دور الجفاف والإمارات وألمانيا في تأجيج صراع السودان
بينما يتابع جزء كبير من الرأي العام العالمي بفزع الأخبار المروعة التي تأتي من إسرائيل والأراضي الفلسطينية لا يحظى الرعب في السودان بأي اهتمام إعلامي تقريباً، وحتى في الشهور السابقة لهجوم حركة حماس الدامي -الذي وقع في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023- وقبل قصف القوات الإسرائيلية المستمر لقطاع غزة -الذي تلا هذا الهجوم- كان عدد التقارير الإعلامية الدولية حول الصراع المدمر بين القوات العسكرية السودانية يؤول إلى الصفر.
حتى حين اشتعلت النيران في برج مكاتب شركة النفط الحكومية -(شركة النيل الكبرى لعمليات البترول GNPOC) عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق وهو برج تذكرنا هندسته المعمارية العصرية بآفاق السماء في المدن الكبرى بالخليج- لم تكن هذه الحادثة -على الرغم من صورها الأشبه بنموذج مصغر لنهاية العالم- ذات قيمة إعلامية إلا لعدد ضئيل جدا من وكالات الأنباء الغربية. وعدم الاكتراث في ألمانيا لافت للنظر على نحو أكبر لأنه قائم وجارٍ رغم دوران الحديث داخل ألمانيا باستمرار حول موضوع الهجرة المتأجج ورغم تحول السودان إلى مركز جديد لأزمة لاجئين حقيقية.
إحصائيات الإغاثة الإنسانية كارثية ولا تعطينا سوى قدر من التخيل عن حجم المعاناة الإنسانية: فوفقاً لتقديرات الأمم المتحدة في بداية ديسمبر / كانون الأول 2023 فرَّ ما يقرب من سبعة ملايين شخص منذ اندلاع الصراع العنيف في 15 إبريل / نيسان من عام 2023 بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع RSF شبه العسكرية، وهذا العدد يشكل أكثر من 13 في المائة من السكان. وقد فر نحو 1.3 مليون سوداني وسودانية كلاجئين إلى الخارج معظمهم إلى تشاد وجنوب السودان ومصر.
نحو 200 ألف من النازحين داخل البلاد كانوا بالفعل لاجئين خاصةً من إريتريا وإثيوبيا ولكن أيضاً من سوريا، ونصف عدد النازحين الكلي هم من القُصٍّر وهذا يجعل السودان يحمل أيضاً الرقم القياسي المحزن باعتباره البلد الذي يضم أكبر عدد من الأطفال النازحين.
وفي الوقت نفسه وصل العنف الجنسي ضد النساء والفتيات إلى أبعاد لا يمكن تصورها، ويُعتبر ما يقرب من 25 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة عاجلة أي أكثر من نصف عدد السكان. ومن إجمالي 2.9 مليار دولار -وهو المبلغ الذي قدرته الهيئات الإغاثية الدولية كاحتياجات لعام 2023- تمت الموافقة على 39 في المائة فقط من هذه المبلغ.
ليس بالإمكان سوى تقدير عدد الأرواح التي أُزهقت حتى الآن، ضحية للتنافس بين المعسكرين المحيطين بقائد الجيش عبد الفتاح البرهان وزعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي. ويشير مشروع بحثي -واختصار اسمه هو ACLED وهو يهتم بمواقع النزاعات المسلحة وحصيلة ما فيها من معلومات- أن عدد الوفيات المثبت حتى نهاية نوفمبر / تشرين الثاني 2023 قد تجاوز 12190 شخصاً.
وتُظهِر التقديرات المتباينة لمذبحة نفذها مسلحو قوات الدعم السريع في بداية نوفمبر / تشرين الثاني 2023 في أرداماتا -وهي بلدة قريبة من الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور- مدى ارتفاع العدد المجهول للوفيات غير المبلغ عنها، فبينما تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR عدد القتلى هناك بحوالي 800 شخص تقدر مصادر محلية عدد القتلى بما يصل إلى 2000 شخص.
وعلاوة على ذلك فإنه من المرجح أن يكون العدد المجهول للضحايا غير المبلغ عنهم أعلى بكثير إذا أخذنا في الاعتبار عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم بسبب نقص الرعاية الطبية بسبب الحرب.
صراعات على تقسيم الثروات وليست "صراعات عرقية"
أدت المجزرة التي وقعت في أرداماتا -والتي أسفرت عن مقتل أفراد من جماعة المساليت العرقية- إلى تزايد التحذيرات من منظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بشأن ارتكاب جرائم حرب ممنهجة "ذات دوافع عرقية" ضد المساليت (وهي مجموعة عرقية تسكن إقليم دارفور غرب السودان وشرق تشاد). وتذكرنا أساليب الجرائم المرتكبة بذروة حرب دارفور الأولى التي بدأت عام 2003 بحدوث تمرد ضد نظام عمر البشير آنذاك.
في ذلك الوقت اعتمد الدكتاتور البشير الذي حكم البلاد لفترة طويلة على مجموعات مسلحي الجنجويد -التي خرج منها حميدتي وقوات الدعم السريع التابعة له في نهاية المطاف- لإخماد التمرد بتكلفة زهيدة وبقسوة، إلا أن التوصيف السابق والحالي للحرب على أنها عنف عرقي بين رعاة من البدو الرحل ومزارعين مستقرين -صُنِّفُوا عنصرياً على أنهم عرب وأفارقة في سرد ثنائي لا معنى له- يحجب النظر عن رؤية الأسباب الحقيقية للصراع.
ورغم تعقيد الخلافات فإن هناك اتفاقاً واسعاً بين الباحثين على الأطروحة التي وضعها باحث السلام البريطاني والخبير في شؤون دارفور أليكس دي وال والتي مفادها أن عسكرة "السوق السياسية" -التي نمت تاريخيا منذ حقبة الاستعمار- هي السبب الرئيسي وراء تصاعد العنف في السودان. ويشير مصطلح "السوق السياسي" إلى نظام المحسوبية والعملاء الذي تُباع فيه الولاءات السياسية لمن يدفع أعلى سعر، ولا يتمكن فيه من الوصول إلى السلطة والموارد سوى جهات فاعلة لديها أسلحة ومقاتلون.
"حقوق الانسان ليست للبيع": نفاق في التعامل مع قطر؟
ألمانيا تحتاج إلى استراتيجية -في تعاملها مع دول مثل قطر والسعودية والإمارات- من أجل تحقيق مصالحها وفي الوقت ذاته مراعاة بوصلة حقوق الإنسان. استنباط الباحث الألماني سيباستيان زونس لموقع قنطرة.
الدوافع الأيديولوجية لا تلعب أي دور تقريباً في الصراع
يسلط المحلل السوداني مجدي الجزولي من معهد ريفْت فالي الضوء أيضاً على جوهر الأزمة المتمثل في تحول الاقتصاد الإنتاجي -الذي تستغل فيه شبكات التجار بالمركز الضواحي الريفية- إلى سوق عمل عسكري مسلَّح وبالتالي مدمِّر.
وفي هذا السياق لا يبقى لدى الكثير من الشباب خيار آخر سوى الالتحاق بالجيش أو بأحد جيوش المافيا النيوليبرالية الخاصة -مثل قوات الدعم السريع- من أجل كسب لقمة العيش لعائلاتهم.
وحتى رغم ادعاء حميدتي أنه يقاتل ضد الإسلاميين الداعمين للجيش ومن أجل المناطق المهمشة إلا أن الدوافع الأيديولوجية لا تلعب أي دور تقريباً في الصراع.
وتعود خلفية هذا التطور الفتاك إلى حدوث مزيج من النمو السكاني والخسارة التي لا يمكن تعويضها لأجزاء كبيرة من المناطق الزراعية في غرب السودان منذ موجات الجفاف الكبرى في الثمانينيات.
ويحذر الخبراء من اختزال الصراع المتصاعد منذ ذلك الحين إلى مصطلح "حرب المناخ" لأن ذلك قد يوحي بتفسير أحادي السبب للصراعات، إلا أنه لا جدال في أن تغير المناخ في دارفور -الذي تسببت فيه عوامل عالمية ومحلية- كان هو المحفز الحاسم الذي أدى إلى تأجيج المنافسة على سبل العيش واشتعال الحرب التي تجتاح البلاد بأكملها الآن.
ذهب ومرتزقة
بالإضافة إلى تغير المناخ يحدد المحللون السودانيون بالإجماع الدولة التي قدمت نفسها مؤخرا للعالم كمضيف لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ COP28 -واستحضرت مبادئ التعاون والتفاؤل والشراكة الحقيقية- معتبرين إياها العامل الثاني الرئيسي في إشعال هذه الحرب: إنها الإمارات العربية المتحدة.
في البداية حققت مؤسسة شركة عائلة حميدتي ثروة كبيرة بفضل انفجار أسعار الذهب بعد الأزمة المالية العالمية عام 2009، حيث سيطرت المؤسسة على استخراج المعدن النفيس في دارفور وتهريبه إلى الخارج.
وتولت الإمارات العربية المتحدة احتكار المعدن النفيس كمشترٍ في حين قامت قوات الدعم السريع أيضًا بتوسيع أعمالها لتشمل أموال الحماية وتهريب المخدرات والقروض الربوية وسرقة السيارات. ومنذ عام 2014 حققت الحرب في اليمن أرباحاً أكبر من عائدات البترودولار (النفط)، حيث قام حميدتي بتجنيد الآلاف من المرتزقة الشباب في التحالف المناهض للحوثيين آنذاك بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ومن مفارقات التاريخ المريرة أن تراجع أعمال القتال في اليمن في أعقاب التقارب بين السعودية وإيران هو الذي أجج الصراعات في السودان. يقول المحلل الجزولي إن حميدتي كان بحاجة إلى استخدام متواصل للعائدين من قوات الدعم السريع، وكان الاستيلاء على الدولة السودانية هو السبيل الوحيد لتوسيع إمبراطوريته التجارية.
بينما تدعم السعودية -الحليفة آنافاً للإمارات العربية المتحدة- ومصر المعتمدة عليها الجيش السوداني معتبرتين إياه مؤسسة شرعية مفترضة. ويقدر حكام أبوظبي حميدتي لأنه -على عكس البيروقراطية الحكومية المزعجة في السودان- يعتبر شريكاً مرناً يخدم مصالحهم في السيادة الإقليمية.
سيناريو ليبي أكثر تفاقماً
يتم توريد الأسلحة من الإمارات إلى مسلحي قوات الدعم السريع في المقام الأول عبر قاعدة في شمال شرق تشاد، بحسب ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً نقلاً عن أجهزة استخبارات أمريكية. كما أحصى خبراء مستقلون في مجال الاستخبارات مفتوحة المصدر OSINT ما يقرب من 200 رحلة شحن جوية منذ مايو / أيار 2023 انطلقت من أبو ظبي إلى منطقة "أم جرس" (أمجاراس) النائية في تشاد.
ورغم ذلك تواصل الحكومة الأمريكية وصف الإمارات العربية المتحدة بأنها شريك مهم للاستقرار السياسي. وهي تربط هذا على وجه التحديد بالشرق الأوسط، ما يظهر مرة أخرى أن الاستراتيجيين في العاصمة واشنطن يمنحون الإماراتيين حرية التصرف.
الأمر نفسه ينطبق على ألمانيا التي تعتبر الإمارات الشريك الاقتصادي الأهم لها في المنطقة. وفي نهاية عام 2022 أعلن المستشار -أولاف شولتس- ورئيس الإمارات -محمد بن زايد آل نهيان- عن تنشيط الشراكة الاستراتيجية المتفق عليها في عام 2004.
وعلى الصعيد العسكري يسود في هذه الأثناء وضع لا يمكن لأحد أن يفوز فيه: فبينما تسيطر قوات الدعم السريع على معظم غرب السودان -وعلى والعاصمة الخرطوم بأكملها تقريباً- اضطر الجيش إلى الانسحاب إلى الشمال والشرق. وعلى الرغم من أن الجيش استهلك نصيب الأسد من الميزانية الوطنية لعقود من الزمن وهيمن على مجالات واسعة من الاقتصاد الوطني إلا أنه أضعف بشكل يدعو لليأس أمام مجموعات قوات الدعم السريع المسلحة المتحركة بسرعة فائقة في ساحة المعركة.
ولذلك فإن سيناريو ليبيا -الذي يتواجد به مركزا قوة متنافسان بشكل دائم- يترسخ بشكل متزايد في السودان حيث يتمركز نظام قوات الدعم السريع في الخرطوم في حين تخضع لسيطرة المجلس العسكري بقيادة البرهان العاصمةُ الفعلية بورتسودان.
كيف ساهمت ألمانيا في العسكرة
إن مقاطع الفيديو -التي لا تعد ولا تحصى على تطبيق تيك توك والتي يظهر فيها مقاتلون شباب من قوات الدعم السريع وهم يحملون بنادق هجومية من طراز G3 من إنتاج شركة هيكلَر وَ كوخ الألمانية- تكاد تكون رمزا للدور الألماني في انهيار الدولة السودانية وتدفق ملايين اللاجئين. ويبدو أن معظم هذه المنتجات تأتي من إنتاج برتغالي مرخص وتصل إلى السودان عبر اليمن. لكن جمهورية ألمانيا الاتحادية القديمة (ألمانيا الغربية) كانت أول من قام بتزويد السودان بهذه الأسلحة بكميات كبيرة كجزء من الحرب الباردة، وقدمت بذلك مساهمة حاسمة في عسكرته.
وفي النهاية فهذه ليست مجرد أحداث حدثت منذ زمن بعيد؛ لأن هناك بالفعل مقاطع فيديو لمسلحي قوات الدعم السريع وكذلك لقائد الجيش البرهان نفسه وهم يحملون بنادق G36 التي تعتبر الخليفة والنموذج المحدث لبنادق الطراز G3، ويبدو أن قوات الدعم السريع تلقت هذه البنادق من المخزونات الأردنية، في حين أن الجيش ربما يكون قد تلقى بنادق G36 من إنتاج سعودي مرخص.
وعلى الرغم من أنه من المفترض ألا تكون هذه الانتهاكات الصارخة للوائح المتعلقة بالوجهة النهائية للأسلحة خافية على الحكومة الألمانية إلا أنه يبدو أنه لا توجد محاولات من جانب "الدبلوماسية المستندة إلى القيم" للتحقيق في التسليم غير القانوني لهذه الشحنات من الأسلحة. ولا ينبغي للحكومة الألمانية أن تتعجب من أسباب اللجوء إذا ازدادت بسرعة كبيرة أعداد النازحين من السودان الذين يبحثون عن طريقهم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
رومان ديكرت
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
يعمل رومان ديكرت منذ عام 1997 في السودان وللسودان، ويعمل منذ عام 2009 لصالح منظمة الإعلام عبر التعاون وفي التحول MICT غير الحكومية في برلين.