بُعبع الجهادية والكراهية في حملة الانتخابات الفرنسية
نزل يوم الجمعة (24 مارس 2012) نحو ستة آلاف شخص، من يهود ومسلمين ومسيحيين وعلمانيين، إلى شوارع مدينة تولوز الفرنسية، للتظاهر ضد الإرهاب والتعصب وضبابية المواقف. هذه المسيرة كانت أحد المسيرات العديدة التي نُظمت في عدة مدن فرنسية على مدى الأيام الماضية، وشاركت فيها طوائف دينية وناشطون حقوقيون ولجان مكافحة العنصرية. ومن خلالها يريد الكثيرون إرسال رسالة مفادها أنهم لن يقبلوا بأن يحرضهم متشددون وساسة ضد بعضهم أثناء حملة الانتخابات الرئاسية.
في تولوز قام شاب فرنسي من أصول جزائرية يبلغ الثالثة والعشرين من العمر بقتل سبعة فرنسيين بدم بارد، بينهم جنديان مسلمان وحاخام وثلاثة أطفال يهود، وذلك في بحر أسبوعين. وبعد 32 ساعة من حصار نفذته قوات أمنية فرنسية خاصة، قتل محمد مراح، الذي كان يصف نفسه بأحد "مجاهدي القاعدة"، برصاص الشرطة التي اقتحمت الشقة التي كان يتحصن فيها. كلما اقترب المرء من قلب الحدث، كلما شعر بازدياد التعقل. بيير كوهين، عمدة مدينة "فيل روز" الفرنسية المعروفة بتسامحها والتعايش المشترك بين جميع الفئات دون بغضاء، طرح الحل، إذ قال: "يجب أن تستمر الحياة، لكننا في نفس الوقت لن ننسى ذلك على الإطلاق". لقد بات الخوف من هذا المزيج من الدين والإرهاب وكره الأجانب على كل لسان.
التوظيف السياسي
وهذا له أسبابه، فمجلة "فيغارو" المقربة من الحكومة عنونت غلاف عددها الخاص حول أحداث تولوز "هؤلاء الجهاديون الذين يهددون فرنسا". كما أعلنت المرشحة الرئاسية لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لو بان، أن "الخطر الأصولي يستهان به في فرنسا. لهذا أصبح من واجبنا محاربة مثل هذه المجموعات الأصولية". في مقابل ذلك دعا الرئيس الحالي والمرشح الرئاسي نيكولا ساركوزي، الذي يتزعم حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" اليميني، إلى الوحدة الوطنية، وذلك بُعيد مهاجمة شقة مراح وقتله، وطالب الفرنسيين بتجاوز سخطهم والتحكم بغضبهم. وتابع ساركوزي: "إن مواطني البلاد المسلمين ليس لهم أي علاقة بالدوافع المجنونة لإرهابي". ومنذ ذلك الوقت حوّل ساركوزي الحرب على "الإرهاب الوحشي" إلى محور حملته الانتخابية. أما مقولته المثيرة للجدل، التي أشار فيها إلى أن فرنسا لديها عدد مبالغ به من الأجانب، فلم يقم بتكرارها حتى الآن.
أما المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند، فقد رفض توظيف الخوف على الإطلاق، متهماً خصمه السياسي ساركوزي باللعب بنار تهميش الأقليات. وأضاف هولاند: "منذ عشر سنوات لم يتغير الوضع، بما في ذلك الافتقاد إلى مبادرات الاندماج. هذه مسؤوليتهم (في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية)". لكن هولاند أعلن حرباً على الإرهاب أيضاً، مشيراً إلى أن "الجمهورية (الفرنسية) لن تترك الإرهاب وحده وستنتصر (عليه)". لقد تحولت الحرب على الإرهاب – خاصة الإرهاب الإسلاموي – بين ليلة وضحاها إلى أهم مواضيع الحملة الانتخابية.
قلق من تزايد الخوف من الإسلام
وهذا ما يخيف المسلمين في فرنسا، الذي يبلغ عددهم نحو خمسة ملايين شخص. فهم يتذكرون ما آلت إليه أوضاع المواطنين المسلمين في الولايات المتحدة عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، عندما تمت ملاحقة الإرهابيين والإسلامويين هناك. ويرى محمدو دافيه، إمام مسجد باسو-كامبو في جنوب تولوز، أن الخوف من الإسلام في المجتمع عقب هذه الأحداث آخذ في الازدياد، وهذا ما بات إخوانه في الدين يخشونه. ويقول دافيه: "إنهم يعانون. إنهم حزينون. الناس ينظرون لهم بشكل مختلف، ويشيرون بأصابعهم إليهم. بعضهم تعرض لاعتداءات لفظية".
لكن أستاذ العلوم السياسية جان فيارد لا يعتقد أن البلاد ستشهد تفجراً للعنف ضد المسلمين، إلا أنه يعتبر أن الخطر الأكبر هو الانعزال المتزايد للجالية المغاربية في الحياة اليومية، ويعني بذلك "فرص العمل، أو التحقق من الهوية أو السماح بدخولهم إلى الملاهي الليلية، على سبيل المثال". ويؤكد فيارد أن فرنسا اليوم ليست عنصرية أكثر مما كانت عليه قبل 20 عاماً، لكن الأجواء الحالية لا تبعث على الارتياح.
وفي إشارة إلى أن فرنسا لم تعد ترحب ببعض ممثلي التيارات الإسلامية الأصولية على أراضيها، وصف نيكولا ساركوزي الداعية القطري الشيخ يوسف القرضاوي بأنه شخصية غير مرغوب بها في فرنسا، إثر تلقي القرضاوي دعوة لحضور مؤتمر ينظمه اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا في أبريل. ويُعرف القرضاوي المتزمت بتصريحاته المعادية للسامية وتأييده للهجمات الانتحارية الفلسطينية في إسرائيل.
البحث في التاريخ
إن تصعيد الصراع بين المسلمين وبقية أفراد المجتمع الفرنسي يبدو أمراً لا حياد عنه، خاصة بعد عمقت فاجعة تولوز جراحاً قديمة، كون محمد مراح وشقيقه عبد القادر، المتهم بالتواطؤ في تنفيذ الهجوم، ينحدران من أصول جزائرية، حتى وإن كانا مولودين في مدينة تولوز. فالحرب الجزائرية بين سنتي 1954 و1962، التي انتهت باستقلال الجزائر، لا تزال تخلف ذكريات سيئة لدى معظم الفرنسيين. وبحسب الإحصاءات الفرنسية الرسمية قتل نحو 17 ألف جندي فرنسي خلال هذه الحرب، فيما قتل نحو 141 ألف شخص على الجانب الجزائري.
لكن جبهة التحرير الوطني الجزائرية تتحدث عن 300 ألف ضحية سقطوا في هذه الحرب. لقد تنافس مقاتلو المقاومة والأجهزة الأمنية والقوة الاستعمارية الفرنسية في ارتكاب الفظائع هناك، إلا أن الكثيرين من كبار السن في فرنسا، ومنهم من حارب في الجزائر، وأفراد عائلاتهم، يشددون باستمرار على الطبيعة الشريرة والعنيفة للجزائريين، إذ يقول أحد الجنود الفرنسيين الذين حاربوا في الجزائر، والذي طلب عدم ذكر اسمه: "الجزائريون يختلفون عنا، فلا يمكن الوثوق بهم. تارة يكونون جيراناً طيبين، وما أن تدير ظهرك لهم يبادرون بطعنك". انعدام الثقة هذا جزء ليس بالهين من الوعي الجماعي للفرنسيين.
حتى وإن كان محمد مراح رسمياً حالة فردية مجنونة، ولا يرتبط بأي شبكة إرهابية إسلاموية أو حتى بتنظيم القاعدة برغم تصريحاته المناقضة لذلك، فإن الفرنسيين أصبحوا غير مطمئنين ومتخوفين من هجمة إرهابية جهادية أو من استيقاظ شبكة من الخلايا النائمة كانت مختبئة بين ظهرانيهم.
وفي هذا الصدد يوضح عدد من خبراء الإسلام والإرهاب منذ أيام خلال وسائل الإعلام أن هذا المشهد مرّ بتغيرات في الوقت الراهن، فالشبكات الجهادية فقدت نفوذها، بحسب ماتيو غيدير، الخبير في الإسلام الأصولي بجامعة تولوز. ويضيف غيدير أن هناك نزعة للتشدد الفردي، وأن معظم الهجمات ينفذها أفراد، إلا أنه يعتبر أن "هؤلاء الأفراد يتصرفون بمنطق استبدادي، إذ إن الجهاديين يطمحون إلى القضاء على كل ما هو مختلف عنهم، وينظرون إليه على أنه غير بشري. فالعدو بالنسبة لهم رمز يجب تدميره".
بعد الأحداث المفزعة في تولوز وما سببتها من شعور بانعدام الأمن، لا عجب أن يحتل الإرهاب والأمن الداخلي مكانة هامة في موضوعات الانتخابات الرئاسية. لكن هل سيحسم هذا الموضوع نتيجة الانتخابات؟ بينما كان ساركوزي ومؤيدوه يحتفلون بتقدمهم الطفيف في استطلاعات الرأي، يتوقع المحلل السياسي رولاند كايرول أن تركز الحملة الانتخابية على هذا الموضوع لوقت قصير، مضيفاً أن "المسائل الاقتصادية والاجتماعية ستعود إلى دائرة الضوء"، خاصة وأن البطالة والقوة الشرائية والصحة لا تزال أحد أهم المواضيع بالنسبة للناخب الفرنسي. لكن أحد أهم وأصعب مهمات الرئيس الفرنسي الجديد ستبقى معالجة الجراح التي سببتها أحداث تولوز، لأن المجتمع الفرنسي بات غير قادر على تحمل مزيد من الانشقاقات.
بيرغيت كاسبر
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: موقع قنطرة 2012