"فتح المقابر ليس أولوية الآن"

قنطرة: لقد كنت جزءًا من البحث عن المفقودين في العديد من الدول حول العالم، برأيك ما أوجه الشبه التي عايشتها في عملك السابق مع سوريا، وما الذي انفردت به عن الدول الأخرى؟
لويس فوندبرايدر: أعتقد أن العامل المشترك بينهم هو مشاعر الإحباط التي تصاحب أسر هؤلاء الضحايا الذين يسعون لمعرفة مصير أحبائهم، عما إذا ماتوا، أم ما زالوا على قيد الحياة، مع الوضع في الاعتبار عن أن هذه العملية تستغرق عقودًا. ما زال زملائي في الأرجنتين يبحثون عن جثث المختفين وتحديد هويتهم بعد مرور أربعين عامًا من سقوط النظام الديكتاتوري هناك. لذا الأمر الأكثر أهمية هو توخي الحذر بشأن مشاعر الأسرة، حيث يمكن العثور على الجثث، لكن يصعب تحديد هويتها، وفي أحيان أخرى يصعب حتى العثور عليها.
أما بالنسبة لما تختلف فيه سوريا عن باقي الدول، هو أنّ نظام القمع الوحشي استمر لمدة ثلاثة وعشرين عامًا في عهد بشار الأسد وحده، فضلا عن اختفاء الكثير من الناس في عهد والده، ووجود كمية مهولة من المعلومات.

ما الخطوات الأولى التي يجب اتخاذها بعد إسقاط الأسد؟
أولا: يجب أن تكون هناك مؤسسة مركزية تتعامل مع البحث عن المفقودين. في الوقت الحالي، تتولى المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا التابعة للأمم المتحدة (IIMP) مسؤولية ذلك. وسيكون من الجيد أن ينشئ السوريون مؤسسة أخرى، يديرونها وتعمل من أجلهم.
ثانيًا: يجب أن تتلقى هذه المؤسسات جميع المعلومات المتاحة. هناك منظمات مختلفة تجمع البيانات منذ بداية الحرب قبل 13 عامًا، وهي بحاجة إلى جمع كل هذه البيانات في بوتقة واحدة.
ثالثًا: فهم أسلوب عمل نظام الأسد. من كان يفعل ماذا؟ من المسؤول؟ بعد ذلك، في حالة المفقودين، نحتاج إلى عمل خريطة لمواقع المقابر المحتملة في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، يجب تدريب السكان المحليين على جميع المهام المطلوبة.
ما طبيعة المعلومات التي يجب جمعها وكيف يتم ذلك؟
على سبيل المثال، إذا كانت هناك غارة جوية، يجب معرفة من المسؤول عنها، وتاريخها ومكانها، وعدد الضحايا. ثم تحتاج إلى معرفة معلومات عن الضحايا. على سبيل المثال، من؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف اختفى شخص ما؟
وهناك أيضًا الجانب الموثّق سواء بمقاطع فيديو أو صور. وبالنظر إلى أنّ كل دولة تعمل من خلال أوامر مكتوبة وإجراءات إدارية، هناك دائمًا ما يسمى بيروقراطية الموت. حتى أنّ بعض هذه الوثائق في بعض الأحيان لا تكون سريّة. إذا دفنت جثة ما في المقبرة، يمكننا فحص الوثائق الخاصة بتلك المقبرة.
وفي أحيان أخرى، تكون المعلومات شفهية على لسان أحد أقارب الشخص المفقود، أو أن يكون أحد الذين شهدوا الواقعة، بالإضافة إلى حفاري القبور، وهؤلاء الذين يتعاونون مع مراكز الاحتجاز، وكذلك من يعيشون بالقرب من تلك المراكز. سينتهي المطاف إلى جمع الكثير من المعلومات والبيانات، عندئذ ستحتاج إلى محللين متخصصين في تلك الأمور، كي يختصروا مسارات البحث.

أين أحمد؟
يشعر أهالي السوريين المختفين قسريًا بتخلي الحكام الجدد عن قضيتهم بعد سقوط الأسد. فيما يتجول بعضهم في شوارع العاصمة دمشق بحثًا عن أحبائهم وسط ضياع الأدلة.
لماذا كل هذه التفاصيل مهمة للغاية؟
نحن بحاجة للتحقيق في السياق قبل فتح أي مقبرة. لا أستطيع أخذ عينة من جثة لإجراء تحليل الحمض النووي DNA عليها ووضعها في الجهاز، ويظهر لي مباشرة اسم الشخص صاحب هذه الجثة!
إن عملية التعرف على جثة متحللة أو عبارة عن هيكل عظمي مسألة معقدة للغاية. لا يمكنني مقارنة المعلومات الخاصة بجثة ما بكل المفقودين بسوريا. فأنا أحتاج للعمل من خلال فرضية معينة. فإذا كنت تعمل في إطار مقبرة معينة فيجب أن تتوفر لديك نظرية معينة عن التوقيتات المحتملة لدفن هؤلاء الأشخاص وكذلك هوياتهم.
في سوريا، ترتبط بعض المقابر بمراكز احتجاز معينة، وبعضها تكون خاصة بمناطق محددة أو تيارات سياسية بعينها. توفر هذه الفرضية يُسهل عليّ فتح المقبرة؛ لأن تحليل DNA ليس له مفعول السحر. يتوقف التعرف على جثة على تحديد معلومات عن صاحبها المحتمل. أنا بحاجة إلى مقارنة العمر والجنس وشكل الجثة، إذا كانت الجثة جديدة يمكن النظر إلى الوشوم والندوب ولون العين والشعر والأسنان والملابس، من ثم أقارن ذلك بالمعلومات التي وفرتها الأسر.
لا تتحلى بعض الأسر بالصبر وهذا أمر طبيعي ومفهوم؛ نظرًا لقلقهم من تعقد الوضع بمرور الوقت بما يجعل مسألة تحديد هوية الجثة أكثر صعوبة، فماذا تقول لهم؟
أكثر الأماكن أمانًا للجثث هي المقابر لأنها محمية بالتربة، إذا كانت الجثة في المقبرة، والمقبرة محمية فإنّ عامل الوقت لا يهم. أي حاكم منطقة في سوريا يمكنه القول إن هذه المنطقة قيد التحقيق وممنوع الاقتراب منها. لا توجد عادة قوات شرطة كافية لحماية الموقع طوال الوقت، لكن على الأقل يجب أن يكون هناك قرارًا إداريًا بذلك.
ماذا يحدث حال عدم حماية المقابر؟
في بعض الأحيان يكون لدى الناس نوايا طيبة، نرى الآن في سوريا بعض رجال الإنقاذ يستخرجون الجثث، لكن تلك الجثث التي يجرى استخراجها في غياب الأطباء الشرعيين يمكن أن تختلط مع بعضها البعض. فتح المقابر ليس من الأولويات في الوقت الراهن، بالطبع هو من أولويات بالنسبة للأسر، ولكن فتحها دون تحقيق سليم سيؤدي إلى تراكم مئات الجثث في ثلاجات الموتى دون التعرف على أصحابها.
وفي حالات أخرى، هناك نية ما عادة من جانب الجناة، لتدمير الجثث. ففي البوسنة، لم تكن مواقع القبور الأصلية محمية أثناء الحرب. وبعد مذبحة سربرنيتسا، عاد الجناة وفتحوا المقابر ونقلوا الجثث إلى مقابر أخرى. وفي بعض الأحيان، يجرى هدم المقابر بالصدفة، على سبيل المثال خلال شق طريق تمر المعدات فوق المقابر ما يؤدي إلى اختلاط عظام الجثث بعضها البعض.
في كل الأحوال، تصبح عملية التشريح أكثر صعوبة. فإذا تحللت الجثة، فقد يكون من المستحيل إعادة تجميعها تشريحيًا، بالتالي يكون من غير الواضح أي عظمة تنتمي إلى أي هيكل عظمي. وفي هذه الحالة، لا يمكنك إعادة الجثة بالكامل إلى أسرتها، ففي يد واحدة فقط، لدينا 27 عظمة. والحصول على الحمض النووي لعظام تلك اليد أمر لن يتحمل أحد كلفته المادية الباهظة.

"أملي ضعيف في حكام سوريا الجدد"
يتمسك السياسي والناشط السوري الكردي سيامند حاجو، في حواره مع قنطرة، برؤيته لحكومة لامركزية في سوريا بعد سقوط الأسد، منتقدًا في الوقت نفسه، هرولة الأمم المتحدة والغرب للتعامل مع الحكام الجدد.
كيف يكون مسار العمل عند فتح المقبرة على يد فريق متخصص؟
يجمع متخصصو الطب الشرعي كل الهيكل العظمي وكل المتعلقات التي تخصه سواء شخصية أو طلقات رصاص أو ملابس وخلافه. بعد ذلك تنقل الجثة ومتعلقاتها إلى المشرحة، حيث يحاول فريق متعدد التخصصات من الطب الشرعي، طبيب شرعي، وأخصائي في علم الأمراض، وخبير أشعة سينية، تحديد هوية الشخص وسبب الوفاة. لذا عليك العمل على الهيكل العظمي وتحديد العمر والجنس والشكل الخارجي.
وفي حالة وجود أنسجة رخوة، تكون هناك حاجة إلى خبير بصمات، ثم نقارن ذلك بمعلومات ما قبل الوفاة حول شكل الشخص عندما كان على قيد الحياة. أما بالنسبة للتحليل الجيني، يتم قطع قطعة من عظام الفخذ وإرسالها إلى مختبر متخصص.
ما الدور الذي تلعبه أسر الضحايا خلال عمل الفريق المتخصص؟
لا يمكن للأسر القيام بالجانب الفني، لكنهم عادة ما يكونوا حاضرين أثناء عملية التشريح، وهذا يضفي مصداقية وشفافية على هذه العملية. على سبيل المثال، عندما أعمل على حالة ما، يكون أهالي الضحية قرب المقبرة، ومن وقت لآخر أخرج لأشرح لهم ما الذي نفعله. وعند استخراج الجثث، أشرح لهم ما فعلته وأرد على أسئلتهم. وأحرص أيضًا على أن يروا المشرحة، ليدركوا أنني حافظت على الرفات وتعاملت معها باحترام وكرامة.
ما الأولوية التي ينبغي أن تعطيها القيادة المؤقتة في سوريا بالنسبة لعملية البحث عن المفقودين؟
أتفهم أنه على الحكومة أن تهتم بتوفير الخدمات الأساسية في الوقت الراهن. ولكنها تتحمل أيضًا مسؤولية تقديم الإجابات لأهالي الضحايا؛ فقضية المفقودين ستبقى قائمة وحية في ذلك المجتمع إلى الأبد. لا بد من وجود قانون يحفظ القبور والأرشيف التي تحفظ فيه المعلومات.
كيف يمكن للمنظمات الدولية والحكومات دعم هذه العملية؟
في الوقت الحالي، تعتبر المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا IIMP الوحيدة التي لديها سلطة العمل على ملف المفقودين في البلاد. يجب على كل المؤسسات الأخرى التنسيق والعمل تحت مظلتها. لا ينبغي لتلك المنظمات عمل أمور جانبية، لأن ذلك يزيد من الارتباك والتعقيد.
من المؤسف أن هذا هو ما يحدث عادة، عند سقوط الأنظمة الديكتاتورية يكون المجال مفتوحًا للتحقيق، حينها تبدأ الجغرافيا السياسية في العمل، وترسل الدول الأوروبية وأمريكا فرقها لتقديم النصح. حينها كل فريق يرغب في استخدام البروتوكول الخاص به، مما يؤدي إلى الفوضى. هذا ما حدث في البلقان في نهاية الحرب، وهذا ما حدث في العراق بعد عام 2003، وهذا ما قد يحدث في سوريا أيضًا.
ترجمة: سارة عرفة
قنطرة ©