كيف عادت مصر إلى العسكريتاريا الشعبوية؟
على وقع تنوعات "ثورات الربيع العربي" اعتقدت، في البداية، أن "ثورة 25 يناير" المصرية سوف تكون نبراساً رياديا كعادة الدور المصري التاريخي لجهة حذو العرب حذوه والتمثل به منذ مشروع محمد علي التحديثي في بدايات القرن التاسع عشر ثم مشروع النهضة العربية والمشروع القوموي الناصري. في القاهرة بدأت الحكاية بطلائع شبابية تمثل قوى مدنية مثل حركة شباب 6 ابريل وحركة شباب من أجل العدالة والحرية والحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) والجمعية الوطنية للتغيير والحركة الشعبية الديمقراطية للتغيير.
ضربوا موعداً مع أنصارهم عبر وسائل الاتصال الاجتماعي للتظاهر ضد ممارسات الاستبداد البوليسي أمام وزارة الداخلية في يوم "25 يناير" الذي يوافق الاحتفال الرسمي بعيد الشرطة كي يعبروا عن رفضهم لنظام مبارك البوليسي المبني على ديكتاتورية "دولة الأمن المركزي".
مع الساعات تضاعفت أعداد المتظاهرين حتى ضاقت بهم الشوارع. في البداية كانت الشعارات المرفوعة والهتافات الصائحة ترفع عقيرتها احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية بمزيد من الفقر والبطالة والغلاء، ومنادين برحيل الحكومة.
مع ازدياد القمع ارتفع سقف المطالب في ميدان التحرير
ثم مع تضخم المظاهرات وانتشارها في عديد المدن المصرية وتدفق الآلاف المؤلفة على ميدان التحرير في قلب القاهرة وأمام ما تعرضوا له من قمع وقتل من طرف قوات الأمن المركزي، ارتفع سقف المطالب بالهتاف:"تونس هي الحل" و"يسقط يسقط حسني مبارك" و"الشعب يريد إسقاط النظام".
ومعروف أن جماعة الإخوان لم تشارك في الإعداد للمظاهرات ولم تقرر الانخراط فيها إلا بعد ثلاثة أيام عندما رأت ضرورة المشاركة بعناصرها في ما عُرف بيوم "جمعة الغضب". وسرعان ما تصدرت قيادات "الجماعة" منصة ميدان التحرير. تنظم عناصرها داخل الميدان في قوة متماسكة منضبطة مطيعة لأوامر قادتها.
كانت جماعة الإخوان بحكم تاريخها الطويل كمنظمة اجتماعية سياسية الأكثر تنظيماً وشعبية. فهي تملك هيكلية متشعبة نشطة تروج لأجنداتها السياسية والدينية من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية وتوزيع المساعدات العينية على المحتاجين خصوصاً أثناء كوارث الفيضانات أو الزلازل مما جعلها تحظى بشعبية كبيرة. وقدراتها وخبراتها هذه مكنتها من تنظيم التظاهرات الانتخابية والفاعليات الشعبية الناجحة في حث الناخبين على الإدلاء بأصواتهم لها.
صعود الإخوان وأفول التيار الليبرالي والقومي انتخابيا
وقد وجدتْ في "ثورة 25 يناير" الفرصة التاريخية الأثمن للوصول إلى السلطة لا سيما وأنها نالت رضا الإدارة الأمريكية بتوليها زمام الحكم من طريق الانتخابات التي فاز فيها مرشحها محمد مرسي بالرئاسة في الجولة الثانية 17 يونيو 2012 بنسبة ضئيلة (51.73%). ولم تكن أصوات مؤيدي"ثورة 25 يناير"، التي رجحت كفة فوزه، مؤيدة لشخصه أو لحزبه أو لجماعته، إنما أرادت قطع الطريق على فوز منافسه الفريق أحمد شفيق بحسبانه مرشح النظام القديم أو قلَ "الثورة المضادة"، ليحصد بعدها الإخوان مع بقية الجماعات الإسلامية ثلثا مقاعد مجلس الشعب في انتخابات في 20 يناير 2013.
أما القوى السياسية المدنية من علمانيين وليبراليين وقوميين ويساريين فقد تلقوا هزيمة نكراء. وفتش هنا عن طبيعة الوعي الشعبي العام في مشهد السفور الطبقي الفاجر بين طبقة بالغة الثراء تستحوذ على نسبة 44 في المائة من الدخل القومي ثم طبقة وسطى واسعة لكنها متآكلة اقتصادياً تعاني العوز المعيشي الشديد. أسفلها طبقة دُّنيا مطحونة، مركبة من مستويات متدّنية تحت خط الفقر تشمل أكثر من 50 في المائة من السكان وتصل في قاعها المخيف إلى الطبقة العشوائية التي تمثل ثقباً اجتماعياً أسود يشكل خطرا مصيريا على مستقبل الديمقراطية السياسية في غياب العدالة الاجتماعية.
الإخوان ليسوا ملائكة بل مثل غيرهم يقعون في أحابيل السياسة
لقد فاز الإخوان وبقية الإسلاميين بأصوات المعوّزين والمطحونين المراهنين على أن الإخوان أقرب لوعيهم الديني وأفضل لخدمة مصالحهم من قوى ونخب المعارضة الليبرالية واليسارية المتعالية عليهم بأجندات إيديولوجية وأدبيات بلاغية لا يفهمونها. لكن فوز الإخوان بناصيتي السلطة التنفيذية والتشريعية سرعان ما أظهرهم على حقيقتهم البشرية.
بمعنى أنهم ليسوا ملائكة مُنزّلين من السماء على الأرض ليقيموا العدل والرخاء لمجرد رفعهم شعار "الإسلام هو الحل" وإنما هم مثلهم مثل غيرهم من السياسيين يقعون في أحابيل السياسة وما تقتضيه من خبث وكذب وتحايل وتلاعب وفساد ذمم وتنصل من الوعود المقطوعة للناخبين.
ولطالما اعتقدتُ أنه في وصول الإسلام السياسي العربي تحديداً (الإخوان هنا) نهاية مشروعهم الإيديولوجي الشمولي. (وهو ما بينته في كتابي" نهاية الأصولية ومستقبل الإسلام السياسي" الصادر عن دار رياض الريس/ بيروت 2008).
فقد تبين للناس بعد شهور قليلة من ممارسة الإخوان لشؤون السلطة السياسية والاقتصادية أنهم لا يملكون الكفاءة اللازمة لإدارة الاقتصاد السياسي بمقتضيات الدولة الحديثة، وأن برنامجهم السياسي المطروح في رؤية "مشروع النهضة" مجرد رطانة سياسية تطرح أهداف خلابة لا يملكون حلولا عملية لتحقيقها.
فأهملوا معالجة مصالح الناس المتضررة وانهمكوا في ما يجيدونه: احتكار مناصب السلطة وتوزيعها على أعوانهم أو مَنْ يثقون فيهم، فيما تمادى الرئيس مرسي في ارتكاب أخطاء سياسية فادحة بمعاداته للشرطة والمجلس العسكري وتخوين المعارضة وإعلامها، وفتح معركة خطيرة مع الهيئات القضائية عندما أصدر قانوناً مجحفاً بعزل 3500 قاضٍ.
فشاع توجس رائج في الرأي العام بأن "الجماعة" لا يسعون إلى اخونة الحكومة فحسب وإنما أيضاً مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والإعلامية والمصرفية في اتجاه احتكار السلط لصالح مشروعهم الشمولي المأخوذ (إيديولوجياً) بيوتوبيا "الدولة الإسلامية الأممية" المتعالية على مصالح الدول الوطنية.
فقدان للثقة بحكم أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر
الإخوان قالوا إن من حقهم ديمقراطيا كفائزين بالرئاسة وأغلبية البرلمان أن يحكموا بعناصرهم لتطبيق سياساتهم وبرامجهم التي وعدوا الناس بها، دون أن يلتفتوا إلى حقيقة أن مرحلة ما بعد الثورات تستدعي بالضرورة البراغماتية تشكيل حكومة وحدة وطنية من القوى المشاركة في الثورة لترسيخ الاستقرار السياسي وتحقيق مطالب الناس المرفوعة في شعار ثورة 25 يناير الأبرز:"عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
وبدأ الرئيس محمد مرسي الخاضع لإرشادات مرشد الإخوان العام كتابع مطيع يتصرف بنزعة ديكتاتورية من خلال تحصين قراراته من سلطة القضاء والخروج بدستور صاغه نواب من الإخوان وحلفائهم من نواب إسلاميين غيرهم.
ومنذ بداية حكمهم أخذ الوضع الاقتصادي في التدهور فساءت أحوال الناس المعيشية. وهنا يتهم الإخوان قوى "الدولة العميقة" داخل المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية والجهاز البيروقراطي للدولة ووسائل الإعلام، علاوة على كبار رجال المال والأعمال، بأنهم وراء زعزعة الوضع الاقتصادي تمهيداً للانقلاب العسكري على الديمقراطية الوليدة.
ولم يكن الدكتور محمد مرسي قد أكمل عامه الأول كأول رئيس مدني منتخب عندما انبثقت فجأة "حركة تمرد" التي أطلقت في 26 أبريل 2013 من ميدان التحرير بالقاهرة حملة شعبية لجمع تواقيع مليونية بغرض سحب الثقة من الرئيس مرسي مستفيدة من السخط الشعبي العارم على تردي الأحوال المعيشية وقد فقد غالبية الشعب ثقتهم في حكم الإخوان بل وفي الإسلام السياسي بشكل عام.
استغلال العسكر لمظاهرات 30 يونيو من أجل الانقلاب على السلطة المنتخبة
كانت المؤسسة العسكرية (السلطة الخفيّة) تراقب المشهد المأزوم متأهبة مع اقتراب موعد التظاهرات الحاشدة في 30 يونيو. كانت الأحداث تجرى كقصة انقلاب معلن عنه. أي سابق التجهيز. فالمؤسسة العسكرية التي ظهر منها عبد الناصر فالسادات فمبارك تعتبر نفسها مصدر الشرعية التاريخية للحكم.
والملايين الذين خرجوا في 30 يونيو كانوا يهتفون: "يسقط يسقط حكم المرشد" و"الجيش والشعب إيد واحدة". وهنا يظهر عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة معلناً عن إمهال القوى السياسية 48 ساعة "لتحمل أعباء الظرف التاريخي. وإذا لم تتحقق مطالب الشعب خلال هذه المدة فإن القوات المسلحة ستعلن عن خريطة مستقبل وإجراءات تشرف على تنفيذها".
ولم تراجع "الجماعة" نفسها لتدرك أن غالبية في الشعب ترفض حكمها. وبدلاً من أن تجعل الرئيس مرسي يقبل بمطلب الاستقالة، جعلته يتعنت في رفضها. فعكس مرسي بذلك كما قال القائد السياسي محمد البرادعي: " عجزًا واضحًا عن الإقرار بالواقع الصعب الذي تعيشه مصر بسبب فشله في إدارة شؤون البلاد منذ أن تولى منصبه قبل عام".
السيسي يعيد مصر إلى حكم العسكريتاريا ذات الإعلام التطبيلي
وكان واضحاً أن السيسي يعد نفسه لخلع البدلة العسكرية وتولي حكم "المحروسة" مستنداً على شعبيته الكاسحة التي لم يشهد المصريون مثيلا لها منذ عبد الناصر. وكما هو متوقع فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 96.9% ليعود بمصر إلى حكم العسكريتاريا ذات الشكل الديمقراطي الكرتوني والإعلام التطبيلي بالتحالف مع الطبقة الأوليغارشية (رجال المال والأعمال والسياسيين من عهد مبارك).
لكن شعبيته الهائلة بدأت في التآكل منذ عام 2016 بسبب ولعه بإنشاء المشاريع العملاقة (الفرعونية) وتلزيم عقودها الحكومية بشروط مربحة وإعفاء من الضرائب لشركات الجيش التي تمثل اقتصاداً ضخماً موازيا يسيطر على 10% من الاقتصاد المصري، بحسب تصريح رسمي في عهد مبارك ويستخدم المجندين كعمالة أساسية رخيصة في تنفيذ مشاريعه. وقد تضخم بشكل هائل في عهد السيسي الذي أدخل الجيش في شراكات مع مستثمرين أجانب.
"السيسي أسوأ من مبارك"...تردي الاقتصاد وازدياد القمع
وأصدر السيسي قرارا بتخصيص 17 ألفًا فدانًا من أراضي الدولة لإنشاء العاصمة الجديدة بتكلفة 300 مليار دولار. وتعتبر موازنة الجيش سرًا عسكريًا لا يمكن الاطلاع عليه. ويأتي ذلك على حساب الأوليات الملحة في تنمية اقتصاد العدالة الاجتماعية لمجابهة الفقر والبطالة وتردي التعليم والصحة.
وباعتماد حكومته وصفات البنك الدولي تم تعويم الجنيه ففقد أكثر من 60 في المائة من قيمته مع معدل تضخم غير مسبوق متجاوزاً حاجز 30 %. وبالتالي تضاعف ارتفاع أسعار السلع الحيوية لحياة المصريين من غذاء ووقود ودواء، في ظل معدلات بطالة مخيفة فاقت 33% بين الشباب.
والآن، بعد 5 سنوات على إسقاط حكم الإخوان واعتبار جماعتهم منظمة إرهابية والزج بقياداتها وكوادرها وعناصرها في المعتقلات في ظل قانون مكافحة الإرهاب الذي يجري استخدامه كتبرير قانوني للقمع السياسي من خلال تجريم الاحتجاجات السلمية وملاحقة الصحفيين وإلصاق تهمة الإرهاب بالمعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين، وممارسة الإخفاء القسري والقتل خارج القانون، ليصبح السيسي ونظامه كما وصفه المرشح الرئاسي الأسبق حمدين الصباحي على حسابه بموقع فيسبوك:" النسخة الأكثر رداءه من نظام مبارك.. هو الاستبداد فجا وفاجرا".
وقد لمستُ خلال زيارتي للقاهرة مؤخراً أن سخط الناس (مثقفون وموظفون وتجار صغار وبوابون وسائقو تاكسي...) على السيسي فاق سخطهم على مبارك الذي أبدى الكثيرون ندما على عهده وحنيناً إليه، عاكسين بذلك خيبة أملهم في وعود الرئيس السيسي لهم بالديمقراطية والرخاء الاقتصادي.
ورغم تضاؤل شعبيته على نطاق واسع في الطبقة الوسطى والدنيا نجده يفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات 2018 (المشكوك في نزاهتها) بنسبة أعلى من الأولى بلغت 97.08 % وكمرشح وحيد عمليا بعدما اعتقل القضاء العسكري المنافسين القويين وهما الفريق المتقاعد أحمد شفيق والفريق المتقاعد سامي عنان وانسحاب المنافسين الآخرين لأن "القمع أخلى الساحة من المنافسين الحقيقيين" على رأي أحدهم.
ولكي لا يفوز السيسي بالتزكية إذا لم يترشح أحد أمامه، ظهر أو قلّ ظُهِّرَ له منافس في اللحظة الأخيرة حيث قدم أوراق ترشحه قبل أقل من نصف ساعة من غلق باب الترشح. اسمه موسى مصطفى موسى وهو غير معروف للناس كما قال في تصريحه لمجلة "دير شبيغل" الألمانية: "أكثر المصريين لا يعلمون بوجودي". ثم أنه وحزبه القزم من أشد مؤيدي السيسي. وحساب الفيسبوك الخاص به يغص بصور الرئيس السيسي وبوستات التأييد والتمجيد..... فإلى أين يذهب الرئيس/الجنرال بـ"المحروسة" عاصفاً بربيعها المجهض.
فرج العشة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018