"ليس إنسانا مَن لم تعانِ روحه"
جلال الدين الرومي يعرفه الكثيرون في ألمانيا. الرومي صوفي فارسي -مولود في عام 1207 في ما يعرف اليوم باسم أفغانستان ومتوفى في عام 1273 في مدينة قونية التركية- ويعتبر الشاعر صاحب الأعمال الأكثر مبيعًا في العالم. يدّعي الإيرانيون وكذلك الأتراك أنه منهم بسبب قضائه مراحل عديدة خلال حياته في كل من إيران وتركيا.
وتختلف الحال مع معلمه الصوفي فريد الدين العطار، المولود -بحسب المصدر- في نحو عام 1136 في نيسشابور بإيران والمتوفى ربَّما في نحو عام 1220 خلال غزو المغول. ولكن عمله المركزي كتاب "منطق الطير"، الذي وصفته الباحثة في الدراسات الإسلامية آنا ماري شيمل -وعن حقّ- بأنَّه "تحفة أدبية"، يعتبر من أهم الملاحم الشعرية ليس فقط في التصوُّف الفارسي وحده، بل وحتى في الأدب العالمي ككلّ.
يدور موضوع هذه المنظومة الشعرية الطويلة الشاملة حول العالم الروحي عند الصوفية، والذي يوصف في أمثولة رمزية واسعة، وهي: الهدهد، الذي يعتبر في القرآن رسولًا بين النبي سليمان وملكة سبأ، ويدعو جميع طيور العالم لمرافقته في رحلة شاقة استغرقت عدة أعوام إلى جبل قاف، حيث يعدهم بالعثور على ملك الطيور سيمُرغ.
ولكن الهدهد يواجه في البداية الكثير من المقاومة والرفض والشكوك. فالكثير من الطيور لا تريد الانضمام إليه لأسباب مختلفة، ولكنه مع ذلك يحاول إقناع الطيور -إقناع كلِّ طير من الطيور على حدة- وبنجاح متزايد. أقبلت إليه الببغاء معتذرة وقالت:
"كلّ قاسي القلب عديم الإنسانية أقام لأمثالي قفصًا فولاذيًا، فظللت أسيرة هذا السجن الفولاذي أذوب شوقًا إلى ماء الحياة. إنَّني خضر الطيور، لذا تبدو حلتي خضراء، فمتى أستطيع ارتشاف ماء الحياة؟ لن أستطيع التحليق إلى السيمرغ، بل يكفيني رشفة واحدة من ينبوع الحياة".
فيرد عليها الهدهد قائلًا: "يا مَنْ عدمت السعادة، ليس شهمًا مَنْ لا يبذل الروح نثارًا، لقد منحك الله الروح لتكون نثارًا، ولكي تسنح لك لحظة مؤاتية مع الحبيب؛ عليك بطلب ماء الحياة من روح الحبيب، وإلَّا، فامضي، ما أنت إلَّا قشر عديم اللب؛ أمَّا إن شئت أن تفدي الحبيب بالروح، فكوني كالرجل، وفي طريق الأحبة انثري الروح".
والبلبل لم يكن مختلفًا، فهو ولهان نشوان في حبه التعيس للوردة، وقد قال للهدهد معتذرًا إنَّه يكتفي بحبه للورة "وليس للبلبل طاقة لإدراك السيمرغ".
على طريق معرفة الذات
تُبيِّن مثل هذه المقاطع خلود "منطق الطير". يستخدم فريد الدين العطار الطيور ليخوض في مواقف الإنسان وخصائصه ونقاط ضعفه، وبصرف النظر عما يتم قوله للهدهد، فهو يؤمن دائمًا بقوة الكلمة على الإقناع. توجد في المنظومة إشارات كثيرة واضحة إلى القرآن - ويجدر بنا ذكر ذلك لأنَّ العديد من ترجمات الأدب الصوفي الأوروبية يتم تبسيطها للجمهور الغربي.
وغالبًا ما تتم إزالة هذه الإشارات الدينية الصريحة أو التي يُفترض أنَّها غير مفهومة. صحيح أنَّ هذا النهج المتَّبع من قِبَل الناشرين قد زاد مثلًا من شعبية جلال الدين الرومي من خلال تسهيل فهمه، ولكنه ينتج في النهاية نسخًا من عمله لا علاقة لها كثيرًا بما قصده الرومي وغيره في شعرهم.
صدر عن دار التكوين(دمشق) كتاب: منطق الطير للشاعر والمتصوف الفارسي فريد الدين العطار
ترجمة: علي عباس زليخة pic.twitter.com/PeemMPzw8t— كتب ... (@newbooks183) January 11, 2021
يمضي في النهاية سربٌ عظيم من الطيور خلف الهدهد في الطريق إلى جبل قاف، ورحلتهم هذه عبر الوديان السبعة في درب الصوفية هي في الواقع الهدف المضروب به المثل. الكثير من الطيور لا تتحمَّل مشقة السفر والطريق بحيث يتمكَّن من الطيور الكثيرة ثلاثون طيرًا فقط في النهاية من لقاء السيمرغ، أي لقاء أنفسهم والحصول على معرفة الذات - فكلمة سيمرغ تعني (بالفارسية) "ثلاثين طيرًا".
لقد صدرت حتى الآن العديد من الترجمات الألمانية أو بالأحرى الترجمات المعدَّلة شعريًا لمنظومة فريد الدين العطار "منطق الطير"، وآخرها ترجمة نثرية جديدة كاملة أنجزتها الباحثة في الدراسات الإسلامية كاتيا فولمَر بعنوان "مؤتمر الطيور"، وتم نشرها في عام 2008 لدى دار نشر ماريكس Marix Verlag. وقد أعيد إصدارها منذ ذلك الحين عدة مرات.
وها هي منشورات إديتسيون أورينت Edition Orient قد نشرت في برلين إصدارًا فاخرًا جديدًا باللغتين الألمانية والفارسية، في مجلد مغلَّف بقماش كتاني من القطع الكبير ومزيَّن بالكثير من الرسوم، التي رسمها الفنان الإيراني محمد برانجي، المولود في عام 1988، والذي يعمل بورق يصنعه بنفسه ويستخدم ريشات التخطيط القديمة وأقلام حبر وأقلام رصاص. وهذا يعطي رسوماته الغامضة مظهر المخطوطات القديمة أو حتى مظهر رسومات حجرية في بعض الأحيان، بحيث أنَّك قد تتخيَّل نفسك عندما تقلب الصفحات أنَّك تحت قوس قبو قديم أو أنَّك تنظر إلى بلاط عتيق عند مدخل مسجد.
وتقنيته هذه تجعل الصور والخط يتأرجحان بين حضور تصويري هائل وبين غموض متزامن، يختلف في كلّ تكرار زخرفي وهو بالتالي لا يرافق النصّ فقط، بل يكمِّله، وهذا يُحوِّل هذه الطبعة الجديدة إلى عمل فنِّي شعري بصري متكامل.
ترجم نصّ منظومة فريد الدين العطار لهذه الطبعة عن الفارسية إلى الألمانية المترجم توماس أوغير وقام مريان فولادفاند بتحويل الترجمة بحساسية إلى نصّ نثري واضح يشبه القصص الخيالية. وتم اختصار حوارات الطيور وأعذارها إلى ما هو أساسي وجوهري في القصة، مع ترك بعض المقاطع مثل عذر الببغاء ورد الهدهد عليها كأمثلة للحوارات الأطول والأكثر عددًا في النصّ غير المختصر.
وبالتالي فإنَّ هذه الطبعة ستجذب القرَّاء المطلعين بالفعل على فريد الدين العطار من خلال إعادة تفسيرها من قِبَل الرسام محمد برانجي وكذلك القرَّاء، الذين يتعرَّفون على العطار لأوَّل مرة؛ وهذه الطبعة المختصرة تقدِّم لهم مقدِّمة جيِّدة إلى "منطق الطير". أمَّا مَنْ أراد التعمُّق في هذه المنظومة فيمكنه الرجوع إلى الترجمة الكاملة للباحثة في الدراسات الإسلامية كاتيا فولمَر.
غيريت فوستمان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
فريد الدين العطار: "منطق الطير"، صدر عن دار نشر إديتسيون أورينت، برلين 2022، طبعة ثنائية اللغة فارسية وألمانية، تحرير مريان فولادفاند، ترجمه عن الفارسية توماس أوغير، الرسومات من محمد برانجي، في 96 صفحة.
منطق الطير#فريد_الدين_العطار pic.twitter.com/eOW9k0UOwD
— Pierre Abi-Saab (@PierreABISAAB) April 23, 2020