من حلب الشهباء إلى حلب "الحمراء" - سوريا التاريخ و"التتر" الجدد
السيد كنوست، وفقا لتقارير إعلامية متطابقة، فقد جرى، في نهاية سبتمبر/ أيلول، تدمير أجزاء كبيرة من سوق المدينة في حلب جراء حرائق نشبت فيها. هل لديك مزيد من المعلومات حول حجم الأضرار؟
شتيفان كنوست: تشير تقارير شهود العيان إلى دمار واسع لحق بأجزاء كبيرة من السوق (سوق المدينة). ولكن المعارك حول السوق في حلب مازالت مستمرة. وقد يشير ذلك إلى وجود مجموعات الثوار منذ بعض الوقت في السوق ذاتها. علينا أن نتوقع، للأسف، أن أجزاء كبيرة من السوق قد دُمرت أو سوف تُدمر.
لقد جرى في عام 1986 وضع المدينة القديمة في حلب على لائحة مواقع التراث العالمي. سوق المدينة التاريخي كانت حتى الآن تعتبر واحدة من أشهر الأسواق في كل أنحاء المنطقة. ما سر هذا التفرد؟
كنوست: السوق الكبيرة المغطاة، التي نراها اليوم تعود في معظمها إلى العصر العثماني. ففي القرن السادس عشر قام بعض الولاة وأحد الوزراء بتصميم السوق بشكل جديد كليا. مع استثمارات في المجموعات الوقفية والمساجد، ونُزُل المسافرين، وأيضا هذه السوق المترامية الأطراف المغطاة.
وهذا يدل على الازدهار الكبير للمدينة خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. حيث كانت حلب مركزا تجاريا متعدد الأديان ومتعدد الثقافات. كان هناك العديد من التجار الأوروبيين، وتجار من إيران والهند استقروا آنذاك في حلب. كما كانت هناك قنصليات وغرف تجارة أوروبية اتخذت من النُزُل (الفنادق بمفهوم ذلك الوقت) مقرا لها، وحتى أن بعضها مازالت موجودة إلى يومنا هذا.
ولكن ما يميز حلب عن بقية المدن القديمة الأخرى، وخاصة في أوروبا، هو الاستعمال المستمر حتى يومنا هذا. فالسوق القديمة يجري استخدامها، بدون انقطاع تقريبا، منذ العصور الوسطى. ورغم أن كثيرا من السياح قد زاروا المدينة القديمة، قبل اندلاع الأحداث الأخيرة، ولكن هذه السوق بقيت، كما في السابق، مركزا تجاريا لمدينة حلب وليست مكانا للسياح. صفوف وأزقة السوق الحالية تمتد على مسافة 13 كيلو مترا. يوجد هناك أكثر من 1000 من الحوانيت الصغيرة. وكما كان الأمر في السابق، فلازالت العائلات القديمة والبيوت التجارية تمتلك مراكز لها هناك. ورغم أن معامل العائلات التجارية موجودة خارج المدينة، ولكن مكاتبها بقيت داخل المدينة القديمة.
ما الذي دفع اليونسكو لتعلن في عام 1986 عن ضم المركز القديم من مدينة حلب إلى قائمة مواقع التراث العالمي؟
كنوست: الأمر الحاسم، الذي دفع باليونسكو لكي تدرج حلب القديمة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، هو على وجه الخصوص تلك المواقع الأثرية التي تعود إلى العصور الوسطى: القلعة، والمساجد القديمة، والمدارس التي تعود إلى عهد الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى مطلع القرن الثالث عشر، وكذلك إلى فترة حكم نور الدين، حوالي منتصف القرن الثاني عشر. كانت حلب في ذلك الوقت، وأيضا في قرون لاحقة، مركزا تجاريا مزدهرا. وفي ذلك الحين، كانت المدينة تشارك بفاعلية في التجارة الدولية وفي مايسمى طريق الحرير، الذي ساهم إلى حد كبير في تمتع المدينة بالثراء. ذلك الثراء الذي يظهر في المباني، والأعمال المعمارية، مثل قلعة حلب، والمسجد الأموي، وكذلك مدرسة الفردوس في جنوب المدينة القديمة، إنها معالم أثرية ذات مستوى عالمي.
ما هي المواقع التاريخية الأخرى في حلب، التي تأثرت، إلى جانب السوق القديمة، بأعمال القتال؟
كنوست: سقطت قذيفة على بوابة القلعة، أسفرت عن تدمير جزئي لكل من برج البوابة الأول والجسر الحجري، وكذلك الأبواب الأصلية للبرج الرئيسي للبوابة، الذي يعود إلى القرن الثالث عشر. وماعدا ذلك، كان الثوار ينشطون، بشكل رئيسي، في ضواحي حلب؛ في جنوب المدينة وشرقها. ولكن بعضا من هذه المواقع هي في الحقيقة أحياء قديمة أيضا، تضم مدارس من العهد الأيوبي. والخشية من أن تكون قد لحقت أضرار بالصروح التاريخية في تلك المواقع.
من يتحمل المسؤولية عن تدمير المدينة التاريخية القديمة؟ لأن كلا من الثوار وأتباع نظام الأسد يتبادلون الاتهامات بالمسؤولية؟
كنوست: ما زال الوقت مبكرا لإصدار حكم حول هذا الموضوع، لأننا لا نمتلك حاليا مايكفي من المعلومات. ولكن بغض النظر عن ذلك، أتساءل لماذا تدور المعارك أساسا في المدينة القديمة. إذ ليس هناك أهداف استراتيجية، لا ثكنات عسكرية ولا قواعد للمخابرات السورية. وماعدا القلعة، فليس في المنطقة كلها أي موقع بارز. واليوم أمست البلدة القديمة لاتشكل إلا جزءا صغيرا جدا من حلب. قبل مائة عام كان يعيش هناك حوالي 100.000 شخص. أما اليوم فهم أقل، ولا يشكلون في نهاية المطاف غير جزء صغير من سكان حلب، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة. ولذلك فليس هناك من سبب، برأيي، لجعل المعارك تدور في المدينة القديمة ومنطقة السوق التاريخية.
من الملاحظ أن هناك حالة من الجمود العسكري، منذ أشهر، بين الثوار وقوات النظام في حلب. كيف يمكن تفسير النجاحات العسكرية البطيئة للجيش السوري الحر؟ هل هناك غياب للدعم الحقيقي من جانب السكان للثوار؟
كنوست: من الصعب الإجابة على هذا السؤال. ولكن يبدو في الواقع أن هناك العديد من سكان حلب لا يريدون أي شيء من جيش الثوار. كما أن معظم هؤلاء المقاتلين هم ليسوا من حلب، ولكن من المناطق الريفية. المدينتان السوريتان الكبريان، أي دمشق وحلب، لديهما على مايبدو صعوبات مع دعاة المقاومة المسلحة. فعلى الرغم مِن أن مَن يؤيدون النظام لم يعودوا، بالتأكيد، كُثر، ولكن لا يوجد أيضا في المدينتين الكبيرتين إلا القليل من أنصار المقاومة المسلحة. لأن الناس يرون بأن تأثيرات هذا الصراع تدمر بلدهم.
المعارك الطاحنة لا تدور في حلب وحدها. ففي أي الأماكن الأخرى في سوريا تعرضت المواقع الأثرية والتاريخية للتدمير أو أصحبت مهددة بذلك؟
كنوست: في دمشق، شهدت، قبل فترة، الضواحي الجنوبية ومنطقة الميدان معارك. أما دمشق القديمة فلم يصلها الصراع المسلح بعد. الوضع مختلف في حمص، حيث تم تدمير المدينة القديمة ومبانٍ تاريخية. كما تعرضت قلعة الحصن، وهي أيضا موقع من مواقع اليونسكو للتراث العالمي، للقصف من قبل الجيش (النظامي) السوري. كما وردت أنباء عن معارك جرت في المواقع الأثرية القديمة في تدمر، وعن أضرار لحقت بالبلدة القديمة في بصرى، وهي موقع آخر من مواقع التراث العالمي لليونسكو. وإجمالا، تعرضت للأضرار خمسة من المواقع الستة للتراث العالمي لليونسكو في سوريا. فقط منطقة المدن المنسية، الواقعة بالقرب من حلب، لم تصلنا أي تقارير منها عن حدوث أضرار.
ما الذي يمكن فعله برأيك ضد هذا الدمار؟
كنوست: أعتقد أن الإمكانيات محدودة جدا لممارسة ضغوط خارجية على جانبي الصراع. إضافة لغياب الإرادة الحقيقية، برأيي، للقيام بذلك.
أمضيتَ فترة طويلة من البحث العلمي حول سوريا، وحلب خصوصا. ما الذي تشعر به وأنت تشاهد صور الدمار؟
كنوست: إنها بالطبع كارثة، بصرف النظر عن المأساة الإنسانية، التي مازالت مستمرة أيضا. وطالما أنه لا يوجد حل لهذا الصراع، فسيتواصل تدمير التراث الثقافي في سوريا. سوريا على وشك أن تفقد تاريخها.
أجرى الحوار: بيورن تسيمبرش
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012
الدكتور شتيفان كنوست باحث ومحاضر في معهد الشرق في العاصمة اللبنانية بيروت. متخصص في أبحاث بدايات العصور الحديثة لمنطقة غرب آسيا، ويعتبر خبيرا بتاريخ حلب. شارك في عام 2005 في أعمال التنقيب في قلعة حلب.