار من يوم لآخر وهذا يعتمد أيضًا على البقشيش (الرشوة) الذي يجب دفعه أيضًا لموظفي الحدود". وكلما زادت الآن معاناة الفلسطينيين في مدينة رفح الحدودية ازداد الطلب على السفر خارج القطاع وارتفعت بالتالي الأسعار.
وأخبرَنا شهود عيان أنَّ الجيش الإسرائيلي جهَّز كلَّ شيء من أجل الهجوم على رفح. وفي يوم الإثنين (السادس من أيَّار/مايو 2024) أمر الجيش الإسرائيلي نحو مائة ألف شخص موجودين في الجزء الشرقي من رفح بالانتقال إلى مخيم المواصي الذي يقع على البحر الأبيض المتوسط على بعد بضعة كيلومترات نحو الشمال.
وفي حال هجوم إسرائيل على رفح فسيكون مليون ومئتا ألف فلسطيني في خطر شديد. وذلك لأنَّ الكثيرين قد نزحوا مع بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي من شمال قطاع غزة ووسطه إلى الجنوب الذي كان يُفترَض أنَّه أكثر أمانًا.
وحتى الجيش الإسرائيلي كان قد طلب من الناس في بداية حربه ضدَّ حماس الهروب إلى الجنوب. ولكن الجيش الإسرائيلي أصبح يستهدف بعد نحو سبعة أشهر من المعارك الشديدة أيضًا جنوب القطاع وخاصةً مدينة رفح الواقعة على الحدود مع مصر، لأنَّه يفترض أنَّ آخر كتائب حماس قد تحصَّنت فيها بالإضافة إلى العقل المدبِّر لهجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقائد حماس في قطاع غزة: يحيى السنوار.
السماح للمواطنين الألمان بمغادرة غزة
والمعابر الحدودية في قطاع غزة مغلقة فعليًا منذ أن اجتاحه الجيش الإسرائيلي، سواء المؤدِّية إلى إسرائيل أو إلى مصر أيضًا. فالقاهرة تريد تجنُّب نزوح الفلسطينيين إلى مصر بأي ثمن، كما أنَّ مساعدات الإغاثة القادمة من مصر لا تصل إلى قطاع غزة إلَّا بعد موافقة السلطات الإسرائيلية على سلامتها.
وتقوم المنظمات الدولية بتحميل مساعدات الإغاثة على شاحنات من ميناء العريش المصري الواقع على البحر الأبيض المتوسط في شمال سيناء أو من المطار هناك وتنقلها من هناك حتى الحدود إلى قطاع غزة. وكثيرًا ما تقف الشاحنات هناك لعدة أيَّام قبل حصولها على الضوء الأخضر لدخول القطاع. ويصل إلى مصر عبر الحدود موظفو منظمات الإغاثة المصابون إصابات خطيرة والأشخاص الذين يحملون جنسيات أجنبية والمصابون بجروح خطيرة، حيث يتلقُّون العلاج أيضًا في مستشفى في العريش.
هذا وقد تمكَّنت ألمانيا خلال الأشهر الأخيرة من إخراج العديد من مواطنيها من جحيم غزة إلى بر الأمان. وكان معظم المغادرين في معبر رفح الحدودي يحملون جوازات سفر ألمانية. وكذلك تمكَّن من مغادرة قطاع غزة موظفو المنظمات الألمانية مثل جمعية التعاون الدولي GIZ، وهي منظمة فرعية تابعة لوزارة التعاون التنموي الألمانية. وهذا إجراء مُعقَّد بحسب ما ورد من مصادر السفارة الألمانية في القاهرة.
يتولى مكتب دبلوماسي تمثيلي في رام الله تسجيل المواطنين الألمان الراغبين في السفر من قطاع غزة. ويبدأ بعد ذلك التحدِّي بالنسبة للسفارة الألمانية: إذ يجب الحصول على موافقة الجانب الإسرائيلي وحماس وأخيرًا موافقة السلطات المصرية.
وبعد إدراج اسم الشخص على قائمة المغادرة يجب على أحد موظفي القنصلية الألمانية في القاهرة أن يسافر إلى سيناء في رحلة تستغرق نحو ثماني ساعات حتى يصل إلى الجانب المصري من معبر رفح الحدودي لاستقبال الشخص المغادر من قطاع غزة.
ويُسمح بعد ذلك للشخص المغادر بالبقاء في مصر لمدة اثنتين وسبعين ساعة قبل سفره إلى ألمانيا. فمصر تريد التخلص سريعًا من جميع المواطنين الأجانب المسافرين من قطاع غزة ولذلك يجب على السفارة الألمانية ضمان مغادرتهم مصر فعليًا.
"مَلِك المعبر الحدودي"
غير أنَّ ترتيبات السفر عبر وكالة "هلا" تسير بشكل مختلف. فمَنْ دفعوا المال فبإمكانهم البقاء في مصر ولكن فقط بشكل غير قانوني ومن دون أوراق. وهذا يُعَدُّ بمثابة منطقة رمادية يُتسامَح معها ضمنيًا. وفي هذا الصدد كشف مصدرٌ مطلع -لا يرغب في ذكر اسمه- عن أنَّ المصريين يسيطرون تمامًا على التجارة بمصير الفلسطينيين. ويقوم حرَّاس حكوميون أمام مكتب "هلا" بتسجيل كلِّ حديث يجريه الأشخاص المنتظِرون.
وادَّعى هذا المصدر أنَّ حماس أيضًا كانت قد حاولت مؤخرًا المشاركة في الأرباح الواردة من الفدية التي يدفعها الغزيون مقابل شراء حرِّيتهم للخروج من قطاع غزة، ولكن المصريين أغلقوا الحدود بسرعة حتى اضطرت حماس إلى التراجع عن ذلك.
والعقل المدبِّر الذي يقف وراء شركة هلا هو شخص اسمه إبراهيم العرجاني، وهو رجل أعمال مشبوه وصفه موقع مدى مصر -الذي يُعتَبَر المنصة الإعلامية الناقدة الوحيدة المسموح بها في مصر المحكومة حكماً مستفرِداً بالسلطة- بأنَّه "مَلِك المعبر الحدودي". وكشفت صحيفة "مدى مصر" الإلكترونية التي كثيرًا ما ينتهي المطاف بمحرِّريها إلى السجون المصرية أنَّ اتصالات إبراهيم العرجاني تصل إلى أعلى المستويات حتى حاشية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
لقد لعب إبراهيم العرجاني دورًا رئيسيًا عندما كانت القيادة في القاهرة مهدَّدة بفقدانها السيطرة على سيناء بعد المظاهرات الحاشدة في عام 2011 والإطاحة بالرئيس حسني مبارك الذي حكم مصر فترة طويلة. وعندما انضم الجهاديون في سيناء إلى تنظيم الدولة الإسلامية داعش في عام 2014 أصبح ولاء القبائل المحلية مسألة مركزية بالنسبة لنظام السيسي.
وفي ذلك الوقت وضع إبراهيم العرجاني نفسه على رأس تحالف أسَّسه من عدة قبائل واسمه "اتحاد قبائل سيناء"، وأقام في عام 2017 ميليشيا تدعم الجيش المصري في حربه ضدَّ الإسلامويين المسلحين. والآن أصبحت مجموعة إبراهيم العرجاني حاضرة في كلِّ مكان في مصر.
فهي تعمل في تطوير العقارات على نطاق واسع وتتولى نقل شحنات المساعدات إلى قطاع غزة وتدير شركات أمنية. ولكن على الأرجح أن يكون عملها الأكثر ربحًا في الوقت الحالي هو التجارة باللاجئين. وهي تجارة عديمة الضمير بيأس الناس المحاصرين في قطاع غزة.
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024