المغرب..حقائق من وحي الزلزال

وضعت كارثة الزلزال الدولة في المغرب أمام واقع لطالما أنكرت وجوده، فقطار التنمية لم يعرف طريقا إلى الكثير من مناطق "المغرب المنسي"، كما أثبتت أن المؤسسة الملكية هي الفاعل الرئيسي والمركزي في البلاد. تعليق محمد طيفوري لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: محمد طيفوري

كانت بؤرة الزلزال الذي ضرب المغرب، مساء الجمعة 8 سبتمبر/ أيلول الماضي، في إقليم الحوز على بعد 70 كيلومترا من مدينة مراكش، إلا أن تأثير تلك الهزة التي بلغت قوتها 7 درجات على مقياس ريختر، تعدى مجال الجغرافيا ليشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع. فما أن تخطى المغاربة هول الصدمة القاسي، وبدأت مظاهر الحياة تدِب من جديد في المناطق المنكوبة، متحدية غضب الطبيعة الذي أخذ الجميع بغتة، حتى توالت الحقائق في الانكشاف تباعا، مثبتة الكثير مما اعتبره المسؤولين ومعهم نفر من الإعلاميين، حتى وقت قريب، أراجيف العدميين.

وضعت كارثة الزلزال الدولة بمختلف أجهزتها؛ مركزيا وجهويا ومحليا، وجها لوجه أمام واقع لطالما أنكرت وجوده، قبل أن تُقرِر الطبيعة مجددا فضح الأمر، لكن هذه المرة على مرأى الأشهاد في مختلف بقاع العالم، خلافا لما يحدث عادة عند كل موسم شتاء (أمطار، ثلوج، فيضانات...) حيث ينحصر صدى الافتضاح داخل ربوع المملكة. هكذا تابعت كل دول العالم، في تغطيات مباشرة من المناطق المتضررة في المدن الأربع (مراكش وتارودانت وأزيلال وورزازات)، مشاهد قاسية ومؤلمة من مغرب آخر غير الذي اعتادوا رؤيته في قنوات الإعلام الرسمية.    

حقيقة التنمية أولى تلك الحقائق، فقطار التنمية الذي يجوب المغرب شمالا وجنوبا، منذ عام 2005، مع انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لم يعرف طريقا إلى الكثير من مناطق المغرب غير النافع، أو "المغرب المنسي" بلسان أهله البسطاء. لأنها، وببساطة، لا تتوفر على طرق ومسالك معبدة، تسمح بعبور مشاريع التنمية وبرامج التأهيل إلى مناطق لا تطفو إلى ذاكرة صناع القرار إلا عند اقتراب المواسم الانتخابية.

لا جدال في أن ثمار عقدين من التنمية ظهرت فعلا في المدن الكبرى بالمغرب النافع (طنجة، الرباط، الدار البيضاء، فاس، مراكش...)، باستيفاء كماليات تجعلها قريبة من نظيرتها الأوروبية، في وقت تكافح حواضر عدة في المغرب غير النافع بحثا عن الأساسيات. فلا يعقل أن تستغرق رحلة قطار البراق السريع، طولها 330 كيلومترا بين طنجة والدار البيضاء، ساعتين فقط، فيما التنقل، في نطاق لا يعتدى 100 كيلومتر، من مركز الحوز إلى مناطق إيجوكاك وإغيل وغيرها من المناطق المنكوبة يتطلب 72 ساعة. هذه الحقائق تثير أكثر من سؤال عن العدالة المجالية في المملكة، ويسائل ورشا ملكيا طاله النسيان؛ إنه مشروع الجهوية المتقدمة المعلن عن تفاصيله في خطاب ملكي عام 2008.

 

 

"لقد تُركت المجتمعات الجبلية، في كثير من النواحي، لوحدها لعقود من الزمن." @SahraOuld يكتب ل @DAWN_Journal عن التاريخ الطويل من التهميش وعدم المساواة الإقليمية في منطقة الأطلس الكبير، المنطقة الأكثر تضرراً من زلزال المغرب. https://t.co/vhqH9hUSxs

— الديمقراطية الآن للعالم العربي (@DAWN_Arabic) September 28, 2023

 

 

المغاربة يتساءلون: أين الحكومة؟

 

ثاني الحقائق مرتبطة بطبيعة النظام القائم في المغرب، فالزلزال أثبت بما لا يدع مجالا للشك، لِطيْف من أنصار التأويل الديمقراطي لدستور 2011، بأن المؤسسة الملكية هي الفاعل الرئيسي والمركزي في البلاد، فمواجهة الكارثة منذ حدوثها كان بأوامر وتعليمات ملكية لمختلف الأجهزة؛ لا سيما مؤسستي الجيش والأمن، أعقبتها قائمة من الإجراءات والتدابير تُظهر بأن إدارة نكبة الزلزال بين يدي القصر الملكي وحده.

بالموازاة مع ذلك، لوحظ غياب تام لباقي المؤسسات عن المشهد، فلا الحكومة تحركت ولا مجلسي البرلمان ولا الأحزاب السياسة بادرت، على الأقل في حدود الممكن والمتاح لها، فالكل تراجع إلى الوراء مكتفيا بالصمت، في انتظارية قاتلة أثارت غيضا من الأسئلة بين المغاربة، فحتى رسالة عزاء السيد عزيز أخنوش؛ رئيس الحكومة الموجهة لعائلات ضحايا الزلزال، وهي أضعف الإيمان، تأخرت لأزيد من 48 ساعة، ما جعل المغاربة على منصات التواصل يتساءلون، في سخرية ممزوجة بالألم والحسرة، عن مكان تواجد الرجل آملين أن لا يكون ضمن ضحايا الزلزال، أما زيارة بعض المناطق فجاءت بعد 11 يوما من الزلزال.

تواري الحكومة عوَّضه الشعب المغربي الذي أبان، منذ الساعات الأولى للكارثة، عن درجة عالية جدا من التضامن والتآزر، أثارت انتباه الأطقم الأجنبية والصحفيين القادمين لتغطية هذه الكارثة. فالنفير الشعبي انطلق فجر يوم السبت حيث عجَّت مراكز تحاقن الدم بالمتبرعين بدمائهم، وشُدّت الرحال من مختلف المدن المغربية نحو المناطق المنكوبة، للمساعدة في إخراج العالقين تحت الأنقاض، وإسعاف الجرحى ومداواة المصابين، فضلا عن تدفق يومي لقوافل المساعدات الغذائية والصحية والمعدات المنزلية نحو الأقاليم المتضررة.

 

[embed:render:embedded:node:50794]

 

 

الرهان كل الرهان على الشعب المغربي

 

واستطاع المغاربة تسخير مواقع التواصل الاجتماعي لتنسيق الجهود بعيدا عن الدولة، بشكل أبهر منظمات الإغاثة الإنسانية ذات الخبرة في المجال، فالتفاعل العفوي والتلقائي بين المواطنين، بدءا بمعرفة الحاجيات، ثم تنظيم نقط تجميع المساعدات، وتوفير وسائل النقل مع تجنيد متطوعين، وصولا إلى تحديد الأماكن المستهدفة، كل ذلك سرَّع من عمليات إيصال المساعدات لكافة المناطق المتضررة، فضلا عن مساهمته في إبداع أشكال جديدة من التضامن، نتيجة تبادل الأفكار والمقترحات، من قبيل إقدام شباب مغاربة على توفير الإنارة والإنترنيت في الأماكن المتضررة، لضمان تواصل المتواجدين بها من أهالي ومتطوعين وصحفيين مع أقربائهم ومع العالم الخارجي.

معدن الشعب المغربي حقيقة أخرى من حقائق هذه الفاجعة، فالجميع تجاوز الخلافات السياسية والإيديولوجية، وحتى النعرات العرقية والصراع المناطقي (ريفي، صحراوي، شمالي...) المنتشر بحدة، في السنوات الأخيرة، على مواقع التواصل الاجتماعي، اختفى فجأة لصالح قيم التضامن الراسخة في وعي الإنسان المغربي، وهذا ما انعكس في الإجماع شعبي على "تامغربيت".

وكان للهبة الشعبية التلقائية بالغ الأثر في تقليل الخسائر البشرية، فحجم الكارثة على الأرض فظيع، ولولا التضامن الشعبي لكانت النتائج كارثية بكل المقاييس، فقدرات الدولة اللوجستيكية وإمكانياتها البشرية "أطقم التدخل" مهما بلغت، تبقى محدودة أمام المساحة الواسعة التي غطاها الزلزال.

مرة أخرى، كما هو الحال أيام الربيع العربي وخلال جائحة كورونا، يقدم المغاربة درسا جديدا لصناع القرار والماسكين بزمام الأمور في الدولة، مفاده أن الرهان كل الرهان ينبغي على الشعب أولا وأخيرا، فلا الاعتداد بالذات (المقاربة السلطوية) ولا الاستقواء بالخارج ينفع زمن الشدائد والنكبات، فهل من مستمع يا ترى؟ أم أن الأنظمة على حالها عبر التاريخ فهي تريد أن ينصَت لها دون أن تنصِت!

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023