الثورة الحقيقية هي تحرير للعقول وقطيعة مع النظم السلطوية
نحن الآن في مكتبك الواقع في مكتبة الإسكندرية، قرب المكان التي كانت توجد فيه مكتبة الإسكندرية القديمة المشهورة عالمياً. ماذا يعني العمل في هذا المكان التاريخي بالنسبة إليك؟
عندما بدأتُ بكتابة أطروحة الدكتوراة هنا في الإسكندرية، بدأ في الوقت ذاته الحديث عن بناء مكتبة جديدة، في الموقع نفسه الذي كانت فيه مكتبة الإسكندرية القديمة المدمَّرة. وكان بإمكاني النظر من سطح مبنى الجامعة إلى الساحة التي كان مخططاً للمكتبة أن تُبنى فيها. أهمية هذه المكتبة تتجاوز مجموعة الكتب التي تضمها. إنها مركز للفكر والفلسفة والعلم. أنا بدأت العمل في المكتبة عندما كانت قيد الإنشاء، كمستشار في مجالات الإرث الحضاري والمخطوطات، وفي الوقت ذاته كنتُ أساهم في بناء حلم، لأن هذا لم يكن مجرد إعمار مبنى أو مكتبة، بل حلماً في إحياء الروح الحرة والعالمية في الإسكندرية.
كيف كان شكل الإسكندرية في الماضي؟
عندما كنتُ طفلاً، كان يعيش هنا الكثير من اليونانيين والإيطاليين، الذين كانوا جزءاً من مجتمعنا. بعض أصدقائي تزوجوا فيما بعد مِن نساء إيطاليات ويونانيات، ولم يشكل هذا مشكلة قط. ثم جاءت ثورة عام 1952 التي كانت مصيبة، لأن الجيش يفهم فقط في أمور الحرب، وعقليته تتمحور حول الدفاع عن حدود البلاد ضد غزو الأعداء. ولكن حكم الجيش للبلد يشكل دائماً كارثة بالنسبة لهذا البلد.
الجيش يمسك اليوم أيضاً بزمام السلطة في مصر. ما الذي يُميِّز ثورة 25 يناير 2011 عن ثورة عام 1952؟
إنها أول ثورة حقيقية في مصر. ثورة عام 1952 لم تكن ثورة، بل انقلاباً عسكرياً. ما نحن بصدده الآن لم يحدث أبداً في تاريخنا، لأنَّ ما حدث بدأ كحراك في المجتمع. لقد حصل الكثير في مصر منذ يناير 2011، وتأثير الثورة يظهر على عدة مستويات، في الحياة اليومية، وفي علاقات الناس بين بعضهم البعض، وفي الشوارع. كل المناحي تأثَّرت. الثورة ليست بالشيء الصغير، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل، لأن الجيش لا يزال يحكم، ولأن الكثيرين من ممثلي النظام القديم ما زالوا يزاولون نشاطاتهم.
كيف تنظر إلى الوضع في البلاد حالياً؟
الوضع حرج جداً، ولكنَّ كثيراً من الأشياء تعتمد على تصرفاتنا وعملنا والخطوات التالية التي سنتخذها. المصريون والمصريات يعملون بجد من أجل بناء مستقبلهم. أنا أساهم في ذلك من خلال مقالاتي الأسبوعية، والحوارات على فيسبوك، والندوات، ومن خلال رواياتي وكتبي الأكاديمية. والانتخابات التشريعية كانت خطوة واحدة من خطوات كثيرة.
لأي حزب صوتَّ أنت؟
أنا أعطيتُ صوتي لليبيراليين. لكن ليس لدي أية مشكلة مع الإسلاميين. فأنا أبحث في مجال الإرث الحضاري، وهذا المنهج العلمي لا يناسب تفكير الإسلاميين، ولكنهم ليسوا أعدائي. الطريق الليبيرالية هي ليست الطريق الوحيدة، ولكنها أفضل الطرق من أجل إحراز التقدم سريعاً. في كتابي "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، أعرض كيف أن اللاهوت الإسلامي مبنيّ على اللاهوت المسيحي، وأنه كذلك متصل بالأفكار اللاهوتية اليهودية. الاعتقاد السائد يقول بأن القرآن مُنَزَّل، لكنَّ اللاهوت نفسه ليس منزلاً، بل هو من صنع المفكرين المسلمين، وهو ليس نقياً بالدرجة التي يتصورها الكثير من المسلمين.
بعد أن نشرتَ عدداً لا يُحصى من الكتب الأكاديمية، نشرتَ كتاب "عزازيل" الذي حقق نجاحاً كبيراً في المبيعات. ما الذي دفعك لكتابة الأدب؟
لم يكن هذا قراراً واضحاً من جانبي، فأنا أعمل منذ فترة طويلة على إزالة الحدود في داخل الإرث الحضاري، وكذلك الحدود بين الصوفية وتاريخ العلوم. وعندما كنتُ بصدد تأليف نظرية في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، نصحني معلم لي بأن أحاول التعبير عن أفكاري هذه فنياً، إما عن طريق كتابة قصيدة أو قصة أو رواية، وذلك لدعوة القراء إلى التمعن في هذه الأفكار. فكرة معلمي هذه أعجبتني، وهكذا قمتُ بكتابة أول رواية لي بعنوان "ظل الأفعى".
الكثيرون من أصدقائي وزملائي صُدِموا من هذا وسألوني مرتاعين مما فعلته، قائلين إنني نشرت العديد من الأبحاث العلمية الناجحة، ومتسائلين عن هدفي من وراء هذه الرواية. هذه الرواية حققت مبيعات عالية. ومن ثم جاء كتابي الجديد "عزازيل" الذي لم أستطع إلا نشره كرواية. لقد كنت في حاجة إلى الخيال وقوة المجاز، وبهذا كان بإمكاني أن أصل إلى شريحة أكبر من القُرّاء وليس فقط إلى القراء الأكاديميين، الذين يقرؤون كتبي عادةً.
رواية "عزازيل" تضع علامات الاستفهام على موازين السلطة، وهذا لم يكن ممكناً في مصر حتى قبل فترة قصيرة من الزمن. هل غيّرت الثورة الناس أنفسهم؟ هل أحدثتْ ثورة في عقليتهم؟
بالتأكيد. لقد حدث انقلاب في تفكير الناس وتصرفهم، وذلك بعد كل هذه السنين من التعليمات والإجابات وموقف السلطة من الشعب، السلطة التي كانت تريد إقناع المواطن بأنه لا ينبغي أن يستخدم تفكيره، بل أن السلطة تفكر بدلاً عنه في الأمور السياسية والدينية. كل كتبي تعالج موضوع طرح الأسئلة. لأن طرح الأسئلة هو بداية العلم وبداية المعرفة. ونحن يجب علينا أن نطرح الأسئلة ذات المعنى العميق، عن أنفسنا وعن وجودنا. علينا أن نبحث عميقاً.
رواية "عزازيل" تتخذ منهجاً تنويرياً...
...وهو منهج ناجح جداً. وهذا يعني أنه يمثل جانباً خفياً من مصر. لقد كان الكُتّاب يشكون لفترة طويلة، مِن أنّ الناس في بلادنا لا يقرؤون الكتب، ولكن هذا تغير الآن.
أصبح للقراءة شعبية الآن. لماذا؟
هناك عدة أسباب. النقاشات السياسية والأدبية الواسعة في الإنترنت ساهمت بشكل كبير في هذا الموضوع. في الآونة الأخيرة ازدادت السلطات السياسية ضعفاً، والناس يحاولون أن يجدوا مخرجاً من البؤس، ولذلك يحاولون أن يزيدوا من مستوى الوعي لديهم عن طريق القراءة. وهم لا يقرؤون الروايات فقط، فالكتب الأكثر مبيعاً في مصر هي دراسات اجتماعية وكتب عن الإرث الحضاري، وكتب مسلية مثل "تاكسي... حواديت المشاوير" لخالد الخميسي، أو رواية "عزازيل". ولكن كتاب السيرة الذاتية للفائز بجائزة نوبل للكيمياء، المصري أحمد زويل، حقق أيضاً مبيعات عالية.
هل مهَّد الكُتاب الطريق للثورة؟
أدب المدونات ناجح جداً، لأن الناس يريدون معرفة كل شيء. ولكن هذا النوع من المعرفة كالوميض، ليس مُستداماً. لكنني في اعتقادي أن أي نوع من الأدب يساهم في تثقيف الناس وزيادة معرفتهم عن أنفسهم وعن الغير. ومن الرائع أن تشجع الناس على القراءة. أنا مثلاً أدير صالونين ثقافيين في كل من القاهرة والإسكندرية، وهناك إقبال كبير عليهما، خاصة من قبل الشباب. وهذا شيء يسعدني كثيراً، لأن الشباب هو المستقبل.
أجرَت المقابلة: سوزانه شاندا
ترجمة: نادر الصرّاص
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012
وُلِد يوسف زيدان عام 1958، وهو أستاذ في الفلسفة الإسلامية ومتخصص في الصوفية. كما أنه أيضاً مدير قسم المخطوطات التابع لمكتبة الإسكندرية. وبالإضافة إلى العديد من المنشورات العلمية، نَشَر يوسف زيدان العديد من الروايات، ومنها رواية "عزازيل" التي تُرجِمَت إلى إحدى عشرة لغة، وفازت عام 2009 بالجائزة العالمية لآداب اللغة العربية، وجائزة بوكَر العربية.