أبحروا باتجاه أوروبا تاركين عشيقاتهم دون وداع

رجال أبحروا على متن زورق خشبي دون علم حبيباتهم. لم تسنح الفرصة لأي منهن أن تودع حبيبها، أو أن تثني عزمه عن الإقدام على مصير من النادر أن ينتهي على خير. وعوضا عن البقاء في أوروبا كالأشباح الحية يُكتب على الرجال العودة إلى وطنهم على هيئة "جن". أديلا لوڤريتش شاهدت الفيلم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Adela Lovric

نَشهَدُ في الفِيلم عَمَلِيَّة التَّشيِيد الفجَّة لِبُرج "مُوِيجِيزَا" [بِمَعنَى "المُعجِزَة"] الشَّاهِق والباذِخ ذي الطَّابَع المُستَقبَلِيّ لِيَعتَلِي مِنطَقَة جَرداء قُرب العاصِمَة داكار. يَرمُز هذا البُرج إلى ظُهُور مِنطَقَة ثَّرِيَّة كتِلك الأحياء الباذِخَة في السّنغال، والتي يُخبِرنا الفِيلم بأنَّها ستَرَى النُّور عام 2035 – تِلك العَجرَفَة المُتَطَفِّلَة لِثُلَّةٍ مِن أثرياء السّنغال، الذين يَدفَعُون بِبَلَدِهِم المُثقَل باللامُساواة إلى حالةٍ مِن التَّطهِير الاِقتِصادِيّ والطَّبَقِيّ.

يَتَجَلَّى هذا التَّمايُز بِجَمالٍ بالِغ في المَشهَد الاِفتِتاحِيّ للفِيلم. فنُشاهِد صُوَرًا ظِلِّيَّة درامِيَّة وأَسطُحًا مُتَوَهِّجَة تَتَلاشَى خَلف سِتارٍ مِن الغُبار المُتَصاعِد مِن الطُّرُق غير المُعَبَّدَة، فيما يَتَمازَج طَنِينُ آلات البِناء المُتَواصِل مع خُوارِ البَقَر.

يَتَمَرَّد فَريقٌ مِن عُمَّال البِناء اعتِراضًا على عَدَم استِلام أُجُورِهِم لثلاثة أشهُر مِن عَمَلِهِم في مَوقِع البِناء. يَطفَح اليَأس بسليمان (أداء: إبراهيم ترَاوُرِه)، كما يَتَوَجَّس مِن مَصِيره المَحتُوم، فيُرَكِّز ناظِرَه صَوْب البَحر.

هذا، لأنَّه قد قام مع زُمَلاء له بِتَدبِير خطَّة هُرُوبٍ جَماعِيّ إلى أوروبا. بَينَما لا تَعلَم مَحبُوبَتُه آدَا (أداء: مَامِه بِنِيتَا سَانِه) أيّ شيء عن خطَّة الفِرار هذه، وسَيَترُك لقاؤُها الأخير مع سليمان الكثير مِن الكلام الذي لم يُنطَق والخُطَط التي لم تُنَفَّذ بَعد.

"المُلصَق الدِّعائِيّ لفِيلم "أَتلَانتِيكسْ" (توزيع: نِتفلِيكسْ) (distributed by Netflix)
سِتارَةٌ خَلفِيَّة وكَينُونَةٌ غامِضَة: المُحِيط الأَطلَسِيّ بَحر سَوداوِيّ لِلغايَة؛ فهو مَقبَرَة جَماعِيَّة تَحمِلُ داخِلها ذِكرَيات المَوت المُفجِع مِن تِجارَة الرَّقِيق ومِن إلقاء الشَّباب بأنفُسِهِم إلى تَهلُكَة الأمواج، في مُحاوَلات بائِسَة مِنهُم للوُصُول إلى شَواطِئ أوروبا. حَدَثَ هذا، ومازال يَحدُث، رَغم كُلّ التَّحذِيرات مِن المَخاطِر المَعرُوفَة، لِيَبقَى إِغواء الأَطلَسِيّ راسِخًا، لا مَفَرّ مِنه. يُشَكِّل الفِيلم الرِّوائيّ الأَوَّل والبَدِيع للمُخرِجَة الفرنسِيَّة-السّنغالِيَّة مَاتِي دِيُوپْ عَمَلًا سيِنِمائِيًّا مُرَكَّبًا مِن عَناصِر شَتَّى وضُرُوب مُختَلِفَة، ودراما اجتِماعِيَّة مُبهِرَة تُعالِج الهِجرَات المُعاصِرَة عَبر المُحِيط الأَطلَسِيّ، والتي يَبدُو جَلِيًّا أنَّ أحداثها التراجِيدِيَّة المُطَعَّمَة بالغَيبِيَّات هي الوَسِيط المُسَبِّب لِكُلّ مِن التَّحَوُّل والاِنعِكاس.

في تلك الليلة، تَلتَقِي آدَا بِصَدِيقاتِها في حانَةٍ على شاطئ البَحر على أمَل اللقاء مع مَحبُوبِيهنّ، لكن عند وصولهنّ الحانَة، يَكتَشِفنَ أنَّ الرِّجال قَد أَبحَرُوا على مَتن زَورَقٍ خشبِيّ دُون عِلمٍ مِنهنّ. لَم تَسنَح الفُرصَة لأيّ مِنهنّ أن تُوَدِّع حَبِيبَها، أو أن تَثنِي عَزمَه عن الإقدام على مَصِيرٍ مِن النَّادِر أن يَنتَهِي على خَير. 

الوُقُوع في المِصيَدَة

بَعد فَترَة وَجيِزَة، تَلُوحُ في الأُفُق قِصَّة مُفادها أنَّ جُثَّة سليمان الهامِدَة قد عَلِقَت في إحدى شِباك الصَّيد. يَبدُو أنَّ هذا البَحر الرَّهيب قَد اِبتَلَعَ، ثُمّ لَفَظَ، جَسَد سليمان كامِلًا. تُحاوِل آدَا مَكُسورَة الخاطِر أن تَتَأَقلَم مع حُزنِها، فِيما تَقُوم عائِلَتُها بِتَدبِير زَواجٍ تَقلِيدِيّ لزِفافِها على عُمَر (أداء: بَابَاكَار سِيلَّا)، رَجُل الأعمال الذي لا تُحَرِّكه المَشاعِر والذي لا يَتَوانَى عن التَّبَجُح بِثَروَتِه التي كَوَّنَها مِن عَمَلِه في الخارِج.

لا تَهْتَمّ الوالِدَة برَفضَ اِبنَتِها المُراهِقَة هذا الزَّواج؛ فَهِي تَجِد فِيه حَلًّا مَنطِقِيًّا لِمُستَقبَل آدَا المَالِيّ المُبهَم. هُنا، يُصبِح تَشابُك الأَبَوِيَّة والرَّأسمالِيَّة شَيئًا مَلمُوسًا عند هذه الصَّبِيَّة الواقِعَة في شَرَك السَّطوَة القَمعِيَّة للنِّظامَين مَعًا.

تَمضِي أحداث الفِيلم يَوم الزِّفاف لِتَدخُل عالَم الغَيب. تَندَلِع نِيران غامِضَة في غُرفَة عُمَر، فيُؤَجِّج هذا الحَدَث المَشؤُوم الضُّغُوط بين صَدِيقات آدَا المُحافِظات والأُخرَيات المُتَحَرِّرات جِنسِيًّا. شُكُوك مُفَتِّش الشُّرطَة بِضُلُوع آدَا وسليمان فيه تَدفَع عائِلَةَ عُمَر إلى الإصرار على خُضُوع آدَا لِفَحصٍ وَحشِيّ لِكَشف عُذرِيَّتِها.

عَودَةٌ مُرَوِّعَة

تَرَى أعيُن المُهاجِرين الأفارِقَة أوروبا سَرابًا وَهمِيًّا يَلُوح في الأُفُق، لكنَّه سرعان ما يَختَفِي عند الِاقتِراب مِنه. وعِوَضًا عن البَقاء في أوروبا كالأشباح الحَيَّة، يُكتَبُ على رِجال "أَتلَانتِيكسْ" العَودَة إلى وَطَنِهِم على هيئةِ "جِنّ" يَسعَونَ بِدَورِهِم لتَحقِيق العَدالَة، أَيًّا كان الثَّمَن.

تَكتَشِف آدَا مُبَكِّرًا أنَّ سليمان قَد عادَ كجِنّيّ، بَعدَ أن تَضَرَّعَت لله باكِيَةً على أمَلِ عَودَة الوِصال. في هذا التَعَوُّج الغَيبِيّ لِأحداث الفِيلم، نَجِدُ أنَّ المُخرِجَة قَد استَمَدَّت وَحيَها مِن الأُسطُورِيَّات ما قَبل-الإسلامِيَّة والعَرَبِيَّة ثُمّ الإسلامِيَّة. فالجِنّ في هذا السِّياق هو مَخلوق لا طَيِّب ولا شرِّير، مَولُود مِن نار وهَواء، قادِر على التَّحَوُّل وعلى مَسّ مَعشَر البَشَر.

 

 

 

يُقَرِّرُ سليمان العائِد في صُورَة جِنِّيّ أن يَسكُنَ جَسَد مُفَتِّش الشُّرطَة عِيسَى (أداء: أَمَادُو إِمبُو). يَقُومُ سليمان بِاستِغلال هذا التَّقَمُّص كي يَحظَى بِلِقاءٍ أخِير مع آدَا، لِنَصِل هُنا أمام حَدَثٍ يَبلُغ الأَوج في مَشهَدٍ يُعتَبَر مِن أَشَدّ المَشاهِد التَّمثِيلِيَّة تَأثِيرًا.

ثُمّ يُرفَع مِزاج هذا اللقاء إلى ذروَةٍ مِن التَّفرِيغ العاطِفِيّ عَبر مُوسِيقى تَصوِيرِيَّة أَخَّاذَة مِن وَضع المُلَحِّنَة الكويتِيَّة فاطمة القادريّ.

عادَ كذلك رِجالٌ آخَرُون كالجِنّ، لِيَسكُنُوا أجسادَ حَبِيباتِهِم في الليل، انتِقامًا مِن التَّاجِر الجَشِع الواسِع الثَّراء. نَجِدُ الحُدُودَ الجِسمانِيَّة وقَد اِنتُهِكَت دُونَ استِئذان، وفي تَشابُهٍ مَع ذات الأُسلُوب الذي يَتِمّ مِن خِلالِه مُراقَبَة النّسوَة، والتَّحَكُّم فِيهنّ، والتَّعَدِّي عَلَيهنّ وَفقَ تَشرِيعاتٍ دِينِيَّة وأَعرافَ أَبَوِيَّة طاغِيَة.

بَيدَ أنَّهن كَمَمسُوسات مِن الجِنّ، لا مَملُوكات مِن الإنس، قَد تَمَكَّنَّ مِن أن يُصبِحنَ مُحَكَّمات يَقضِينَ بِإقامَة العَدل.  

يُبحِرُ أُسلُوب مُعالَجة الهِجرَة في الفِيلم بِالمُشاهِد إلى ما وراء الفِرار الأَطلَسِيّ. فالمُعالَجَة السِّينِمائِيَّة هُنا تَدُلُّ ضِمنًا على هِجرَة الاِنتِقال بَين البَدَن والرُّوح، في مُحاذاةٍ مع التَّسَلسُل الجِندَرِيّ المُتَنَوِّع ومِحوَر القُوَى المُتَناحِرَة، كما الِارتِحال إلى أنماط مُختَلِفَة مِن الحَياة الآجِلَة.

بُلُوغٌ ونُضُوجٌ مِن نَوعٍ آخَر

تَدُور أحداثُ الفِيلم في داكار، مِمَّا يَكشِف لنا عن جَوانِب مُتَعَدِّدَة لعاصِمَة السّنغال، هذه المَدِينَة التي مِنها هاجَر والِد المُخرِجَة، المُوسِيقِيّ وَاسِيسْ دِيُوپْ، إلى فرنسا أثناء سَبعِينِيَّات القَرن الماضِي. إذًا، نحن في المكان الذي اختارَته المُخرِجَة ليَشهَد أحداث اﻟ "ماذا لَو؟"، وكذلك التَّوَقان بِحُرقَةٍ جَيَّاشَة إلى روايَةٍ أُخرَى غَير تِلك التي عاشَتها دِيُوپْ أثناء مَرحَلَةِ بُلُوغِها. 

تَضَعُنا دِيُوپْ شُهُودًا على تَناقُضات صارِخَة: فنُشاهِد الجَمال والأنقاض خَلفَه، والشَّباب المُستَغَلّ مِن قِبَل الأنظِمَة الفاسِدَة، والتَّحَرُّر الدُّنيَوِيّ مُقابِل التَّحَفُّظ الدِّينيّ، والجِنسانِيَّة الأُنثَوِيَّة المُتَحَدِّيَة للمُجتَمَعِيَّة الأَبَوِيَّة، والماضِي صَعب النِّسيان أمام المُستَقبَل بَعِيد المَنال.

هذه النِّهايَة المُوجِعَة للحِكايات المُتَداخِلَة تُتِيحُ الفُرصَة لِتَحَوُّلِ القُوَى في الرِّوايَة بِناءً على خُطُوط الصَّدع فيها، فيما تَتَلاشَى بالتَّدرِيج حَيَوِيَّة المَدِينَة السَّاحِلِيَّة في جَزِيرَة كَابُو ڤِيردِي (جُمهُوريَّة الرَّأس الأخضَر) أمام عُنفُوان الأمواج المُتَصاعِدَة مِن المُحِيط المَهِيب.

 

 

يَظهَرُ المُحِيط في الفِيلم كخَلفِيَّة دائِمَة وكِيان غامِض؛ فهو نِدٌ جَبَّار لِلعَمُودِيَّة الذُّكُورِيَّة المُفرِطَة التي تُمَيِّز بُرج "مُوِيجِيزا". فَالأَطلَسِيّ مُحِيط سَوداوِيّ لِلغايَة؛ هو مَقبَرَة جَماعِيَّة تَحمِلُ داخِلها ذِكرَيات المَوت المُفجِع مِن تِجارَة الرَّقِيق ومِن إلقاء الشَّباب بأنفُسِهِم إلى تَهلُكَة الأمواج، في مُحاوَلات بائِسَة مِنهُم للوُصُول إلى شَواطِئ أوروبا.

يَتَحَطَّم ويَختَفِي كُلّ شيء أمام قُوَّة المُحِيط الجَسِيمَة. رَغم كُلّ التَّحذِيرات مِن المَخاطِر المَعرُوفَة، يَبقَى إِغواء هذا المُحِيط راسِخًا، لا مَفَرّ مِنه.

مَوجَةُ جَدِيدَةٌ مِن السِّياسَة التَّمثِيلِيَّة

يَغمُرُ المُشاهِد المُتَعاطِف مع المَوهُوبَتَين مَامِه بِنِيتَا سَانِه ومَاتِي دِيُوپْ، المُتَشَرِّبَتَين لِشَخصِيَّة آدَا بِحَمِيمِيَّة مُطلَقَة، فَيضٌ مِن العَواطِف عند سَماعِه كلمات آدَا الأخيرة وهي تُحَدِّقُ فِي الكامِيرا بِنَظَرٍ ثاقِب: "آدَا، والمُستَقبَل أمامها." فمُستَقبَل آدَا هو فِعلًا مُلك لها. هو مُلكُ حَملَقَة تلك الأُنثَى المُحَرَّرَة مِن قُيُودِ المُجتَمَع والاِستِعمار، على حَدِّ السَّواء.

بِفَضلِ إبداعِها في فِيلم "أَتلانتِيكسْ"، استَطاعَت مَاتِي دِيُوپ أن تَتَأهَّل لمُسابَقَة جَوائِز "الأُوسكار" لعام 2019 ولمِهرَجان "كان" السِّينِمائِيّ، فَأصبَحَت بذلك أَوَّلَ مُخرِجَة إفريقِيَّة تَفُوزُ بجائِزة اﻟ "غراند پرِي" للمِهرَجان.

وبَعد أشهُر مِن إذهال مُنَظِّمِي المِهرَجانات الكُبرَى، تَمَكَّنَ فِيلمُها مِن الوُصُول إلى مِنَصَّة "نِتْفلِيكسْ" الإلكترونِيَّة لِعَرضِ الأفلام. هذا الحُضُور القَوِيّ، بِالإضافَة إلى الاِحتِفال بِالرُّؤيَةِ الاِستِثنائِيَّة لِديُوپ، يَضَعُنا أمام مَوجَةٍ إبداعِيَّةٍ جَدِيدَة مِن شَأنِها أن تُزَحزِح الأنماطَ التَّمثِيلِيَّة المُوهِنَة التي ما انفَكَّت تَعُومُ في بُحُور المَعايِير السِّينِمائِيَّة السَّائِدَة. 

 

 أَدِيلَا لُوڤرِيتشْ

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:31910]