تلاحم سوري موسيقي شجي غجري عربي كردي

غلاف ألبوم فرقة "ترف سيريانا" السورية الغجرية.
غلاف ألبوم فرقة "ترف سيريانا" السورية الغجرية.

قد يبدو اشتراك موسيقيين غجر مع سوريين بأي شيء أو امتزاج موسيقاهم فكرة مستبعدة صعبة التصديق لكنها سرعان ما تتبدد عند سماع أول أغاني فرقة تَرَف سيريانا. ريتشارد ماركوس استمع إليها لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: ريتشارد ماركوس

لطالما كان غجر الروما رحالة منحدرين في الأصل من شمال الهند (راجستان) وهاجروا تدريجياً غرباً بحثاً عن حياة أفضل. مروراً عبر الشرق الأوسط وتركيا، شقّوا طريقهم بالتدريج إلى البلدان الأوروبية التي نعتبرها أوطانهم: رومانيا وهنغاريا (المجر) وفرنسا واسبانيا وإيرلندا. وعلى طول طريقهم لم يؤثّروا على موسيقى وثقافة الأماكن التي سافروا خلالها فحسب، بل أيضا تشرّبوا بما شاهدوه وسمعوه. يروي الفيلم الرائع "رحلة آمنة/Latcho Drom" للمنتج الفرنسي الجزائري توني غاتليف، قصة هذه الهجرة الموسيقية.

لكن موسيقيي الشرق الأوسط وغجر الروما لا يجمعهم تاريخ جغرافي فحسب، بل يستخدمون كذلك العديد من الآلات ذاتها عند تأليف موسيقاهم. وبصرف النظر عن تلك الآلات الموسيقية العالمية المعروفة -كالغيتار والكمان مثلاً- فإنهم يعزفون نماذج متشابهة من السنتور والدربوكة (الدربكة). فبدلاً من السنتور تستخدم العديد من الفرق الغجرية الكيمبالوم، وتقابلها آلة القانون في العالم العربي، والآلتان تشبهان السنتور.

أما الموسيقيون الأربعة الأساسيون في فرقة ترف سيريانا فهم: عمر أبو عفش يعزف الكمان، ونويمي براون تعزف التشيلو، ونعيم شنور الذي يعزف القانون، إضافة إلى سيرجيو بوبا على الأوكورديون، ويقدّم كل منهم مواهبه وتاريخه الشخصي إلى هذا المشروع. كان أبو عفش، وهو لاجئ سوري يعيش الآن في مونتريال/كندا، عازف كمان مع الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، بينما كان شنور أستاذ موسيقى يُعلِّمُ العزف على القانون في سوريا قبل انتقاله إلى مونتريال/كندا.

غلاف ألبوم فرقة "ترف سيريانا" السورية الغجرية. Cover of Taraf Syriana's "Taraf Syriana" (source: www.tarafsyriana.com/)
يعود تاريخ وجود الغجر في الشرق الأوسط إلى قرون مضت ولا تشكّل سوريا استثناءً. قبل الحرب الأهلية كان هناك ما يُقدّرُ بنحو 250 ألف من الدوم (كما يُسمى المجتمع الغجري) يعيشون في سوريا. وواحدة من أغاني الألبوم "تانغو الوفاء"، من ألحان محمد عبد الكريم، أحد أشهر الفنانين والملحنين السوريين.

كما أنّ للجزء الغجري من الفرقة خبرات ومؤهلات مماثلة، وكلمة "تَرَف" تعني باللغة الرومانية (وهي لغة من اللغات المتعددة التي يتحدثها شعب الروما) فرقة أو مجموعة. فبوبا -المولود في مولدوفا- يُعتبر من الموهوبين في العزف على أكورديون غجر الروما، وهو مثل زملائه السوريين في الفرقة يعيش الآن ويُعلِّمُ في مونتريال. بينما براون تدرّبت بشكل كلاسيكي في أوروبا وفي كندا، كما أنّها من المُبتَكِرين في مجال الموسيقى. إذ صمّمت، وتعزف على، آلة تشيلو من 6 أوتار تسمى سيستاركوردا (sestarcorda)، موفّرة بذلك نغمات أكثر للآلة، وبالتالي تُساعد في خلق الصوت الفريد للفرقة.

يعود تاريخ وجود الغجر في الشرق الأوسط إلى قرون مضت، وسوريا ليست مُستثناة من ذلك. قبل الحرب الأهلية، كان هناك ما يُقدَّر بحوالي 250 ألف من الدوم (الضوم) (الاسم الذي يُطلق على المجتمع الغجري) يعيشون في سوريا. من بين المقطوعات التي يضمّها الألبوم "تانغو عبد الكريم (تانغو الوفاء)"، من تأليف محمد عبد الكريم (أمير البُزق)، وهو واحد من أشهر الملحنين والفنانين السوريين.

تعزيز التقدير لموسيقى غجر الروما

عند الاستماع إلى مقطوعة "تانغو عبد الكريم/ تانغو الوفاء"، قد يُغفر لك اعتقادك بأنها قد كُتِبت في بوخارست أو أي مدينة بلقانية أخرى نربطها عادة بغجر الروما. فهي تبدو مُطابقة للأغاني التي نسمعها من تلك الأجزاء من العالم منذ سنوات. لكن الأغنية كتبها ملحن سوري. هل كانت هذه الموسيقى تُعزف في مقاهي في دمشق في الوقت ذاته الذي كان فيه معاصرو كريم في رومانيا يعزفون موسيقى مماثلة في أماكن مماثلة؟

لا يغيّر هذا من فهمنا لنوع الموسيقى التي تُعزف ويُشاد بها في سوريا فحسب، بل إنه يُعزِّزُ أيضاً من تقديرنا لموسيقى غجر الروما. فهي موسيقى ارتحلت عبر أماكن واسعة، وأصبحت متأصّلة بعمق في النسيج الثقافي للبلدان التي سواء عاش فيها غجر الروما أو مرّوا بها. وتمثِّلُ كل أغنية من الأغاني العشر في الألبوم هذا التلاحم والتداخل الرائع والشجي إلى حدٍّ ما. كما تجسّد هذه الموسيقى أيضاً الشعور الخفي لانعدام الجنسية الذي يشعر به كل من غجر الروما واللاجئين. لماذا تجد مثل هذه الموسيقى في كل مكان؟ لأنّ الغجر أُجبِروا على التجوال.

على الرغم من ذلك، فإنّ الموسيقى في الألبوم هي متعة للمستمعين. لا تقصرُ الفرقة ذخيرتها الفنية على أغانٍ من سوريا وبذلك تأخذنا في رحلة موسيقية عبر الشرق الأوسط وأوروبا. فالأغنية الثانية في الألبوم "كيفوكه (الحمامة)"، هي أغنية كردية شعبية، بينما الأغنية الافتتاحية في الألبوم Me Dukhhap Tuke يغنيها المغني الغجري دان أرميانكا باللغة الرومانية. كما ينضم أرميانكا للفرقة في أغنية أخرى من أغانيه، أغنية Sare Roma، وهذه المرة بلغة الروما. والأغنيتان عبارة عن مقطوعات حيّة تجعل الأقدام تنقر بشكل لا إرادي. فتدعونا بذلك أغنية Sare Roma إلى النهوض للرقص والاستمتاع.

غناء صادق نابع من القلب

تأخذنا أغنية "قدُّك الميّاس" بشكل أعمق إلى الجانب العربي من الفرقة: كتبها الملحّن العراقي الملا عثمان الموصلي، كلماتها تصف تجربة الافتنان بالجمال. وتجذبنا هذه الأغنية، التي غناها المطرب الضيف أيهم أبو عمار، بالغناء النابع من القلب وبمرافقة موسيقية جميلة.

وكما هو الحال في العديد من الأغاني الأخرى في الألبوم، يتجسّد صوت الفرقة مع موسيقيين إضافيين: يقدّم محمد راكي الإيقاع بالدربوكة خاصته، كما يكمل نزيه أبو الريش الموسيقى بعوده. وتضفي هذه الطبقات الإضافية من الموسيقى المزيد من الشعور والعمق. وحتى بدون فهم كلمات الأغاني تصلنا المشاعر المُعبّر عنها.

 

 

وحتى حين لا يرافق فرقة ترف سيريانا موسيقيون آخرون تحتفظ بقوتها العاطفية. والأغنية الختامية للألبوم Dialogue Intimes عبارة عن مقطوعة جميلة واستبطانيه. تتحرك فيها الموسيقى ببطء متّبعة مسارها الخاص. فيبدو كما لو أنّ كل آلة تروي لنا جزءاً من قصة، وتحملنا في رحلة لتجتاحنا المشاعر التي يعيشها الناس خلال بحثهم عن الانتماء والوطن الجديد.

وأغنية ترف سيريانا -التي تحمل اسم الفرقة ذاته- هي أغنية رائعة. تستحقُّ كل أغنية اهتمامنا. فهي أغانٍ معبّرة وعاطفية وتُعزفُ بتأّلق مطلق من قبل مجموعة من الموسيقيين الموهوبين بشكل مذهل. وليست الأغاني رائعة فحسب، بل تمكنت أيضاً بطريقة ما من مزج ثقافتين معاً بشكل جميل وسلس.

في عالم يبدو للأسف وقد أصبح أكثر إثارة للانقسام فإنّ هذا العمل الفني الجميل الذي يحتفل باجتماع الناس معاً هو عمل ينبغي بالتأكيد سماعه. والألبوم عبارة عن ألبوم موسيقي رائع يجلب الفرح لأي شخص يستمع إليه.

 

 

 

ريتشارد ماركوس

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de