رقص رمال الصحراء التونسية على إيقاعات إلكترونية

في الصحراء، حيث قام المخرج الأمريكي جورج لوكاس بتصوير فيلمه حرب النجوم، أحيا الشباب التونسيون أكبر مهرجان للموسيقى الإلكترونية في شمال أفريقيا. جاء هذا المهرجان متناسبًا تمامًا مع برنامج الحكومة التونسية. لكن على الرغم من نجاحة، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان. الصحفي الألماني يانيس هاغمان يسلط الضوء من تونس لموقع قنطرة على هذا الحدث الموسيقي.

الكاتبة ، الكاتب: يانيس هجمان

سيجارة يان ديغورس ملتوية ومتجعِّدة وقد بدأ فتات التبغ يتساقط منها وهو ينقلها بعصبية طيلة هذا الوقت بين يديه. لا يوجد لديه وقت للتدخين، لأنَّ مراسلي صحيفة نيويورك تايمز موجودون هنا وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي". جاء المراسلون من إيطاليا وألمانيا وحتى من المجر إلى مدينة نفطة في الصحراء التونسية، من أجل تغطية مهرجان موسيقي. ثلاثة أيَّام من موسيقى الـ "بِيت -باس" في الصحراء، والغاية من حضور الصحفيين هي تعريف كلِّ العالم على مهرجان "الكثبان الرملية"، الذي يعدُّ أكبر مهرجان للموسيقى الإلكترونية في شمال أفريقيا.

"توجد العشرات من المهرجانات في أوروبا، فلماذا لا نقيم مهرجانًا هنا؟"، مثلما رد يان ديغورس على بعض الصحفيين، الذين تجمعوا من حوله. قام يان ديغورس مع فريقه الفرنسي-التونسي بتنظيم هذا المهرجان للمرة الثانية. وحول ذلك يقول: "ذهبنا إلى وزير السياحة وقلنا له: أنتم لديكم مشكلة مع السياحة في جنوب البلاد، ونحن لدينا فكرة".

وفي وزارة السياحة وجد اقتراحه آذانًا صاغية، وذلك لأنَّ أعدادًا قليلة فقط من السياح يزورون جنوب تونس. بينما يملأ ثمانون في المائة من السياح في تونس مباني الفنادق المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ومثل تونس لا يوجد بلد آخر في المنطقة معروف بانخفاض أثمنة الإجازات على الشواطئ مع أشعة الشمس المضمونة. وفي هذا الصدد يقول يان ديغورس: "عندما يأتون في البداية إلى المهرجان، ربما سوف يبقون فترة أطول في الجنوب أو أنَّّهم سيعودون في وقت لاحق مرة أخرى".

Tanzende beim Elektro-Festival "Les Dunes Electroniques" in Tunesien; Foto: Jannis Hagmann
ثلاثة أيَّام من موسيقى الـ "بِيت -باس" في الصحراء - يقول يان ديغورس، المبادر بتنظيم مهرجان الكثبان الإلكترونية: "يجب أن يتعرَّف كلّ العالم على مهرجان الكثبان الرملية، الذي يعدُّ أكبر مهرجان للموسيقى الإلكترونية في شمال أفريقيا".

فوق أرض المهرجان، التي تحيط بها كثبان رملية مرتفعة مثل الجبال، يرتفع برجان كبيران من مكبِّرات الصوت. وخلف المسرح تبدو بعض المنازل الصحراوية الصغيرة  مثل أكواخ ثلجية من الرمل. هنا قام المخرج الأمريكي جورج لوكاس في التسعينيات بتصوير الحلقتين الأولى والثانية من سلسلة أفلامه الأسطورية حرب النجوم، حتى أنَّه لا يزال يوجد من بقايا كواليس الفيلم الأصلية صاروخ متهالك ولكن تم صبغه حديثًا باللون الرمادي.

لقد أطلق منظمو المهرجان هذا العام على مهرجانهم اسم "كثبان رملية - الحلقة الثانية" استنادًا إلى فيلم حرب النجوم. وهنا في المدينة الخيالية موس إسبا - مسقط رأس شخصية حرب النجوم دارث فيدر على الكوكب الخيالي تاتوين، تستعد أوَّل مجموعة دي جيه لتقديم موسيقاها.

الأميرة ليا ودارث فيدر

ولذلك لا عجب من أنَّ بعضًا من هواة حرب النجوم اختلطوا أيضًا بزوَّار المهرجان. تبتسم أمام الكاميرا شابة في زي الأميرة ليا، بوجه شاحب وشعر معقودة ضفائره بشدة، بينما يقف أمام بعض الصحفيين شاب في زي دارث فيدر. ومن خلال زيهما جذبا نحوهما العديد من المصوِّرين.

يقول يان ديغورس إنَّ أكثر من مئتين وخمسين صحفيًا جاؤوا إلى هنا، بعد أن دعاهم منظمو المهرجان، وكذلك لم تبخل وزارة السياحة التونسية في دعوة الصحفيين. وتحت شعار "نمط الحياة الجديد في جنوب تونس" دعت هذه الوزارة خمسة عشر صحفيًا من ألمانيا وحدها. بالإضافة إلى دعوتها ستين صحفيًا آخر من روسيا والسويد وبريطانيا وأوروبا الشرقية. من المفترض أن يجذب مهرجان "الكثبان الإلكترونية" في المستقبل الزوَّار من أوروبا أيضًا - في شهر شباط/فبراير، عندما يكون موسم المهرجانات في أوروبا قد انتهى منذ فترة طويلة ولم يبدأ بعد بيع التذاكر للموسم القادم.

وبالنسبة للحكومة التونسية يعتبر دعم "الكثبان" - مثلما يطلق عشاق الموسيقى الإلكترونية في هذا المهرجان على أنفسهم - جزءًا من استراتيجية سياحية جديدة. وحول ذلك تقول وزيرة السياحة التونسية سلمى اللومي الرقيق: "هدفنا هو تنويع العرض". وشعار برنامجها هو الابتعاد عن الشواطئ والدخول إلى عمق البلاد، لأنَّ جنوب تونس بصورة خاصة يحتاج - بحسب قولها - إلى تنميته في هذا المجال. وبالإضافة إلى العديد من كواليس فيلم حرب النجوم المنتشرة في المنطقة، من المفترض أن يكون هذا المهرجان مصدر جذب يستقطب السياح إلى المناطق الداخلية.

منارة في العالم العربي

وفي حين أنَّ الحرب الأهلية لا تزال مستمرة في كلّ من ليبيا وسوريا وقد تحوَّلت أجواء التفاؤل في مصر إلى ديكتاتورية تم فرضها من جديد، فإنَّ تونس تظهر بمهرجان الموسيقى الإلكترونية كبلد حديث منفتح على العالم. ورسالة تونس هي الرقص على أنغام الموسيقى الإلكترونية بدل الإرهاب. يقول أحد منظمي المهرجان أمام جهاز التسجيل: "بعد الثورة الناس يريدون الاحتفال. والكثبان الإلكترونية هي رمز لتونس الجديدة".

تعتبر تونس بمثابة منارة في العالم العربي. وفي هذا المعنى كثيرًا ما يُقال إنَّه إذا باءت البداية الجديدة في تونس بالفشل، فعندئذ ستفشل أيضًا عملية التحوُّل الديمقراطي في المنطقة. ولكن الوضع لا يبدو كذلك. فعلى الرغم من التهديدات الكبيرة من قبل الإرهابيين وعلى الرغم من الوضع المتأزِّم على الحدود مع ليبيا، لكن لقد تم انتخاب البرلمان والرئيس التونسيين في انتخابات حرّة. ومنذ شهر شباط/فبراير 2015 توجد في تونس حكومة ائتلافية منتخبة لمدة خمسة أعوام. وكذلك يلتزم إسلاميو حزب "النهضة" - المشارك بحقيبة وزارية في الحكومة - بالقواعد الديمقراطية.

Festival Dunes Electroniques in Tunesien; Foto: DW/S. Mersch مهرجان "الكثبان الإلكترونية" للموسيقى الإلكترونية في تونس
موسيقى الـ "بِيت - باس" في بحر من رمال الصحراء - قام هذا العام 2015 يان ديغورس مع فريقه الفرنسي-التونسي بتنظيم هذا المهرجان للمرة الثانية. وفي عام 2014 حقَّق هذا المهرجان نجاحًا كبيرًا، حيث اجتمع فيه أكثر من عشرة آلاف شخص من محبِّي الرقص على الموسيقى الإلكترونية.

وكذلك يتمتَّع الشباب في تونس بالمزيد من الحرية، مثلما قالت مؤخرًا الناشطة في مجال الحقوق المدنية آمنة منيف على هامش فعالية أقيمت في برلين: "نحن لدينا تقليد عريق من ثقافة الشباب". غير أنَّ الثورة في عام 2011 هي التي حرَّرت هذه الثقافة من قبضة النظام، بحسب قولها: "قبل الثورة كان يتم تحديد شكل ثقافة الشباب من أعلى، أمَّا الآن فبإمكان الناس أن يفعلوا ما يريدون".

ولكن في الواقع توجد لدى آمنة منيف بعض التحفُّظات على صورة تونس باعتبارها بارقة أمل في بحر من الخراب والدمار. وهي لا تثق بالإسلامويين. كما أنَّها لا تعتقد بإمكانية ترويضهم من خلال إشراكهم في العملية السياسية. وتقول إنَّ تفاؤل الكثيرين من المراقبين يؤدِّي إلى إخفاء المشكلات في البلاد. تضيف الناشطة في مجال الحقوق المدنية أنَّ هناك مجتمعين في تونس: "واحد مستنير وعصري، والآخر يعاني من التهمش والإقصاء الاجتماعي".

وتقول منتقدة: "الكثبان الإلكترونية مهرجان عظيم، بيد أنَّه مع الأسف بعيد كلَّ البعد عن ثقافتنا. يجب علينا تغيير الثقافة. وهذا فقط من الممكن أن يكون ثورة حقيقية". بيد أنَّ ذلك لن يتحقَّق من خلال مهرجان للموسيقى الإلكترونية بعيد مسافة ساعات بالسيارة عن المدن والقرى في الشمال، مثلما تقول.

ولذلك فإنَّ الوصول إلى مهرجان الكثبان الإلكترونية يعدُّ أمرًا مستحيلاً بالنسبة للناس البسطاء. وعلى الأرجح أيضًا أنَّ سعر بطاقة المهرجان الذي يبلغ نحو خمسة وأربعين يورو يمثِّل متعة باهظة الثمن بالنسبة للكثيرين من الشباب التونسيين.

Elektro-Festival "Les Dunes Electroniques" in Tunesien; Foto: Jannis Hagmann مهرجان "الكثبان الإلكترونية" للموسيقى الإلكترونية في تونس
الرقص بدل الإرهاب - في حين أنَّ الحرب الأهلية لا تزال مستمرة في كلّ من ليبيا وسوريا وقد تحوَّلت أجواء التفاؤل في مصر إلى ديكتاتورية تم فرضها من جديد، فإنَّ تونس تظهر بمهرجان الموسيقى الإلكترونية كبلد حديث منفتح على العالم.

الكوكا كولا بدل السياسة

وفي الخارج في موقف السيارات أمام حواجز التفتيش الأمنية، أقام بعض الأهالي القادمين من واحة نفطة أكشاكهم. وفي هذه الأكشاك يبيعون القهوة والتمر والشطائر. وقد جلبوا معهم من أجل روَّاد المهرجان الأجانب القليلين زهورًا صحراوية وقشابيات خاصة بهذه المنطقة، وهي عبارة عن جُبَّة طويلة لها قُبٌّ يغطي الرأس - ومن الملفت للنظر أنَّها تشبه تلك الملابس التي ألبسها المخرج جورج لوكاس لسكَّان كوكبه.

وفي داخل أرض المهرجان توزِّع (شركة) كوكا كولا مواد دعاية، ونشاهد شابًا مكتوب على قبعته "أنا أحب بيرتي"، وزائرًا آخر يرتدي قميصًا ملوَّنًا يبرز عضلاته ونظارات شمسية وقد ارتسمت السعادة بوضوح على وجهه، عندما بدأ صوت الباص يرتفع وبدأ هو يرقص ويدور حول نفسه مثل درويش بذراعين ممدودتين. لكن مع ذلك يُذكِّر وجود العشرات من سيارات الشرطة وانتشار الجنود المدجَّجين بالسلاح فوق قمم الكثبان الرملية بالوضع الأمني ​​المتوتِّر في البلاد.

وفي الحقيقة شكِّلت حالة الطقس مصدر قلق أكبر مما شكلته الأوضاع السياسية. فقد تحتَّم تأجيل الافتتاح ليوم واحد، وذلك بسبب غزارة الأمطار وشدة العواصف. ولذلك انسحب من البرنامج مشغّلو موسيقى "دي جيه" كثيرون، وبدلاً من تقديمهم الأغاني والموسيقى في الهواء الطلق تولى الـ دي جيه المتبقون فعل ذلك في الفنادق القريبة.

ولكن كذلك في اليوم التالي صارت السماء خلف الكثبان الرملية تنصبغ بصبغة قاتمة اللون ومعتمة. ولعدة ساعات احتمل الراقصون الأمطار الغزيرة وواصلوا الرقص في وحل الصحراء. ولكن فجأة توقفت الموسيقى. وهكذا انتهت الكثبان الإلكترونية لهذا العام وغرقت في الماء - حتى عودتها العام القادم في حلقتها الثالثة.

 

 

يانيس هاغمان

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de