في مديح البصل

عدت إلى البصل لأنني أخشى من أن يأخذنا الخمول الذي أعقب انتصار الثورة المضادة في لبنان إلى حانة غونتر غراس، فيفقد البصل نكهته، ويتحوّل إلى مجرد دموع تحرق عيوننا بالأسى.

عندما كنا صغاراً، كنا نأكل سندويشات اللبنة بالبصل. طريقة أكل اللبنة مع البصل اختفت في أيامنا هذه لسبب أجهله، إذ صار الناس يفضلون اللبنة مع الخيار. أما الثوم فحافظ على موقعه حيث يُقدم صحن اللبنة المتوّمة، أي اللبنة الممزوجة بالثوم، كجزء من صيغة المازات التي اشتهر بها المطبخ اللبناني.

لكن أهمية البصل في حياتنا لم تتزحزح، فحضوره على موائدنا يتخذ أشكالاً متعددة، كما أنه طعام الفقراء. كانت وجبات العمال السوريين الذين عمّروا مباني بيروت تتألف من الخبز والبصل، وإذا أراد العامل أن يدلل نفسه أضاف حبة بندورة إلى رأس البصل.

لا أدري لماذا يطلقون على رأس البصل اسم الفحل. «فالفحل هو الذكر من كل حيوان، والفِحالة هي الذكورة» كما جاء في المحيط، للمعلم بطرس البستاني. وقد استعار ابن سلام الجُمحي صفة الفحولة ليطلقها على كبار الشعراء العرب في كتابه «طبقات فحول الشعراء»، كما أن صفة الفحل ارتبطت في اللغة المحكية بالشجاعة، فنقول فلان فحل؛ أي شجاع.

أغلب الظن أن تذكير البصلة التي تكتب بتاء التأنيث، يعود إلى أهميتها. وهذا عين الخطأ، فالأهمية تستدعي التأنيث وليس التذكر، فالشمس في لغة العرب مؤنثة، عكس ذكوريتها في لغة الإفرنج، كما أن الحياة مؤنثة، لأن الأصل هو الأنثى.

لكن البصل يعاني حين يُستخدم كاستعارة من التباسات شتى، فهو مهم تارة ونافل تارة أخرى. نقول في أمثالنا العامية «بيسوى قشرة بصلة»، كي نقول إنه لا يساوي شيئاً، ونقول أيضاً عكس ذلك، «البصل أكل الأصَل»، و»البلد يلّي بتوصلها كُل من بصلها»، وإلى آخره…

كل الذين شاركوا في انتفاضة تشرين 2019 في لبنان يذكرون البصل بالخير، والحقيقة أن علاقتي الحميمة بالبصل تجددت في تلك الأيام الجميلة، التي بدا فيها وكأن الأفق اللبناني انفتح على احتمالات التغيير. فكنت ترى مجموعات من الشابات والشبان يوزعون البصل المقشّر والمقطّع على المتظاهرات والمتظاهرين، من أجل مقاومة أثر قنابل الغاز التي كان يطلقها رجال الأمن بكثافة، إلى درجة أنهم استخدموا في الكثير من المرات راجمات، كنا نطلق عليها اسم راجمات الدموع.

البصل لا يحمي من الدموع بل يستجلبه، لكنه في حالتنا اللبنانية كان سلاحاً فعالاً ضد الاختناق بالغاز الذي كان ينبعث من قنابل رجال الأمن. فكنا نقاوم الدموع بالدموع.

دموع الغاز تزيل آثارها دموع البصل.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد ذكرني مشهد الناس الذين يحملون في أيديهم البصل بحانة البصل التي نعثر عليها في رواية غونتر غراس «الطبل».

ففي هذه الرواية تخيّل الروائي الألماني حانة أطلق عليها اسم حانة البصل. بدلاً من أن تقدم هذه الحانة لزبائنها أصناف الخمر المختلفة، فإنها لم تكن تقدم سوى صنف واحد. يُعطى الزبائن صحوناً، وُضع على كل واحد منها رؤوس البصل، ومعها سكاكين. على الزبون أن يقشّر البصل الذي يستدر دموعه، ويجلس وحيداً ويبكي. هكذا يكفّر الألمان عن الجرائم التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية.

فكرة حانة البصل مدهشة، وخطر لي أن أقترحها على الإسرائيليين، علها تساعدهم على التكفير عن جرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين. لكني عدلت عن الفكرة لأنها سابقة لأوانها، فشرط الوصول إلى جماليات حانة البصل هو الهزيمة. لولا هزيمة ألمانيا في الحرب لما كان البصل ممكناً، وهذا يعني أن إسرائيل لم تنضج بعد للوصول إلى هذا المستوى، لكنني على يقين من أنها ستصل يوماً ما.

التجربة اللبنانية خلال انتفاضة تشرين، قدمت صورة عن فضائل البصل تختلف جذرياً عن الصورة التي قدمها الروائي الألماني. فبصلنا كان ثورياً بعكس بصله الذي يصلح للندم.

غير أننا اكتشفنا أن البصل لا يكفي، وهذا سبَّبَ خيبة أمل كبرى. كنا نعتقد أن نظاماً فاسداً يديره مجمع من اللصوص وترفضه الأغلبية الساحقة من الناس، سوف يسقط بمجرد احتلال الناس للشوارع، لكننا كنا على خطأ.

فنظام لا يُبكيه موت الناس وفقرهم وإذلالهم، لن يبكيه البصل، حتى لو أجبرناه على تقشير كل بصل العالم.

يحتل البصل موقعاً يستحق الدراسة في المطبخ المغربي، وهذا ما لا قدرة لي عليه؛ لأنه يحتاج إلى معرفة لا يملكها سوى الثقات، كصديقي العلّامة فاروق مردم بك، الذي قدم لنا تحفتين أدبيتين: «مطبخ زرياب»، حيث شرح لنا أهمية البصل في المطبخ المغربي، و»كتاب الحمص» الذي صدرت مؤخراً ترجمته إلى لغة العرب.

لم يغب البصل عن الأدب المعاصر، فالشاعر التشيلي بابلو نيرودا وصفه في إحدى قصائده بأنه «قارورة مضيئة وأوراقه سيوف»، ومحمود درويش أشار إليه حين مزجه بالحب: « يا امرأتي الجميلة، تقطعين القلب والبصل الطري وتذهبين إلى البنفسج»، وجعله غونتر غراس عنواناً لمذكراته: «تقشير البصلة» مشبهاً الذاكرة بالبصلة «التي ترغب في أن تقشّر نفسها كي نتمكن من قراءة ما تحتويه حرفاً حرفاً».

لكن وباستثناءات نادرة، فإننا لا نكاد نعثر على البصل في شعرنا وأدبنا، هل يعود ذلك إلى خفر ما سيطر على لغتنا الحديثة؟ أم ماذا؟

لا أدري، لكن ما أعرفه هو أن فضائل البصل لا تُحصى، وهو يستطيع أن يغني مدونتنا الأدبية بنكهة الحياة التي يختزنها.

عدت إلى البصل لأنني أخشى من أن يأخذنا الخمول الذي أعقب انتصار الثورة المضادة في لبنان، وهزيمة المشروع التغييري الذي تصاغر ليصير بحجم انتخابات نيابية هدفها تجديد شرعية النظام، إلى حانة غونتر غراس، فيفقد البصل نكهته، ويتحوّل إلى مجرد دموع تحرق عيوننا بالأسى.