معارضة أصولية قائمة على أشلاء الدول الفاشلة حول العالم
السيد شيركو فتاح، ما الذي يجذبك ككاتب إلى التفكير بالحدود أو بالأحرى وصفها؟
شيركو فتاح: أوَّلا وقبل كلّ شيء طبيعة الحدود بحدّ ذاتها. المناطق الحدودية تعتبر دائمًا بحسب تجربتي مناطق برية لا توجد فيها رقابة. يظهر ذلك بصورة خاصة في كردستان، أي في الجزء الواقع ضمن العراق الحالية (عام 2014) المتداعية، والذي كان موضوع روايتي الأولى وكذلك موضوع الروايات الأخرى. ويضاف إلى ذلك أنَّ هذه الحدود تم وضعها تاريخيًا بشكل تعسفي تام. وهذا يعني أنَّ أجزاءً قد نشأت هناك، لا يمكن منع تفكك بعضها عن بعض إلاَّ بالقوة. والآن أصبحنا نعيش حدوث هذا الانقسام.
غالبًا ما تكون شخصيات رواياتك جناة وضحايا في الوقت نفسه، وهذا يؤدِّي بالتالي إلى تشتيت فكر القُرّاء. في روايتك الحالية "المكان الأخير" تستكشف حدودًا أخرى: أي حدود فهمنا الثقافي لمَنْ يطلق عليهم اسم الآخرين...
شيركو فتاح: هذا ما ينشأ في الواقع بالفطرة: هناك شخص ألماني يتم اختطافه مع مترجمه المحلي، فيتحتَّم عليهما الآن وبالضرورة تكوين قاسم مشترك بينهما. ولكن وبطبيعة الحال تظهر في ذلك جميع الاختلافات الموجودة بين طبيعتيهما - جميع أصولهما المختلفة وأطباعهما. وعلى الرغم من أنَّهما قادران من دون ريب على الكلام، يتَّضح أنَّ لقدرتهما هذه حدودها وأنَّ لتفاهمهما المتبادل حدوده، وفي نهاية المطاف يحدث شيء أشبه حتى بالكفّ عن التضامن فيما بينهما.
نحن نرى ألبرت من خلال عيون أسامة؛ ونرى كذلك أسامة، العراقي، من خلال عيون ألبرت. ويبدو ألبرت في ذلك كتجسيد للغربي الذي يضفي على "الشرق" وبسذاجة خطيرة طابعًا مثاليًا. فهل ينطبق هذا الانطباع عليهما؟
شيركو فتاح: أعتقد أنَّ ما ينطبق على ألبرت أكثر هي قناعته بأنَّه أَعرف من الجميع في الأمور الإيديولوجية. فهو يسافر بحقيبة صغيرة، ويسير على خطى والده الجبّار، غير أنَّه بعد ذلك لا يكون قادرًا في الحقيقة على إدراك الآخر، وذلك لأنَّه قد عُبِّئ تمامًا بالأفكار الاشتراكية المتأخرة التي تم تبطينها أيضًا ببطانة مشكوك فيها. أمَّا والده فقد كانت لديه نظرة جميلة إلى العالم، لا تشوبها شائبة؛ لكنها لم تعد سارية بالنسبة لألبرت. مع ذلك فهو لا يجد أي بديل. وهكذا فإنَّ بحثه عن الحقيقة أو عن الواقع هو أيضًا في نهاية المطاف بحث عن الذات. وهذا أمر لا توجد له علاقة كبيرة مع الواقع. وهذا ما أردت إظهاره.
هل يجب إذًا فهم رواية "المكان الأخير" من ناحية التفاهم الثقافي على أنَّها رواية متشائمة؟
شيركو فتاح: هناك مشهد صغير مع الصبي الصامت، الذي لا يستطيع ألبرت الحديث معه. كانت نجاته قريبة؛ لكن ألبرت لم يكن قادرًا على فهم ما الذي يريده منه هذا الصبي. فلو أنَّه اتَّبعه فقط -وهذا بالذات أمر صعب في الغربة- لكان تفاجأ. على هذا النحو يحمل معه حكمه المسبق، وذلك فقط وببساطة لأنَّه لا يستطيع الحديث مع الصبي. وهذا هو النمط الذي تعمل بحسبه هذه الرواية: فهي رواية حول سوء التفاهم بين الثقافات.
روايتك هذه لا تقفز متنقلة فقط بين الحاضر والماضي، بل كذلك بين العراق وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) البائدة. فهل ترسم شكلاً من أشكال الخطوط المتوازية بين الأنقاض العقلية التي خلّفها انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية وكذلك انهيار العراق؟
شيركو فتاح: نعم، ولكن مع جميع الاختلافات. بيد أنَّني أعتقد أنَّ الآليات الأساسية هي دائمًا نفسها. تفكُّك المجتمعات يعني أكثر بكثير من مجرَّد خسارة أفكار. فهو يعني خسارة الامتيازات والوظائف والأمان. إنَّ ما كان يهمني هو هذا الانتقال بين النظم الفكرية - وهذه التجربة مؤلمة بالنسبة لألبرت. فهو يتوق في الحقيقة طوال الوقت إلى الأمن الذي كان ينعم به والده في السابق. من الصعب على أسامة فهم ذلك - لأنَّه لا يعرف هذا الأمن. وبالنسبة له يعتبر هذا فقدانًا للواقع. ولذلك فقد وجدت من المناسب كثيرًا جمع هاتين الشخصيتين في مكان واحد.
مثلما كانت روايتك "السفينة المظلمة"، جاءت أيضًا روايتك (الصادرة عام 2014) "المكان الأخير" بالغة الأهمية: يرمز عبد، وهو أحد الخاطفين، إلى جميع الإسلامويين الذين يتحسّرون على بلاد ما بين النهرين القديمة ويتَّبعون آراءً أصولية لا تعرف سوى العدو أو الصديق. هل كنت تتوقع حدوث التّطورات الحالية (في عام 2014) في العراق؟
شيركو فتاح: كان من الممكن أيضًا أن يظهر أنَّ هناك أعوامًا من سلام غريب سوف تأتي - سلام رغم أنَّه مهدَّد ولكنه متين على نحو ما. غير أنَّني مع ذلك كنت متأكدًا، وقد وصفت لهذا السبب في هذه الرواية خلفيات تاريخ حركة الدولة الإسلامية في العراق والشام. إذ إنَّهم هم أنفسهم: الخاطفون الذين خطفوا ألبرت، هم في نهاية المطاف طلائع هذه الحركة. ومن تنظيم القاعدة في العراق نشأت هذه الدولة الإسلامية في العراق والشام، على أية حال فيما يتعلق بالعراق. وقد فعلتُ ذلك عن قصد - لأنَّني كنت أعرف أنَّهم سوف يعودون في نهاية المطاف إلى الحدود القديمة التي أنشأت الشرق الأوسط في شكله المعروف لنا.
غير أنَّ مشروع هؤلاء الإسلامويين بكامله يعتبر في النهاية معقدًا أكثر بكثير مما يريد تصديقه الكثيرون في الغرب. صحيح أنَّه يُختزل في الدين، ولكنه أيضًا ومن دون ريب مشروع ثوري اجتماعي وهو كذلك معارضة أصولية مناوئة للغرب - مؤسّسٌ على أسس عميقة جدًا ومنتفع كثيرًا من جميع "الدول الفاشلة" ومن جميع المناطق التي لا يمكن السيطرة عليها في تخوم هذا النظام العالمي، بحيث أنَّه سيصبح على الأرجح واحدًا من الموضوعات الحاسمة في العشرة أعوام القادمة.
هل تجرؤ على إلقاء نظرة إلى المستقبل؟
شيركو فتاح: في الوقت الراهن من المحتمل تفكّك البلاد. لا أستطع القول ما هو الجيِّد وما هو السيء في ذلك. ومثلما نعلم جميعنا، فقد وقعت دائمًا اضطرابات في العراق. لماذا يجب على المرء التمسّك بحدود قائمة منذ مائة عام؟ هذا هو السؤال الذي من الممكن أن يطرحه الأكراد الآن في المرحلة الراهنة. فهم قادرون الآن على إعلان دولتهم. ولكنني أعتقد أنَّه لن تكون هناك علاقة جوار سلمية مع الإسلامويين المتطرّفين، سواء أكان للأكراد دولتهم أم لا.
حاورته: كلاوديا كراماتشيك
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014
رواية الكاتب شيركو فتاح Sherko Fatah روايته " المكان الأخير " Der Letzte Ort، صدرت عن دار نشر لوشترهاند ليتيراتور هاوس Luchterhand Literaturhaus، سنة 2014، في 288 صفحة، تحت رقم الإيداع:
ISBN: 978-3-630-87417-3
ولد الكاتب شيركو فتاح لأب كردي من كردستان العراق وأم ألمانية. أمضى الأعوام الأولى من طفولته في ألمانيا الشرقية. ويعيش في برلين، حيث يعمل ككاتب حرّ. ومن رواياته أيضًا: رواية "السفينة المظلمة" ورواية "أرض بيضاء".