في نقد مثقفي العراق: من المثقف الرائي إلى المثقف الراثي!
وتتكرر الأسئلة، الأسئلة نفسها وإن تبدلت صياغاتها ومناسباتها: من هو المثقف وما فرقه عن الأديب والفنان؟ ما حجم تأثيره في تشكيل الحس الجمعي أو السلوك الاجتماعي أو صنع القرار السياسي في هذا المجتمع المتقلب، الذي لا يرتقي درجة إلا ويهوي ثلاثاً!؟ ما الأهمية التي توليها الدولة والمجتمع للثقافة؟ كم وزيراً وحاكماً مثقفاً شهده التاريخ المعاصر للعراق، وبضمنهم وزراء الثقافة أنفسهم وما من داعٍ لذكر أسماء يندى لها جبين الثقافة؟ ما حصة الثقافة من ميزانيات العراق الهائلة بعد سقوط النظام السابق؟ (أعني المبالغ الموجهة نحو تفعيل الحركة الثقافية لا تلك المصروف على شكل رواتب ومخصصات لموظفين في دوائر ترتبط اسماً بالثقافة ولاتكاد تقدم شيئاً يستحق الذكر في مجال اختصاصها). هل العلة في المجتمع؟ في أنظمةالحكم؟ في الظروف التاريخية؟ أم في المثقف نفسه؟
أسئلة تطرح بعد كل زلزال. وإذا كانت أمور كالاختلاف بين مثقفي الداخل والخارج والموقف من "مثقفي" السلطة الدكتاتورية الذين لعبوا دور الشرطي الثقافي (والتنفيذي في بعض الأحيان!) والممجد للطاغية ورافع شعار الثقافة في خدمة الإعلام قد هيمنت على المشهد عقب الغزو الأمريكي والإطاحة بالنظام السابق فإن الهزيمة العسكرية لداعش لن تمر دون جدل حاد، بعضه استمرار لما صاحب صعوده وتسبب فيه وبعضه يتعلق بالرؤية المستقبلية لما بعد هزيمته. هجرة الانتِلِجنسيا [النخبة المثقفة] العراقية خلال أربعة عقود الانتِلِجنسيا [النخبة المثقفة] العراقية التي شهدت خلال الأربعين عاماً الماضية موجتين من الهروب الجماعي (الأولى بعد انهيار "الجبهة الوطنية" وإطلاق صدام حسين لموجة من البطش الدموي باليسار العراقي شملت كل من تشم منه رائحة ضعف الولاء، والثانية بعد المجاعة التي ضربت البلاد بسبب الحصار الاقتصادي المفروض في أعقاب غزو الكويت) وجدت نفسها أمام خيار الهجرة (أو العودة الى المهجر)، بسبب شيوع ثقافة المسدس الكاتم للصوت (حتى الآن لم يعرف شيء عن قتلة كامل شياع و هادي مهدي) وهيمنة الظلامية الدينية والعشائرية والفساد السياسي وتحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية أو مجرد "عمق عسكري" كما صرح بذلك أحد ساسة جارتنا الشرقية اللدود! المسرح في العراق شبه معطل وكذلك السينما باستثناء محاولات جريئة هنا وهناك قائمة أساساً على المبادرات الخاصة. النقد غائب تقريباً باستثناء أسماء رصينة قليلة، وهو دائر في فلك المجاملات (أو العداوات) الشخصية أو في نطاق بحوث التخرج والترقية الجامعية (بعض عناوينها يشيب لها الوليد!) في ظل غياب شبه كامل لما يسمى بالنقد الثقافي. "مثقفون عراقيون اكتشفوا فجأةً انتماءاتهم الطائفية" كثير من المثقفين العراقيين، حتى غير المتدينين منهم، اكتشفوا فجأة بأنهم سنة وشيعة وصاروا يسألون عن طائفة من يستمعون إليه أو يقرأون له أو يشجعونه في ملاعب الكرة! وعادوا الى أهلهم يسألونهم عن شيخ عشيرتهم الذي يمكن أن يحميهم في ظل غياب القانون!
العشرات من الدكاكين الحزبية والطائفية التي تسمي نفسها بالقنوات الفضائية أنتجت عدداً هائلاً من "المحللين" السياسيين و"الإعلاميين" غير المؤهلين ثقافة ولغة وأداء ونطقاً! الغناء والموسيقى والرقص أضحت (باستثناءات قليلة) ملكاً مسجلاً لنكرات لا يجيدون غير النهيق بمصاحبة راقصات الملاهي المحمية بشرطة الأحزاب الإسلامية الحاكمة والمغنون الذين ما زالوا يحترمون فنهم اضطروا للهجرة أو بلع ألسنتهم! في مجال الطباعة أصبح العراق حالة أشذ من الشذوذ إذ يدفع الكاتب لدار النشر لتطبع كتابه بدلاً من أن يحصل العكس كما في أرجاء الدنيا! تعمق الشرخ بين المثقف العربي والكردي في العراق العديد من "المثقفين" ارتضوا لأنفسهم العمل في "الجيوش الإلكترونية" أو التحول الى ما يشبه الملحق الصحفي الرخيص لهذه السفارة أو تلك! فشل العراق تقريباً في إنتاج عالم اجتماع أو فيلسوف أو عالم نفس أو اقتصاد أو تاريخ بعد رحيل (وتقاعد) تلك القامات الكبيرة التي كان يفاخر بها في هذه الحقول. المثقف الكردي الذي تعرضت أحلامه الموروثة جيلاً بعد جيل الى ضربة قوية في أعقاب تحالف الحكومات العراقية والإيرانية والتركية (مسنودة بسكوت القوى الكبرى) ضد إقليم كردستان ونتائج استفتاء الخامس والعشرين من أيلول / سبتمبر 2017 ، وتعمق الشرخ الموجود أصلاً بينه وبين المثقفين العرب نتيجة الاستعداء المتبادل والانحدار الى مستوى الخطاب العنصري الصريح ووقوف نسبة كبيرة من "المثقفين" العراقيين ضد تلك الآمال والأحلام وبضمنهم الكثير ممن كانوا يتشدقون بحق الشعوب في تقرير مصيرها أو ممن كانوا يتسلمون المكافئات السخية من حكام كردستان باعتبارهم "أصدقاء الشعب الكردي"!مثقف عراقي بالمرتبة الأخيرة في التأثير على القرار وهكذا عادت الأوساط الثقافية والإعلامية والسياسية الكردية الى الجدل القديم الذي رأيناه بعيد انهيار الثورة الكردية المسلحة عام 1975 حول أسباب الهزيمة ودور الخيانة والفساد وغياب وحدة الصف والرؤية الاستراتيجية ودور القوى الكبرى ، ... إلخ.
المثقف العراقي مهمش، يأتي بالمرتبة الأخيرة في التأثير على القرار، الواقع، المستقبل، بعد رجل الدين، رجل الميليشيا، الزعيم العشائري، السياسي، الشرطي وقبل هؤلاء بالطبع "سعادات" السفراء الأجانب ممثلي الدول التي تقرر مصيرنا نيابة عنا! لقد تحول خلال بضعة عقود من ذلك المثقف "الرائي" المبشر بالأمل ومقاومة القبح وإشاعة قيم الجمال والحرية الى المثقف "الراثي" لكل هذا الخراب الذي يحيط به. "المثقف" نفسه مسؤول عن جانب كبير من تهميشه لكن "المثقف" نفسه مسؤول عن جانب كبير من هذا التهميش وهذا الخراب، بنرجسيته المفرطة، تعاليه، علاقته الهزيلة بمجتمعه، تبعيته للسياسي، ميله إلى الكسل وإحالة نفسه الى التقاعد الإبداعي بعد نشره عملاً أو اثنين ونيله بطاقة الانتساب إلى اتحاد الأدباء أو حصوله على لقب الشاعر أو الكاتب، انجراره إلى مواقف طائفية وعنصرية، بقائه أسير "الماضي التليد" لبلاد "الحضارات" أو انفصامه الكامل عن ذلك الماضي، تسابقه على حضور المهرجانات المتكاثرة عدداً المتناقصة قيمة، اتكاله على الدولة وانتظار تقديمها الدعم له (وكلنا يعرف أن الدولة في الشرق الأوسط، لا تقدم مثل هذا الدعم، إن فكرت بذلك، دون مقابل يبدأ بالسكوت ولا ينتهي بالتطبيل للحاكم الملهم!). "فضيحة مثقفين عراقيين على ضوء "!: ولأن معرفة حال الثقافة والمثقفين تظل قاصرة دون الاطلاع على ما يكتب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً الفيسبوك الذي يكاد يكون مهيمناً دون منافس في العراق، فإن الفضيحة تدوي عند تصفح الصفحات الصريحة والوهمية للبعض-الكثير منهم: انغماسٌ مخز إلى قطعان الناعقين في مواسم التقتيل الطائفي والقومي، تداولٌ (عن وعي أو دونه) للصور والأخبار ومقاطع الفيديو المفبركة بقصد التسقيط المتبادل، إشعالٌ للمعارك "اللاأدبية" التي تشهد إسفافاً قل نظيره في المضمون ولغة "التخالف" وتطوع الكثير من "الأنصار" و"الأحباب" لإذكاء نيران تلك المعارك بالشتائم والبذاءات وغيرها مما حفظتهُ شخصياً مع مئات المنشورات والتعليقات التي تصلح مادة أولية لكتاب لن يحمل عنواناً غير "فضيحة المثقف العراقي على ضوء الفيسبوك"!
"مرحلة من الرثاثة في الثقافة العراقية" الثقافة العراقية تعيش إذن (لولا بقع الضوء الصامدة هنا وهناك) في مرحلة من الرثاثة عز نظيرها، والأزمة ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب وليست محصورة (أسباباً ونتائج) بالبناء الفوقي للمجتمع. هل كنت متشائماً؟ هل رسمت صورة سوداوية للمشهد؟ ربما! لقد تحدث محمد غازي الأخرس ذات كتاب عن خريف المثقف العراقي "سنوات جمهورية الخوف والحصار" وها نحن نشهد شتاءً قد يطول ويطول. وإذا كان منطق الطبيعة أن يحل الربيع بعدهما فلا بأس، لا بأس بالانتظار و.. ستبدي لك الأيام! ماجد الحيدرحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de ماجد الحيدر كاتب وشاعر ومترجم، كردستان العراق.