"شياطين قرقوش" ومتاعب مسيحيي العراق
أصبحت بلدة قرقوش (بخديدا أو بغديدا أو قره قوش أو الحمدانية) منذ أن استولت عليها ميليشيات تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي مُدَنَّسةً ومليئة بالشياطين، كما يقول الكثير من أهالي هذه البلدة المسيحية في شمال العراق. وأحد هؤلاء الشياطين -بحسيب تعبيرهم- هو سلوان موميكا الذي أحرق بشكل علني في شهر حزيران/يونيو 2023 بعض صفحات من القرآن في ستوكهولم وأثار بهذا العمل ضجة عالمية. وُلِد سلوان موميكا هنا في قرقوش التي يقول عنه أهلها إنَّه ضَلَّ عن الطريق الصحيح وترك زوجته وأولاده ووالديه وهرب.
"مُرتَد ومجنون ومضطرب": هذه هي الصفات التي يصف بها أهل قرقوش ابنهم الضال. أراد قبل فترة غير بعيدة فريق تلفزيوني سويدي زيارة بلدة قرقوش ولكن الناس منعوا الصحفيين من دخولها عند نقطة التفتيش. لقد جلب ما يكفي من الشؤم إلى البلدة، كما يقول البعض. بينما يُقلل الآخرون من أهمية أعمال تدنيس سلوان موميكا للمصحف. ويقولون إنَّ لديهم همومًا أخرى. لقد خرج (سلوان موميكا) عن المسيحية حتى قبل سفره إلى السويد، كما تقول جارة سابقة لا تريد ذكر اسمها.
وتضيف أنَّه يحتقر جميع الأديان وأنَّ والديه غادرا العراق بسبب شعورهما بالخجل والعار وزوجته انتقلت مع أطفالهما إلى بيت والديها. فقد كانت توجد تهديدات بالقتل. ويقول أحد المارة بغضب وهو يسمع حديثنا: "هو لا يفعل لنا أي معروف بأفعاله. فنحن من دونه أصلًا تحت الضغط ولا نحتاج إلى أفعاله أيضًا".
حفل زفاف يتحوَّل إلى مأساة
وتسعى السويد الآن إلى ترحيل سلوان موميكا ومن المحتمل إعادته إلى العراق في حال عدم وجود بلد آخر يستقبله، كما يقول المتحدِّث باسم سلطة الهجرة في ستوكهولم. ولكنه مهدَّد في العراق بالتعرُّض للقتل من قِبَل حشود المسلمين الغاضبين وبالسجن من قِبَل المتشدِّدين الشيعة والتعذيب، بل وحتى بالقتل. ولذلك فقد تقدَّم هذا الرجل المنحدر من قرقوش بطلب استئناف ضدَّ قرار سلطة الهجرة.
تقع قاعة الحفلات في وسط البلدة بالقرب من كنيسة مار بهنام وسارة للسريان الأرثوذكس، والتي أقيمت في برجيها المميَّزين صلبان حمراء اللون مبنية في واجهات البرجين وتتم إضاءتها أثناء الليل. لقد أعيد افتتاح الكنيسة قبل سنة واحدة فقط بعد أن دمَّرها تمامًا تنظيم الدولة الإسلامية داعش.
وكانت قرقوش طيلة ثلاث سنين تحت سيطرة الجهاديين وكانت جزءًا من دولة الخلافة التي أسَّسها تنظيم الدولة الإسلامية في شمال العراق وشمال شرق سوريا. وصحيح أنَّ سكَّان هذه البلدة المسيحية قد تمكَّنوا جميعهم تقريبًا من الفرار عندما كان المتطرِّفون المتوحشون يزحفون إليها في شهر آب/أغسطس 2014، إلَّا أنَّ مقاتلي داعش استولوا على منازلهم ونهبوا ما فيها تاركين وراءهم أثناء انسحابهم أرضًا محروقة.
ولم تسمح عملية إعادة الإعمار بعد عام 2017 في أكثر الأحيان بالتعامل بشكل دقيق مع مواد البناء وكان المال قليلًا وقد تم تجاهل تعليمات الأمن والسلامة. ولهذا السبب فإنَّ حدوث حرائق في المستشفيات وغيرها من المباني العامة ليس أمرًا نادرًا.
واستخدمت أيضًا مواد بناء رخيصة في بناء قاعة الحفلات في قرقوش، وبسرعة اشتعلت النيران في الديكورات البلاستيكية على سقف القاعة وحوَّلت حفل زفاف في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي 2023 إلى جحيم. وتم تأكيد وجود أكثر من مائة حالة وفاة وأكثر من مائتي جريح. فقد احترقت القاعة بالكامل وهي الآن بمثابة نصب تذكاري مُتفحِّم.
أرض محروقة
هذا الجحيم لا يتوقَّف، كما يقول نوري ردًا على كارثة الحريق الأخيرة في بلدة قرقوش التي يطلق عليها العرب اسم الحمدانية ويسميها الأهالي المحليون بغديدا، وهو اسم سرياني آرامي أمَّا قرقوش فهو اسم تركي. وأيضًا تنظيم داعش -كما يسمون تنطيم الدولة الإسلامية هنا- أحرق كلَّ شيء خلال انسحابه. واحترق منزل نوري ومتجره وكلُّ شيء - سبعون في المائة من جميع المباني احترقت. وكلفته إعادة البناء أربعين ألف دولار أمريكي، كما يقول نوري، وهو رجل في منتصف الأربعينات من عمره، ولديه متجر يعتبر من أفضل المتاجر في البلدة ويعرض فيه بضائعه بفخر.
ويمكن الحصول هنا على كلِّ شي ومن دون قيود. ويقول نوري إنَّ المنظمات الدولية قدَّمت مساعدات وخاصةً من الغرب. وهو شخصيًا لم يحصل على أية مساعدات لإعادة البناء لأنَّ عملية تقديم الطلبات كانت معقدة للغاية، كما يقول: ولكن الأشخاص الذين كانوا قادرين على ملء الاستمارات وكتابة الطلبات حصلوا على مبالغ كبيرة. واستغل البعض الوضع بشكل تام وفتحوا محلات وأرسلوا صورًا جميلة إلى المموِّلين ثم باعوا هذه المحلات بأسعار مرتفعة. ونوري يصف هذا العمل بأنَّه فساد.
حكمت في بداية أيلول/سبتمبر 2023 المحكمة الاتحادية العليا في العراق بدستورية قرار حظر الكحول الذي أقرَّه البرلمان العراقي في الربيع ليُطبَّق في جميع أنحاء العراق. ورُفِضَت شكوى الطعن المقدَّمة من قِبَل النوَّاب المسيحيين. من المعروف أنَّ إنتاج وبيع الكحول في العراق مسموح فقط لغير المسلمين. وقد أصبح ذلك مصدر رزق وخاصةً بالنسبة للمسيحيين. وهذا يمثِّل شيطانًا آخر بالنسبة لقرقوش.
رسالة أمل لمسيحيي بلاد الرافدين
لعل جهود العراق في إعادة بناء كنائس -دمرها تنظيم "الدولة الإسلامية"- تبعث رسالة أمل لمسيحيي العراق للعودة لديارهم والشعور بأمان بلادهم. ريبورتاج يوديت نويرينك.
نصف السكَّان فقط عادوا إلى قرقوش
تقول الروايات إنَّ المسيحية وصلت إلى سهل نينوى في نحو عام أربعمائة - وكذلك إلى بغديدا الواقعة على منتصف الطريق تقريبًا بين الموصل ومدينة أربيل الكردية. ويعود أوَّل ذكر لبغديدا كمكان يسكنه المسيحيون إلى القرن السابع. وبعد أربعمائة عام جاء إلى هنا الكثير من اللاجئين القادمين من تكريت هربًا من إجبارهم على اعتناق الإسلام.
لقد رسَّخت الكنائس السريانية الأرثوذكسية وجودها هنا. وبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 أصبح المسيحيون في الموصل وسهل نينوى وكذلك في بغديدا هدفًا لجماعات إرهابية إسلاموية. لقد تضاعف عدد سكَّان قرقوش من عشرين ألف نسمة إلى أكثر من أربعين ألفًا وصارت ملاذًا آمنًا للمسيحيين في العراق. حتى جاء إليها تنظيم الدولة الإسلامية داعش.
لقد قام ماتي -اسمه الحقيقي ماتياس- بتوثيق كلِّ شيء؛ وافتتح هذا الصحفي والمصوِّر أرشيفًا يحتفظ فيه بصور من جميع الفترات الزمنية. ومنح كلّ منزل رمزًا ليوضح كيف كان شكله قبل تنظيم داعش وبعده. وعلى حدّ علم ماتي فإنَّ نصف أهالي بغديدا فقط عادوا إليها حتى الآن: أي خمسة وعشرين ألف شخص، والآخرون هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وأوروبا. ولا يزال اتجاه مغادرة البلدة والعراق مستمرًا. فقد غادر ثلثا المسيحيين ديارهم منذ عام 2003. وبإمكاننا هنا الحديث عن هجرة جماعية.
سوق داعش في الموصل
ويقول ماتي: "باع الجهاديون أغراضنا في سوق داعش في الموصل وكسبوا منها المال". وعندما عادت العائلة من المنفى في لبنان لم تكن هناك أية حيوانات في المزرعة التي يديرها ابنه ميكائيل الآن؛ وتم إحراق ثمانمائة شجرة زيتون. ويضيف أنَّه يُعيد بناء كلِّ شيء ببطء ويُربِّي العجول والإوز والدجاج. ومع ذلك فهو لا يستطيع بعد إطعام عائلته، مثلما يقول ميكائيل مشيرًا إلى كمية علف الحيوانات القليلة التي استطاع شراءها. ويخبرنا أنَّ والدته وأخواته يكسبن المال حاليًا من عملهن في صالون الحلاقة الخاص بهن.
وبالعودة إلى كنيسة مار بهنام وسارة، حيث لا يزال يوجد عمود مدمَّر في ساحة الكنيسة الأمامية ويفكِّر المعنيون في تركه كما هو كشاهد على ما حدث. ويوجد كشك حراسة أمام بوابة الدخول. ونشاهد على الزي العسكري الذي يرتيه رجل قوي البنية شعارًا يحتاج بعض الشرح. "ميليشيا مسيحية"، كما يقول هذا الرجل بهدوء: "لواء بابل التابع لريان الكلداني". ويضيف أنَ لديه شعارًا آخر أيضًا.
ويُخْرِج رجل الميليشيات من جيب صدره شعارًا ثانيًا يشبه شعار الحزب الآشوري الديمقراطي الذي يبدو مثل عين مُجنَّحة. ويقع مكتب هذا الحزب المسيحي مقابل الكنيسة بشكل مائل. يشرب عماد باباوي الشاي ويبدو عليه القلق، ويقول إنَّ ميليشيا "قوَّات سهل نينوى" قد تأسَّست في عام 2015 من أجل محاربة داعش. وأسَّسها في ذلك الوقت النائب في البرلمان العراقي يونادم كنا، الذي أراد ميليشيات مسيحية مستقلة غير عاجزة عن الدفاع عن نفسها في مواجهة مسلحي داعش.
وهكذا فقد انضم ستمائة رجل إلى هذه الميليشيات، كما يقول الرجل: ولكن بعد ذلك جاء شخص آخر هو ريان الكلداني واختطف الميليشيات واستبدل قياداتها وعرض على رجال الميليشيات المزيد من المال ودمجهم في قوَّات الحشد الشعبي الشيعية، التي دعا إلى تأسيسها مراجع شيعة من أجل حماية العتبات والأماكن المقدَّسة الشيعية ومحاربة تنظيم داعش. وقامت إيران المجاورة بتدريب أفراد هذه الميليشيات ودفعت رواتبهم.
ويقول عماد باباوي مُعلقًا على التطوُّرات الأخيرة: "السؤال الآن هو : مع إيران أو ضدَّها". ويقف على الجانب الآخر -كما يقول- الأكراد الذين يتنافسون أيضًا من أجل كسب تأييد المسيحيين ويعدونهم بمزيد من النفوذ السياسي إذا وقفوا إلى جانب الأكراد. "لكننا نريد أن نبقى مستقلين"، كما يقسم مُتوسِّلًا مسؤول فرع بغديدا في الحزب الوطني الآشوري: "وإلَّا فإنَّنا سنفقد دماء شعبنا". غير أنَّ الشياطين تواصل خرابها وفسادها في قرقوش.
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
Qantara.de/ar