التاريخ والحرب في غزة
في غضون الأيام المئتين والخمسين التي تلت السابع من أكتوبر 2023 شهدنا مشاهد رعب بدت بلا نهاية. فهل تمثل هذه الأحداث الصادمة قطيعة مع ما سبق، وهل هي فعلا لا مثيل لها؟ من المؤكد أنّ الصور التي رأيناها جميعاً - صور الأعمال الوحشية والدمار الهائل- هي صور غير عادية، وكذلك ردود الفعل العالمية الكثيفة في باحات الجامعات وأماكن أخرى. ويبدو أنّنا نعيش في مرحلة جديدة، تتزايد فيها حدة العنف والاحتلال والاستعمار، ويتواصل فيها تجاهل القانون الدولي، وتتحرك خلالها ببطء صفائح تكتونية كانت مستقرة منذ فترة طويلة.
مرحلة جديدة كارثية
وبالرغم من تغير أشياء كثيرة، لا يمكن فهم تلك الأحداث إلا على أنها مرحلة جديدة كارثية في حرب مستمرة منذ أجيال. وتلك هي أطروحة كتابي "حرب المائة عام على فلسطين": إن الأحداث في فلسطين منذ عام 1917 كانت نتيجةَ حربٍ طويلة شنتها الحركة الصهيونية مع رعاتها من القوى العظمى على السكان الفلسطينيين الأصليين. كانت تلك الحركة قومية من ناحية، ومن ناحية أخرى حركة أعلنت نفسها حركة استعمارية استيطانية، وكان هدفها أن تحل محل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في وطن أجداده. طوال هذه الحرب الطويلة قاوم الفلسطينيون بشدة اغتصاب بلادهم. هذا الإطار لا يفسّر الأحداث التي وقعت منذ السابع من أكتوبر فحسب، بل يفسّر أيضًا تاريخ القرن الماضي، وأكثر من ذلك، وبدونه لا يمكن حقًا فهم هذه الأحداث.
وفي ضوء ذلك يتضح أن ما حدث ليس صراعًا قديمًا مستمرًا منذ زمن سحيق بين العرب واليهود، وهو أيضًا ليس مجرد صراع بين شعبين. إنّه نتاج الغزو الإمبريالي في الشرق الأوسط، وصعود قوميات الدول القومية الحديثة، العربية واليهودية على حد سواء؛ إنه نتاج الأساليب الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية العنيفة "لتحويل فلسطين إلى أرض إسرائيل"، على حد تعبير زئيف جابوتنسكي، أحد مؤسسي الصهيونية السياسية الحديثة؛ وهو كذلك نتاج المقاومة الفلسطينية على تلك الأساليب.
اقتباس: "من الواضح أنّ ما حدث ليس صراعًا قديمًا مستمرًا منذ زمن سحيق بين العرب واليهود، وهو أيضًا ليس مجرد صراع بين شعبين. إنّه نتاج الغزو الإمبريالي في الشرق الأوسط، وصعود قوميات الدول القومية الحديثة، العربية واليهودية على حد سواء."
فضلا عن ذلك، لم تكن هذه الحرب قط حربًا بين الصهيونية وإسرائيل من جهة،ومن جهة أخرى الفلسطينيين المدعومين في بعض الأحيان من جِهات عربية وجهات أخرى. لقد رافق تلك الحرب تدخل هائل من جانب القوى العظمى آنذاك التي ساندت الحركة الصهيونية ودعمت إسرائيل. ولم تكن تلك القوى يومًا وسيطًا محايدًا أو نزيهًا، بل دائمًا طرفًا فعالًا إلى جانب إسرائيل. ولم يكن هناك تكافؤ بين الجانبين خلال تلك الحرب، بين المستعمِر والمستعمَر، القامع والمقموع، بل اختلال كبير في ميزان القوى لصالح الصهيونية وإسرائيل.
وقد تأكدت هذه الأطروحة بشكل صارخ من خلال المستويات غير المتناسبة من القتل والدمار والتشريد منذ السابع من أكتوبر: إذ تبلغ نسبة القتلى الفلسطينيين إلى الإسرائيليين حتى الآن نحو 25 إلى 1؛ وتتأكد أيضًا من خلال الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري الساحق المقدّم من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لإسرائيل، على النقيض من الدعم العسكري والمالي المحدود نسبيًا للفلسطينيين الذي تقدّمه إيران وعديد من الجهات غير الحكومية.
تحولات تكتونية، لكن لا قطيعة مع الماضي
ومهما كانت أحداث الأشهر التسعة الماضية دراماتيكية، فهي ليست فريدة من نوعها، ولا تشذ عن السياق التاريخي. ونحن لن نستطيع فهمها على النحو الصحيح إلا في سياق الحرب التي شُنت على فلسطين والمستمرة منذ قرن من الزمان، رغم الجهود التي تبذلها إسرائيل لإنكار أهمية هذا السياق. إن تصرفات حماس وإسرائيل منذ السابع من أكتوبر بعيدة كل البعد عن أن تمثل قطيعة مع الماضي، بل هي تتسق مع عقود من التطهير العرقي الإسرائيلي، والاحتلال العسكري، وسرقة الأراضي الفلسطينية، ومع سنوات من الحصار المفروض على قطاع غزة، وتتسق أيضًا مع ردود الفعل الفلسطينية العنيفة كثيرًا ما على تلك الممارسات.
إن هذه الحلقة من الحرب الطويلة على فلسطين كان لها تأثير صادم وعميق على كلٍ من الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد لحق ضرر هائل بالسكان المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 35 ألف قتيل، فضلاً عن 10 آلاف من المفقودين أو من القتلى المحتملين، وغالبيتهم الساحقة من المدنيين، وهو الأعلى عبر كل مراحل هذه الحرب المستمرة منذ قرن من الزمان. خلال نحو تسعة أشهر بعد السابع من أكتوبر بلغ عدد القتلى والجرحى الفلسطينيين ما يقرب من 130 ألف شخص ـ أي ما يزيد على 5% من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة. ويبلغ عدد القتلى المدنيين في إسرائيل أكثر من 800، وهو الأعلى منذ حرب عام 1948. وقد قُتل ما يقرب من 700 جندي وشرطي ورجل أمن إسرائيلي حتى الآن. وأُسر أكثر من 250 مدنيًا وجنديًا إسرائيليًا، ومواطنًا أجنبيًا، وما زال 100 منهم تقريبًا محتجزين كرهائن.
اقتباس: "ومن الواضح أن هذه الحلقة من الحرب الطويلة على فلسطين كان لها تأثير صادم وعميق على كل من الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد لحق ضرر هائل بالسكان المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين."
فضلا عن ذلك، لم يحدث قط أن طُرد مثل هذا العدد الكبير من الفلسطينيين والإسرائيليين من منازلهم على مدار هذه الحرب الطويلة. إن أعداد الذين تعرضوا للتطهير العرقي من فلسطين في عام 1948، ومن الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلال عام 1967، لا يُقارن بعدد الذين شرّدتهم إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، وهو عدد يزيد على 1.7 مليون من سكان غزة. من ناحية أخرى، تم إجلاء ما يصل إلى 200 ألف إسرائيلي من المستوطنات والبلدات في المناطق المتاخمة لقطاع غزة ولبنان.
صدمة لا تُنسى
لقد عانى ولا يزال يعاني كلا المجتمعين من صدمة لا تُنسى ذات تأثير هائل. لقد أحدث العنف الذي وقع في إسرائيل يوم السابع من أكتوبر، وما صاحبه من أعمال وحشية مروعة - تم بثها مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تكرر عرضها على شاشات التلفزيون- زلزالا في البلاد بأكملها، وحطم هذا الهجوم الشعور بالأمن الذي تدعي إسرائيل أنها توفره لمواطنيها، وعزز لدى المواطنين المشاعر الموجودة مسبقا بكونهم ضحايا دائمين، وأيقظ ذكريات تاريخية عن العنف والاضطهاد. يبدو الأمر كما لو أنّ الزمن في الوعي العام الإسرائيلي قد توقف عند يوم السابع من أكتوبر، إذ ظل التأثير المؤلم لهذه الصدمة الجماعية يدور في حلقة مفرغة.
اقتباس: "يبدو الأمر كما لو أنّ الزمن في الوعي العام الإسرائيلي قد توقف يوم السابع من أكتوبر، إذ ظل التأثير المؤلم لهذه الصدمة الجماعية يدور في حلقة مفرغة."
تيار لا ينتهي من صور الدمار في غزة أصاب الفلسطينيين في كل مكان بالصدمة، من صور عشرات العائلات التي مُحيت من الوجود محوا بعد الهجمات الإسرائيلية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، والصور التي تُظهِر المجاعة والأمراض الناجمة عمدا بسبب القيود الإسرائيلية التي تعوق نقل المياه والغذاء والدواء والوقود والكهرباء إلى قطاع غزة. وعندما ينظر الفلسطينيون إلى شوارع غزة التي حولتها إسرائيل إلى ما يشبه سطح القمر، يشعرون بالصدمة من مقتل الآلاف من المدنيين، والدمار الهائل الذي أصاب البنية التحتية، ما وُصف بأنه "واحدة من أشد حملات العقاب المدني في التاريخ". وبغض النظر عن أنهم واجهوا تلك الوقائع البشعة طوال عدة أشهر، فإن ذكريات نكبة عام 1948 تلاحق الفلسطينيين، ويطاردهم السؤال حول متى ستنتهي هذه الحرب وما إذا كانت ستنتهي، وكيف يمكن لسكان غزة أن يعيشوا حياة طبيعية مرة أخرى.
انهيار عقيدة الأمن الإسرائيلية
لقد ترددت أصداء هذه الأحداث المروعة في جميع أنحاء العالم، إذ تابع الناس الفظائع المرتكبة ضد الإسرائيليين في وقت حدوثها، وكذلك الفظائع الأضخم التي ارتكبتها إسرائيل ضد سكان غزة، وذلك على وسائل الإعلام الرئيسية والبديلة ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها جيل من الشباب في جميع أنحاء العالم طوال أشهر صور المذابحعلى شاشات هواتفهم. أصبحت فلسطين قضية مركزية للناشطين الشبان والكهول، وللكنائس والنقابات العمالية. وأدت في الوقت نفسه إلى حدوث انقسامات بين الأجيال داخل بعض العائلات، ما أدى إلى تحطيم الإجماع المطمئن بين الليبراليين الغربيين على أن إسرائيل، على الرغم من نواقصها، قوة خيّرة. وقد تسارع ذلك خلال هذه الحرب، ما أدى إلى إلحاق ضرر متزايد بصورة إسرائيل التي تزداد تشوهًا، كما أدى إلى وضع شرعيتها المتقلصة بالفعل موضع تساؤل على مستوى العالم.
لقد كشف الهجوم المفاجئ في السابع من أكتوبر، وكذلك الإخفاقات المتعددة في نظام الأمن الإسرائيلي، عن نقاط الضعف في التخطيط العسكري الإسرائيلي، والاستخبارات، وتكنولوجيا المراقبة التي تُمتدح كثيرًا. كانت تلك واحدة من أسوأ الهزائم العسكرية في تاريخ الجهاز العسكري الإسرائيلي، إذ أدت إلى مقتل وأسر أكثر من 1500 جندي ومدني إسرائيلي في غضون ساعات قليلة بعد اجتياح عدة مستوطنات حدودية، لم يُستعاد بعضها حتى العاشر من أكتوبر 2023.
وقد ألمحت الحكومة الإسرائيلية التي زلزلتها هذه الهزيمة الكارثية إلى أنها سوف ترفض سحب قواتها بالكامل من غزة، وأنها تنوي إعادة احتلال القطاع فترةً طويلة. وبالنظر إلى تاريخ قطاع غزة منذ عام 1948 باعتباره مركزًا للمقاومة على ما تقوم به إسرائيل من نزع ملكية ومصادرة، وما تمارسه من سيادة على الفلسطينيين، فإن تلك النية وصفة لمرحلة جديدة لا تنتهي من هذا الصراع.
اقتباس: "كانت تلك واحدة من أسوأ الهزائم العسكرية في تاريخ الجهاز العسكري الإسرائيلي ، إذ أدت إلى مقتل وأسر أكثر من 1500 جندي ومدني إسرائيلي في غضون ساعات قليلة بعد اجتياح عدة مستوطنات حدودية، لم يُستعاد بعضها حتى العاشر من أكتوبر 2023."
إن الفشل العسكري الذي وقع في السابع من أكتوبر يلقي بظلال الشك أيضا على العقيدة الأمنية الإسرائيلية. غالبا ما يُطلق على تلك العقيدة خطأً اسم "الردع"، لكنها في الواقع مستمدة من النهج العدواني الذي تعلّمه في البداية مؤسسو القوات المسلحة الإسرائيلية الذين كانوا أعضاء مختارين من الميليشيات الصهيونية، تدربوا في أواخر الثلاثينيات على يد خبراء بريطانيين مخضرمين، متخصصين في مكافحة التمرد في المستعمرات، مثل أورد وينغيت، والسير تشارلز تيغارت، وكان العديد منهم قد صقلوا تجاربهم قبل ذلك في أيرلندا والهند. وتنص هذه العقيدة على إمكانية هزيمة العدو بشكل حاسم، وترهيبه بشكل دائم، وإجباره على قبول شروط المستعمر من خلال الهجوم الوقائي بقوة ساحقة، وإرهاب السكان المدنيين الذين يُنظر إليهم باعتبارهم داعمين للمتمردين. وفي الماضي كان هذا المبدأ ــ الذي وصفه المحللون الإسرائيليون بـ"جز العشب"ــ يعني في غزة قتل أعداد كبيرة من الناس بشكل دوري لإجبارهم على قبول الوضع الراهن المتمثل في الحصار وقطع الإمدادات.
وبالرغم من أنّ أحداث السابع من أكتوبر كان من المفترض أن تكشف عن إفلاس التوجه المرتكز على القوة في التعامل مع مشكلة سياسية في الأساس، فمن الواضح أنّ القيادة الإسرائيلية لم تتعلم شيئًا. وبدلاً من ذلك ضاعفت من ممارساتها السابقة، تماشيًا مع المثَل الإسرائيلي المعروف: "إذا لم تنجح القوة، فاستخدم مزيدًا من القوة". ويبدو أن قادة إسرائيل نسوا مقولة كلاوزفيتز بأنّ الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وبدافع من رغبتهم في الانتقام بعد هزيمة عسكرية مُذلة، فإنهم يلوحون بالشعار الفارغ المتمثل في "النصر الكامل"، وفكرة استعادة الموقف العدواني المتمثل في "الردع". ومن الواضح أنّ ذلك عديم الجدوى، لأنه فشل في ردع الهجمات في الماضي.
اقتباس: "وبالرغم من أنّ أحداث السابع من أكتوبر كان من المفترض أن تكشف عن إفلاس التوجه المرتكز على القوة في التعامل مع مشكلة سياسية في الأساس، فمن الواضح أنّ القيادة الإسرائيلية لم تتعلم شيئاً."
هناك أدلة كثيرة على أنّ الحكومة الإسرائيلية كانت ترغب أساسًا في استغلال الفرصة التي أتاحتها الحرب لتنفيذ المزيد من التطهير العرقي للفلسطينيين عبر طردهم إلى مصر أو الأردن، وقد حاولت الولايات المتحدة على نحوٍ مخزٍ إقناع البلدين بقبول هذه الخطة، لكنهما رفضا ذلك رفضًا قاطعًا. ولا يزال الفصيل الاستيطاني القوي داخل الحكومة يدعو إلى تنفيذ تلك الخطة، وربما يأمل في استيطان قطاع غزة من جديد.
وبدلاً من تحديد هدف سياسي محدد، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن هدفها هو التدمير الكامل لحماس –هذا الكيان السياسي العسكري الإيديولوجي الذي له فروع في مختلف أنحاء فلسطين والشتات الفلسطيني- ومن الواضح أنّ هذه مهمة مستحيلة. قد تتمكن إسرائيل من هزيمة قوات حماس العسكرية في قطاع غزة هزيمة حاسمة. لكن إذا نجحت حماس في الاحتفاظ ولو بجزء بسيط من قدراتها العسكرية بعد أشهر عديدة من القتال، فسيكون بمقدورها عندئذ أن تزعم أنّها حققت نصرًا باهظ الثمن. وكما كتب هنري كيسنجر ذات مرة: "تفوز القوات التي تخوض حرب عصابات إذا لم تخسر. أما الجيش التقليدي فيخسر إذا لم ينتصر". وأياً كانت النتيجة العسكرية فإنّ حماس لن يتم تدميرها كقوة سياسية وإيديولوجية.
الاعتماد على القوة
وفي ضوء الآثار المدمرة التي خلفها هجوم أكتوبر على إسرائيل، وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي خلفها الرد الإسرائيلي، فمن غير المرجح أن تختفي فلسفة المقاومة المسلحة التي تتبناها حماس، طالما لا يوجد أمل في إنهاء الاحتلال العسكري والاستعمار والقمع الذي يتعرض إليه الشعب الفلسطيني، وما دام لا يوجد أفق سياسي يبشر بتقرير حقيقي لمصير الفلسطينيين، ويعدهم بالمساواة.
وإذا كانت التوقعات غير واضحة بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الأفق السياسي للفلسطينيين بعد الحرب غامض أيضًا. ومن الناحية العسكرية البحتة كان حجم ونطاق هجوم حماس في أكتوبر لا مثيل له. ومع ذلك، وبالعودة مرة أخرى إلى كلاوزفيتز، فمن الصعب تمييز الأهداف السياسية لحماس. لقد أعلنت حماس في أوقات مختلفة في الماضي استعدادها لقبول دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، كما هو الحال في بيان المبادئ لعام 2017، الذي اعتبر أن "إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة." وقد كرر أحد زعماء حماس هذا العرض مؤخراً، إلى جانب عرض إلقاء السلاح.
غير أنّ حماس دعت في وثيقة عام 2017 نفسها إلى "تحرير فلسطين تحريرًا كاملاً، من نهرها إلى بحرها"، ورفضت باستمرار الاعتراف بشرعية إسرائيل أو نبذ العنف. لقد كان كلا الاتجاهين حاضرين في التصريحات المتناقضة التي أدلى بها قادة حماس منذ أكتوبر، وفي الجهود السابقة والحالية: الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية والاتحاد مع القوى السياسية الفلسطينية الأخرى، أو بدلاً من ذلك معاملتها كمنافسين يجب استبدالهم.
اقتباس: "طالبت حماس بـ"تحرير فلسطين تحريرًا كاملاً، من نهرها إلى بحرها"، ورفضت باستمرار الاعتراف بشرعية إسرائيل أو نبذ العنف."
ومنذ السابع من أكتوبر تعزز هذان الاتجاهان بين الفلسطينيين، بين هؤلاء الذين يؤيدون المقاومة المسلحة، وأولئك الذين يأملون بحذر في تحقيق اختراق في اتجاه إقامة دولة فلسطينية - على الرغم من أن احتمالات إقامة دولة مستقلة حقيقية ضئيلة.
إن أحد الثوابت في حرب المائة عام هذه والتي لها صلة بسياق إنشاء دولة فلسطينية هو أنه في الماضي لم يكن يُسمح للفلسطينيين في كثير من الأحيان باختيار من يمثلهم. من ناحية أخرى فإن ما يفضلونه قد يكون غير مقبول لدى من يمسكون بزمام الأمور، سواء في إسرائيل أو في الدول الغربية أو لدى عملائهم العرب الذين من المرجح أن يحاولوا أن يفرضوا عليهم مَن يمثلهم.
إذا لم يتمكن الفلسطينيون من الاتفاق على صوت سياسي موحد ذي مصداقية يمثل الإجماع الوطني، وإذا فُرض عليهم مَن يمثلهم، فهناك خطر كبير من أن تتخذ قوى خارجية قرارات مهمة بشأن مستقبلهم، متجاهلة تطلعاتهم، كما حدث من قبل في كثير من الأحيان.
لقد صوّرت إسرائيل حربها على غزة على أنها موجهة إلى حماس حصرًا، زاعمةً أنّها تلتزم بدقة بالقانون الإنساني الدولي، وأنّها تستخدم القوة "المتناسبة" والتمييزية، وأنّ الضحايا بين المدنيين "أضرار جانبية" غير مقصودة لأنّ حماس استخدمتهم "كدروع بشرية". كررت الحكومات ووسائل الإعلام في الغرب هذه الادعاءات الكاذبة في الأساس، على الرغم من وضوح الكذب بعد مقتل أكثر من 35 ألف مدني، من بينهم 13 ألف طفل، وتهجير 1,7 مليون شخص، وبعد التدمير المتعمد والواضح للجزء الأعظم من البنية التحتية في قطاع غزة عبر استهداف المستشفيات، ومحطات تنقية المياه، والصرف الصحي، وأنظمة الكهرباء والهاتف والإنترنت، وكذلك عبر الهجوم على المدارس والجامعات والمساجد والكنائس.
فبعد أشهر طويلة من الحرب والدمار والقتل والمجاعة التي تسببت فيها إسرائيل، انكشف الحجاب الذي غطت به على الأحداث الحكوماتُ الغربية ووسائلُ الإعلام الرئيسية التي كانت تردد كالببغاء الحجج الإسرائيلية الأحادية الجانب. ويرى معظم المراقبين الآن، وبحق، أن هذه الحرب موجهة ضد سكان غزة من خلال شكل من أشكال العقاب الجماعي بدافع من الانتقام. وكانت ردود الفعل الغاضبة الناتجة عن الفظائع المرتكبة واحدة تقريبا في جميع أنحاء العالم العربي، وفي معظم بلدان الجنوب العالمي.
السخط العالمي
وكذلك كانت ردود الفعل متشابهة من جانب شرائح متزايدة من السكان الأمريكيين والأوروبيين. لكن هذا السخط العالمي لم يكن له تأثير يُذكر على سياسة حكومة بايدن التي تدعم إسرائيل دعمًا شاملا، بغض النظر عن التوبيخ الخطابي المعتدل، وغير الصادق بشكل واضح، الموجه إلى إسرائيل. لقد أصبحت الولايات المتحدة في مركز الاتهام بالنسبة إلى كثير من الناس في جميع أنحاء العالم: وذلك من خلال التمويل الأمريكي الضخم، وإمدادات الأسلحة، وتجاوز الإجراءات الأمنية التي قررها الكونجرس؛ والحماية الدبلوماسية الشاملة التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل داخل الأمم المتحدة؛ وكذلك التكرار الروتيني لحجج إسرائيل ووجهات نظرها، وما يُنظر إليه على أنّه قسوة من حكومة بايدن تجاه معاناة الفلسطينيين.
لقد فضح الدعم القوي الذي تقدمه الشعوب العربية للفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر الجهلَ المتعمد لأولئك الذين زعموا أنّ فلسطين ليست ذات أهمية بالنسبة للعرب، وأن قضية فلسطين يمكن تجاوزها بقليل من الكلام الأجوف. لقد شهدت الدول العربية في الواقع أشهرًا من أكبر المظاهرات الاحتجاجية الشعبية منذ أكثر من عقد من الزمن. وقد تنجح الأنظمة الاستبدادية في نهاية المطاف في قمع تعاطف مواطنيها مع الفلسطينيين. ومع ذلك، سيكون عليهم أن يأخذوا في الاعتبار بشكل أكثر دقة مشاعر شعوبهم الفياضة المتماهية مع فلسطين.
منذ أكتوبر برز شيء آخر بروزًا واضحًا، ألا وهو القيمة غير المتكافئة التي تقيس بها النخب الغربية حياة الإسرائيليين من ناحية، وحياة العرب من ناحية أخرى. وقد أنتج هذا المعيار المزدوج أجواءً سامة وقمعية في الأماكن التي تهيمن عليها هذه النخب في الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما في الساحة السياسية ووسائل الإعلام، وكذلك في باحات الجامعات. ونتجت عن ذلك موجة من الحملات المسعورة في الكونجرس والمجال الثقافي والجامعات، وتمحورت تلك الموجة حول رفع تهمة معاداة السامية في وجه كل مَن يدافع عن حرية الفلسطينيين، وكل من ينتقد السياسة الإسرائيلية أو الصهيونية.
ويتضمن هذا السلوك قبول التوافق التام بين إسرائيل والصهيونية من ناحية، واليهودية من ناحية أخرى، ويتجاهل المكانة البارزة لليهود الأكثر تقدمية واليهود الشباب في دعم الحقوق الفلسطينية، ورفض أفعال الحكومة الإسرائيلية. إن من السخف تماما الادعاء بأنً معارضة الصهيونية أو الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هي – مبدئيا- معاداة للسامية. لو كان أولئك الذين استعمروا فلسطين مسيحيين مضطهدين من إسكندنافيا رأوا أنفسهم في مهمة مفوضة إلهيًا للاستيلاء على البلاد من سكانها الأصليين، فسيكون من المثير للسخرية الادعاء بأن مقاومة جهودهم "معادية للمسيحية".
اقتباس: "إن من السخف تمامًا الادعاء بأنّ معارضة الصهيونية أو الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هي – مبدئيا- معاداة للسامية."
إن النهج المتحيز بشكل صارخ الذي تتبناه وسائل الإعلام ومعها العديد من السياسيين لصالح إسرائيل هو سلاح ذو حدين: فمن ناحية هناك جمهور يتقلص عدده، يستمد معلوماته من التصوير الإسرائيلي المشوه للواقع في فلسطين، ومن ناحية أخرى لقد أصبحت المعايير المزدوجة المتأصلة واضحة تمامًا بالنسبة إلى الجزء الأعظم من العالم، وخاصة الشباب.
وبدلاً من الحصول على معلوماتهم من وسائل الإعلام الرئيسية التي تقدم الأخبار إلى حد كبير من خلال نظارة إسرائيلية، فإن لدى هذه المجموعات الشابة مجموعة متنوعة من المصادر، يمكن الوصول إليها بشكل رئيسي من خلال وسائل الإعلام البديلة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تقدم صورًا وافرة للموت والدمار والبؤس الذي ألحقته إسرائيل بسكان قطاع غزة. عندئذ تدرك تلك المجموعات أنّ قدرًا كبيرًا من هذا الواقع تتجاهله وسائل الإعلام الرئيسية، لذا تشعر باحتقار متزايد لها.
على الرغم من الموجة الشرسة من قمع المصالح الفلسطينية والتمثيل الفلسطيني في المجال العام وفي الجامعات وفي أماكن أخرى، فإن توفر أكبر طيف متنوع من المعلومات قد بدأ يترك أثرًا سياسيًا وخاصة بين الشباب في الولايات المتحدة، حيث سادت في البداية موجة كبيرة من التعاطف مع إسرائيل كرد فعل على هجمات حماس،والآن يسود التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين الذين يتعرضون إلى المذابح والتجويع. ونتيجة لهذا فقد شهد الرأي العام في الولايات المتحدة تحولاً كبيرًا، وأصبحت أغلبية كبيرة تعارض الآن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة.
منذ انتخابه عضوا في مجلس الشيوخ في عام 1972 ظل جوزيف بايدن متمسكا بالعديد من الأساطير المنسوجة حول إسرائيل وفلسطين التي تسود الخطاب الأمريكي. واحتفظت حكومته بعديد من الإجراءات المنحازة انحيازًا صارخًا إلى إسرائيل والتي سنتها الإدارة السابقة، بما في ذلك التقليل من أهمية القضية الفلسطينية مع التركيز على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. واصل بايدن وفريقه الضغط بقوة من أجل التوصل إلى اتفاق تطبيع سعودي إسرائيلي يهدف إلى تقارب الدولة العربية الأكثر نفوذاً مع إسرائيل، ومواصلة تقليص الآمال الفلسطينية في تحقيق أي من أهدافهم الوطنية.
وهم التطبيع السعودي
على الرغم من أنّ وهم اتفاقية التطبيع قد اصطدم اصطدامًا قويًا مع الواقع بعد السابع من أكتوبر، فإن حكومة بايدن لم تحد قط عن الترويج للفكرة. لقد فعلت ذلك بينما كانت تعمل على تقويض سلطة عملائها العرب من خلال دعمها غير المحدود للحملة الوحشية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة التي اعتبرتها حكومته بحزم "دفاعًا عن النفس". وشمل هذا الدعم الرفضَ القاطع لوقف إطلاق النار بشكل دائم، وشمل أيضًا إطلاق رحلات جوية طارئة لتوريد الذخيرة والأسلحة لولاها لما كانت الحملة العسكرية الإسرائيلية قادرة على الاستمرار.
اقتباس: "احتفظت حكومة بايدن بعديد من الإجراءات المنحازة انحيازًا صارخًا إلى إسرائيل والتي سنتها الإدارة السابقة، بما في ذلك التقليل من أهمية القضية الفلسطينية مع التركيز على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية."
من خلال هذه الأفعال، ومن خلال ترديده المستمر للخطاب الإسرائيلي، عزز بايدن الشعور بأن الولايات المتحدة معادية بشدة للفلسطينيين. وحتى عندما طالب من إسرائيل أخيرًا، وبعد تأخر دام شهورًا، بإنهاء تجويع سكان قطاع غزة ـ وهو ما لم تفعله إسرائيل حتى الآن- فإن ذلك لم يكن رد فعل على صور الأطفال الفلسطينيين الذين أصبحوا جلدًا على عظم، بل ردًا على وفاة عمال الإغاثة الأجانب.
وحتى دعوة حكومة بايدن إلى "حل الدولتين" تبدو جوفاء، إذ لم تكن هناك أي بوادر تشير إلى أنّ الولايات المتحدة ستطالب بتحقيق المتطلبات الأساسية لتنفيذ حل الدولتين الحقيقي، أي: نهاية سريعة وكاملة للاحتلال العسكري الإسرائيلي المستمر منذ 56 عاما، وإنهاء اغتصاب الأراضي الفلسطينية واستعمارها بعد أن وطنت إسرائيل نحو750 ألف مستوطن غير شرعي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولم تلمّح الولايات المتحدة أيضا بأنها ستقبل بأن يختار الفلسطينيون ممثليهم اختيارًا ديمقراطيًا.
خدعة وحشية
وفي غياب التطبيق الصارم لهذه الإجراءات فإن الدعوة إلى "حل الدولتين" كانت دائماً مجرد خدعة وحشية. فبدلاً من تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، فإن تلك الدعوة تحافظ على الوضع الراهن في فلسطين في شكل مختلف، مع وجود "سلطة ذاتية فلسطينية" خاضعة إلى سيطرة خارجية، بلا اختصاصات أو سيادة، ثم استبدال تلك السلطة بـ "دولة فلسطينية" تابعة، هي أيضًا لا تتمتع بالسيادة والاستقلال المرتبطين بدولة حقيقية. هذه الدولة ستكون بمثابة مهزلة، فهي مجرد أرخبيل مفكك من البانتوستانات تحت سيطرة إسرائيل، مع الإشراف المالي والأمني من جانب الولايات المتحدة وحلفائها من الأوروبيين والعرب.
إذا ألقينا نظرة على الأشهر التسعة الماضية - على المذابح الوحشية للمدنيين، وعلى ملايين الأشخاص الذين أصبحوا مشردين، والمجاعة الجماعية والأمراض التي تسببت فيها إسرائيل – فسيتضح لنا أن ما حدث يمثل حضيضًا جديدًا وصل إليه. وفي حين تعكس هذه المرحلة الملامحَ الأساسية للمراحل السابقة في حرب المائة عام هذه، فإن حدتها فريدة من نوعها، وقد خلّفت كذلك صدمات عميقة وجديدة. ولا توجد في الأفق نهاية لهذه المذبحة، ويبدو أنّه لا يوجد طريق عملي نحو حل دائم ومستدام في فلسطين. ولن يمكن التوصل إلى حل إلا عبر تفكيك هياكل السيادة والتمييز الراسخة، وعبر العدالة والمساواة في الحقوق والاعتراف المتبادل - وهي الإجراءات التي انتهجتها جنوب أفريقيا وأيرلندا، لكنها لا تزال بعيدة المنال في فلسطين.
© Qantara.de/ar 2024
رشيد خالدي: مؤرخ فلسطيني أمريكي متخصص في الشرق الأوسط، كان يشغل كرسي البروفيسور إدوارد سعيد للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، نيويورك. شارك خالدي في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وله مؤلفات عديدة، منها "حرب المائة عام على فلسطين" (2020)، و"الهوية الفلسطينية: بناء وعي وطني حديث" (1997).