أدب إسلامي عالمي لهواة روائع الحرف الكلاسيكي الرفيع
أخرجت إلى النور الدار المصرية اللبنانية كتاب "رباعيات الخيام: الفلكي الشاعر الفيلسوف الفارسي" للشاعر والمعرب اللبناني وديع البستاني (1886 / 1954) الحائز على وسام الاستحقاق المذهب من رئيس الجمهورية اللبنانية في 118 صفحة.
وقد طبع في طبعة أنيقة حيث زين الغلاف بلوحة تلخص وتعكس مضمون الكتاب والرباعيات وعبر هذه العتبة البصرية يلج القارئ العربي على محاور وثيمات النصوص التمهيدية والنصوص الشعرية.
قدَّم لسلسلة الكلاسيكيات -التي شرعت الدار في إخراجها- الناقد صلاح فضل مرحبا بهذا الإصدار وبمشروع الدار في تعريف المثقفين والكتاب وهواة الحرف الرفيع بروائع الكلاسيكيات وهو يكتب مؤيدا (ولا يسَعُ أي مثقف عربي غيور على تراثه إلا أن يشيد بهذا المشروع الذي تتصدى له الدار المصرية اللبنانية بإخلاص تام وإتقان مشهود به لأعمالها راجيا لها التوفيق والسداد).
أما التقديم الثاني والشرح فقد تولاه الكاتب حمدي النورج والمراجعة تولاها عبد العزيز نبوي وفي الخاتمة رسالة تقريظ من الكاتب المصري الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي مدح فيها العمل والمعرب كونه يتمثل روح الخيام وفلسفته ومذهبه الشعري.
فضل آل البستاني على اللغة والآداب العربية
تصدى الشارح والمقدم حمدي النورج للتعريف بوديع البستاني ابن قضاء الشوف مولدا ووفاة ولآل البستاني عامة فضل على اللغة والآداب العربية بدءًا بالمعلم بطرس البستاني وسليمان البستاني معرب الإلياذة شعرا وعبد الله البستاني اللغوي القدير وصولا إلى فؤاد أفرام البستاني صاحب سلسلة الروائع المشهورة التي قربت التراث الأدبي والفكري العربي القديم من العصر الحديث، من امرئ القيس إلى البهاء زهير وإن كانت أعمال آل البستاني لا تخلو من نقد ومن مآخذ، ولم تكتفِ بتحقيق ودرس التراث العربي بل امتد نشاطها إلى الترجمة والتعريب مقربةً روائعه من الذائقة العربية الحديثة فكانوا حقا همزة وصل بين القديم والحديث وبين الغرب والشرق.
تخرج وديع من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1912 حيث تضلع في الأدب واللغة الإنكليزية وقد أخرج إلى النور الطبعة الأولى من ترجمته للرباعيات عن دار المعارف المصرية ورحب بها جمهرة الكتاب والمثقفين والشعراء كالعقاد وأنطون الجميل والزيات وامتد اهتمام البستاني إلى آداب الشرق وإلى الهند فرحل إليها والتقى بشاعرها الكبير طاغور وكتب عنه (زرته وآكلته وشاربته وحادثته فازددت بآثاره إعجابا ولذاته إكراما ولعبقريته إجلالا) وعرَّب كثيرا من شعره كما عرب الملحمة الهندية المشهورة "الرامايانا".
وقد امتدحت مجلة الرسالة في مقال خاص عام 1947 جهود البستاني في الترجمة خاصة ما تعلق بالتقريب بين الثقافة العربية الإسلامية وثقافة فارس والهند وحتى الثقافة الأوروبية حيث عرَّب كثيرا من الكتب الإنكليزية واسمة إياه برائد الترجمة في النصف الأول من القرن العشرين.
ما يعرف عن البستاني هو نزعته القومية وأنه كان نصير فلسطين فقد ترك لبنان ثم مصر ليستقر بفلسطين وفي حيفا تحديدا وقد كتب إلى صديقه أنطون الجميل (سأذهب إلى فلسطين لأدافع عنها ومن ورائها لبنان) فهو كما كان يقول لبناني المولد، فلسطيني الروح والحياة، وكان شاهدا على وقائع الانتداب البريطاني وحرب فلسطين وجرائم العصابات الصهيونية الهاجاناه وترك كتابا مهما عن ذلك (1917 / 1945) عنوانه "الانتداب البريطاني باطل ومحال" لكن القوة الصهيونية الغاشمة أجبرته على ترك حيفا وفلسطين ليعود إلى لبنان وليموت بقريته في قضاء الشوف.
وهو القائل:
هذي جناية حــــــر
لم يدر كيف جناها
غنى للعروبة عمرا
وعاش حتى رثاها
في شعره المناسباتي وما أكثر الأحداث الجسام التي عايشها بدء بالحرب العظمى الأولى والثانية وحرب فلسطين ونكبتها، يفيض تمردا وإباء وثورة وشجنا وهو القائل في تعريف مذهبه الشعري (خير الشعر ما اختلج في الصدر وحرك أوتار الحس) وديوانه حافل بأحداث التاريخ العربي والعالمي حيث تفاعل مع كليهما.
ومن اللافت الإشارة إلى اعتزازه بالثقافة الإسلامية فقد كان ينظم القصائد في المناسبات الإسلامية مثل المولد النبوي –وهو المسيحي القح- أسوة باحتفائه بمولد المسيح وهي خاصية تميز بها ذلك الجيل من الرواد أمثال مارون عبود وجورج صيدح وبشارة الخوري ورشيد سليم الخوري وإلياس فرحات وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين نخلة، من كان في الداخل ومن عاش في المهاجر البعيدة ولك أن تعجب اليوم من الاحتراب والنبذ والانقسام الطائفي والتنابز ولا يسعك إلا أن تقول لقد نكبنا بردة فكرية رهيبة سلم منها ذلك الجيل.
تتميز ترجمات البستاني بتحري الأمانة والصدق وتوخي السهولة والبعد عن الحوشي الغريب والحرص على الرونق الموسيقى فيما تعلق بالشعر مع التصرف أحيانا بسبب التباين العقائدي والحضاري وهو يعترف بذلك وقد طرح إشكالية الترجمة في اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها والتباين الحضاري والأمانة وتمثل المعاني الحقيقية وحق المترجم في التصرف ومدى الأمانة أو الخيانة للنص الأصلي وحدود ذلك مما لا يزال إشكاليا إلى اليوم.
تعريب البستاني لرباعيات عمر الخيام المولود في خراسان والمتوفى عام 1123
وقد جعل لتعريبه للرباعيات مقدمة عرف فيها بالشاعر عمر الخيام المولود في نيسابور بخراسان بين عامي 1025 / 1050، ففي تحديد سنة مولده خلاف بينما لا خلاف في تاريخ وفاته 1123 حيث صار علما وشاعرا كبيرا وعالما فذا، ونيسابور أنجبت فطاحل الشعر والفلسفة والتصوف أشهرهم الفردوسي صاحب الشاهنامة وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي صاحب المثنوي وجامي وغيرهم.
وقد نبغ الخيام في الرياضيات والفلك كما عرف عنه تبحره في علوم الفقه والتفسير والسيرة والتصوف وأثار زوبعة من النقد والاحتجاج عليه في حياته ومن الطعن في سيرته وفي دينه مثل تلك التي أحدثها السهروردي والحلاج والمعري وابن سينا والرازي وغيرهم.
كما تعرضت علاقته بالصديقين حسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين ونظام الملك الذي صار وزيرا إلى النقد بل حتى اسم الخيام ذاته لم يفصل فيه فمن قائل إن والده كان يتعاطى بيع الخيام -وهو رأي غريب في بلد حضارة لا بادية- إلى قائل بأن أصله عربي صميم وأن الخيام أطلق هذا اللقب على نفسه تواضعا في إشارة إلى من تعالى في لقبه مثل العطار والفردوسي.
ومن الترجمات الرائجة للخيام في التراث العربي تعريف القفطي به في كتابه الذائع "تاريخ الحكماء" فقد قال فيه (إمام خراسان وعلامة الزمان يعلم علم اليونان ويحث على طلب الواحد الديان بتطهير الحركات البدينة لتنزيه النفس الإنسانية).
هكذا اختلف الناس حول عُمَر الخيَّام
كان للوزير نظام الملك صديق الطفولة والدراسة فضل عليه فقد كفاه مؤونة العمل وخصص له 1200 مثقال من الذهب يعطى له سنويا حتى يتفرغ لطلب العلم وهذا يشبه اليوم ما يعرف بمنحة التفرغ وهكذا عاش الخيام خلي البال من مشاق العمل والتفكير في لقمة العيش منصرفا إلى الإبداع العلمي والشعري وممارسة الحياة كما يريدها بأريحية تامة غير مبال بما يردده نقاده والمتحاملون عليه.
مثل الخيام في علو كعبه لابد أن يختلف حوله الناس فهو عند بعضهم مهرطق وزنديق وعند آخرين ملحد لا يؤمن بدين وعند طائفة أخرى شاك لا يستقر على مذهب وعند طائفة أخرى متهتك سكير أبيقوري المنزع يسعى للذاته الجسدية فقط ويدعو الناس إلى الاقتداء به فالحياة فانية والفطن من اقتنص اللذات لأن الموت خاتمة كل حي والوصول إلى الحقيقة محال.
في حين نزهه آخرون عن ذلك واعتبروه رمزيا وصوفيا كبيرا، فالخمرة الواردة في الرباعيات وأدبيات الشرب والأنس كلها تؤول إلى المحبة الإلهية والروحانيات مثلما تؤول عند شاعر رمزي كبير وصوفي هو ابن الفارض، والذي زاد في التحامل على الخيام نقده لرجال الدين وانتقاده للرياء والتكسب بالأخلاق والتدين كما ينتقد الإمعية والتقليد، وهو يشبه في هذا من وجوه كثيرة المعري في لزومياته ولا ريب في اطلاع الخيام عليها وإعجابه بها وهذا لا يعني اقتباسه عن المعري قصدا وإلا لما كان للمبدع فضل بل يتشابهان في نمط التفكير النقدي وفي عدم التسليم دون الاحتكام إلى العقل، فما نفاه العقل لا سلطان له على المرء لأن خالق العقل والكون واحد.
عمر الخيام - قصائد شعر وعلوم فلك ورياضيات
اشتهر الخيام بالرباعيات على الرغم من علو كعبه في الرياضيات والفلك وهو من أصلح التقويم الفارسي للسلطان ملك شاه، لكن شهرة الرباعيات بذت كل أنشطته العلمية فالعلم يتطور وينفتح على إشكالات جديدة وتغدو النظريات العلمية القديمة تراثا ومرحلة من مراحل التفكير العلمي بينما العطاء الفني يستقر على حالة التقدير على مر القرون.
والرباعيات في الفارسية تكون على أربعة أشطر تكون جميعها على قافية واحدة أو تتخذ شكلا ثانيا بأن تكون الأشطر الأول والثاني والرابع على قافية واحدة ويستقل الثالث بقافيته، ونظم الخيام على الشكلين لكن تضاربت الآراء منذ القديم عن أصالة الرباعيات كلها وعددها ففي نسخة أكسفورد 158 وفي نسخة كمبردج 800 وفي نسخة باريس 349 رباعية.
الانتحال في الشعر - هذا أدعى للزيادة والافتراء على الشاعر
وفي عام 1897 نشر العالم الروسي شكوفسكي مقالة مهمة أثبت فيها أن 82 رباعية واردة في أشعار غيره مثل حافظ وجلال الدين الرومي والفردوسي والعطار وسميت بالرباعيات المتشردة والسبب في ذلك اختلاف الناس في الخيام، فالمعجبون به يثبتون له ما توافق مع دين العامة حفظا له من المكر والمتحاملون عليه يثبتون له ما يورطه حتى يقتص منه وما جهل مصدره من شعر خمري ينسب إلى الخيام إذا كان في ظاهره يتوافق مع فكر ونمط حياة الخيام، وهذه الأسباب مجتمعة هي التي أدت إلى كثرة ما نسب إلى الخيام واختلاف النقاد في صحة نسبتها إليه.
وفي الشعر العربي نعرف جميعا قضية الانتحال في الشعر الجاهلي وأسبابه كما بينها طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي".
وهناك سبب آخر يزيد في كثرة الشك وفي كثرة ما نسب إلى الخيام هو أن النساخ كانوا يكتبون الرباعيات بتفنن وأحيانا بماء الذهب مزينة برسوم بناء على طلب الأمراء والوجهاء فكلما كثرت الأوراق كثر العطاء والربح وهذا أدعى للزيادة والافتراء على الشاعر.
اكتشاف الغربيين للخيام - هكذا دلل البستاني على افتتان الغرب والإنكليز خاصة بالرباعيات
ويشير البستاني في مقدمته إلى اكتشاف الغربيين للخيام منذ توماس هيد الإنكليزي عام 1700 وفون همر النمساوي منذ 1818 ونيقولاس الفرنسي الذي اعتبر الخيام صوفيا ورمزيا كبيرا، لكن أشهر هم على الإطلاق وأبقاهم للذكر والاحتفاء هو الشاعر الإنكليزي فتزجرالد الذي ترجم الرباعيات إلى الإنجليزية في 101 رباعية وكان مفتونا بمذهب الشاعر ونمط حياته وأسس في لندن نادي الخيام وعرف وهو وصحبه بالعمريين أي عشاق عمر الخيام.
ويدلل البستاني على افتتان الغرب والإنكليز خاصة بالرباعيات أنه أثناء إقامته في لندن لتعريب الرباعيات والاطلاع على مختلف الترجمات في المكتبة الوطنية فوجئ بـ 153 كتابا عن عمر الخيام وعن الرباعيات ترجمة ودراسة وشرحا ونقدا وأن الطبعات تختلف بين مزخرفة وطبعة فاخرة وطبعة مزينة برسوم في ترجمات نيقولاس وفتزجرالد وجارنر ومكارثي وهوينفلد.
طريقة البستاني في ترجمة رباعيات عمر الخيام
وأخيرا يتحدث عن بدء اهتمام العرب بالخيام أسوة بالغربيين فقد نشر محمد لطفي جمعة مقالة عنه والعقاد شرح في جريدة الدستور مذهبه وفسر شعره وكذا فعل عيسى إسكندر المعلوف وتبارى الشعراء والمترجمون العرب بعد ذلك في تعريب الرباعيات من الفارسية رأسا أو من لغة وسطى كالإنكليزية أو الفرنسية وأشهرهم عن الفارسية أحمد رامي الذي تغنت أم كلثوم بمقاطع من ترجمته بتلحين رياض السنباطي، ثم مصطفى وهبي التل، عبد الحق فاضل، أحمد الصافي النجفي، جميل صدقي الزهاوي، محمد السباعي ، إبراهيم العريض وجميعهم اعتمد إما الفارسية أو الإنكليزية أو كليهما.
وطريقة البستاني في الترجمة أنه جعلها في موشحين بمجموع 80 رباعية لكنه آثر في ترجمته جعلها في شكل سباعيات متحريا تمثل روح الخيام ومذهبه الشعري وفلسفته الحياتية والفكرية متوخيا الوضوح والسهولة والبعد عن الحوشي والغريب والحرص على الرونق الموسيقي، وقد كتب عن نفسه وعمله (مقر بعجزي معترف بحداثة عهدي أغتنم كل فرصة سانحة لإطلاع من أعرفه من أدباء القطرين على هذه السباعيات فكنت ألاقي منهم الرضا والارتياح لها ما شجعني على طبعها ونشرها).
فمما جاء في الموشح الأول قول الخيام:
رب رحماك ما كسبت ثوابا
لا ولا كنت مستحقا عقابـــا
إنما قلت ما رأيت صوابـــا
ووجودي علي كان مصابا
وعزائي الجميل كان الحبابا
وكفاني التوحيد ذخرا فإنـــي
لم أعدد في ديني الأربابــــا
وفي هذا المقطع يشير إلى حرص الخيام على الجهر بآرائه وكراهته للنفاق ولامبالاته بكلام الناس متحريا عفو الله أنه لم يشرك به طرفة عين.
ومما جاء في الموشح الثاني:
أيهذا الخزاف قد فقت حذقـــا
ولقد فزت في الصناعة سبقـا
لك صيت يذيع غربا وشرقـــا
إنما ارفق فسوف تطلب رفقــا
من حريف تزول أنت ويبقـــى
فبقايا الأسلاف ما أنت منه
صانع ما يحير الألبابــــــــــا
وفي هذا المقطع يتبادر إلى أذهاننا قول المعري قبله:
خف الوطء ما أظن أديم الـــــ
أرض إلا من هذه الأجســـــاد
وقبيج بنا وإن قدم العهــــــــ
د، هوان الآباء والأجـــــــداد
وكان واضحا تأثر الخيام بلزوميات المعري دون أن يعني هذا الاقتباس القصدي عنه وإلا ما كان لمبدع فضل فهما يتشابهان في نقد الرياء والشكلانية والانتهازية والتمثيل والتقليد والببغاوية والإمعية ويتحريان المعقول وبالعقل يقرآن النص المقدس دون أن يقدسا شروحه وتأويلاته.
مشروع جدير بالإكبار من الدار المصرية اللبنانية مثلما قدم صلاح فضل وجدير بالتشجيع وحقيق بالنقاد الدرس والنقد والتفسير لهذه الروائع الكلاسيكية، تلك التي قال عنها إيتالو كالفينو هي التي لا يقول المرء إنه قرأها وإنما يعيد قراءتها في إشارة إلى تجدد الدلالة وانفتاح التأويل على آفاق رحبة ورصانة الشكل وجودته والنزعة الإنسانية.
وما أجدرنا بقراءة وفهم وتفسير وتأويل ونقد تراثنا وصرف كثير من مدلولات الألفاظ بتعبير التفكيكيين بعد هضمه وتمثله فكل ماض كان حاضرا وكل حاضر سوف يغدو ماضيا، تلك الجدلية التي تتطلب موقفا عقلانيا وإنسانيا في ذات الوقت في التعاطي مع الراهن وإشكالاته.
إبراهيم مشارة
حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2022