عالم الشاعرة العراقية نازك الملائكة
أريد أن أكسر تقليداً نقدياً وأدبياً تداوله المهتمون بنازك الملائكة، وهكذا سأغادر نتاجها الأدبي الباذخ الأنيق لأكتب عن رعبها من غضب دجلة وعن قلبها وعن أمومتها التي حولتها من عاشقة الليل والقصائد إلى عاشقة البراق ابنها الوحيد الذي رُزقت به وهي على أعتاب الأربعين، ولأكتب عن تقييمها للفن وعن شياطين شعرها، وعن موقفها من عبث السياسة في عراق ينتقل بفوضى من نظام الممالك إلى نظام الجمهوريات.
ولا أدعي في هذه العجالة أني أحلل نقدياً دوافعها الشعرية، أو استقصي إلهامها من بحر أسرار موهبتها، أو أطارد دوافع عواطفها الجياشة وأتقصّى قرارة موجاتها، فهذا يقوم به مئات المتولعين بالنقد والمعنيين بالتنظير، أما أنا فأحلل ما عشته شخصياً وأنا أزورها في غرفتيها الكبيرتين المفتوحتين على بعض بأقصى بيت أبيها صادق الملائكة في شارع أبو قلام بالكرادة الشرقية.
قبل تاريخها في الكرادة، ولدت نازك في محلة العاقولية، وهي محلة اختفت من خرائط شارع الرشيد، لكنها تقع بنحو تقريبي بين (عكد الجام، شارع الأمين وصبابيغ الآل)، وحين انتقلت العائلة إلى ضاحية الكرادة الشرقية النائمة بين بساتين النخيل، عتب أهل البيت الكبير على أبيها الراحل الكاتب والمربي الكبير صادق الملائكة واعتبروه قد نأى عن العمران وعن قلب بغداد النابض بأهلها، ومضى في الزراعة مقترباً من الأعراب ومبتعداً عن الحضر!
بيت الملائكة في "أبو قلام" يبعد عن ضفاف دجلة نحو مئتي متر، حتى أن أهله كانوا يخشون طغيان مياه الفيضانات على بيتهم، ومنها فيضان دجلة عام 1954 الذي أرعبهم، فجلوا إلى بيت العائلة الكبير في الكاظمية قرب حمام المالح، حيث مباني الكاظمية متحصنة خلف ضفاف النهر المرتفعة الآمنة نسبياً والتي ستقيهم من مياه الفيضان، لكنّ الشاعرة الهاربة مع أهلها الى بر الأمان الكاظمي وثّقت تفاصيل غرق "بغداد الجديدة" التي أطلقت عليها "المدينة التي غرقت":
وراء السداد التي ضمّدوا جرحها بالحصير
وخلف صفوف الصرائف حيث يعيش الهجير
يسير طريق تدثّر بالطين نحو المدينة
وأطلاها حيث بات يعيش اصفرار السكينة
وحيثُ الشوارعُ باتت وحولاً ومستنقعات
وكانت تجيشُ وتزخر ساحاتها بالحياة
وكانت تهش وتضحك للشمس كلّ صباح
فباتت يعشش فيها الدجى وصفير الرياح
محطات غير سياسية في سيرة الشاعرة
هذا التوثيق يكشف عن جغرافية وتاريخ قيام مدينة "بغداد الجديدة" على أطراف بغداد منتصف خمسينيات القرن العشرين، وإن نسيتُ فلا أنسى زيارة "سرية غامضة" ذات يوم شتوي مطير قامت بها نازك ومعها آنسة أخرى لا أود البوح باسمها ورافقتُهما أنا الطفل ذو السبعة أعوام (عام 1961) لعائلة بيتها أمام سدة بغداد الشرقية، تلك زيارة تركت في نفسي كثيراً من الأسئلة، وقد أقلتنا نازك حينها بسيارتها الألمانية الجديدة "تاونس" بلونيها الأحمر والأبيض لبيت عائلة السياسي فؤاد الركابي الذي كانت تطارده سلطات الجمهورية الأولى، وعرفت من هو هذا الرجل من صورته المعلقة في صالة الضيوف ومن كلمات سيدات وقورات متشحات بالسواد يتحدثن لنازك وصديقتها الزائرة بدون صريخ وبوقار مهيب وحزن صامت عن غيبته وهنّ يصفنه بالغائب الغالي (وتلك كانت أول مرة أسمع بها كلمة غالي لوصف إنسان، إذ كنت أحسبها تتعلق بأسعار المشتريات فحسب!).
البيت كان يواجه السدة الترابية التي تحدّ معسكر الرشيد من جهته المطلة على شطيط والتي تمتد مع بدايات تل محمد في بغداد الجديدة وما يقابلها من بيوت الزعيم المعروفة بـ "الألف دار" وصولاً إلى منطقة الغدير التي كانت عبارة عن أراضٍ جرداء خالية تغمرها الوصول ومياه الأمطار في الشتاء. ويمر بين البيت وبين السدة خط سكة حديد أحسبه ينتهي في محطة قطارات شرقي بغداد (الواقعة جنوب الباب الشرقي عند حدود منطقة معارض السيارات في الرصافة حالياً). ثم تمضي نازك في قصيدة "المدينة التي غرقت" لوصف الكارثة ولكن بلغة رومانسية تليق بوصف لوحة زيتية باذخة رسمتها فرشاة فنان باريسي أنيق يرقب المشهد بحياد، فهي موجودة لتشهد على الكارثة، لكنها تشهد عليها بطريقتها وبلغتها وبرقتها:
وجاء الخراب ومدد رجليه في أرضها
وأبصر كيف تنوحُ البيوت على بعضها
وحدّق فيها وأصغى إلى الصرخات الأخيرة
لسقفٍ هوى وتداعى وشرفة حبٍ صغيرة
قلب نازك رقيق مثل لؤلؤة في كأس كريستال، وهذا القلب رغم عواطفها الجياشة التي تبثها في مفردات القصيد بقي خالياً لم يشغله حب أيّ مذكر. نازك في الحب عذرية رومانسية غارقة في العفاف وفق طهارة بيورتانية مفعمة تعززت من تربيتها في بيت الملائكة. فعموم ساكني هذا البيت يعتبرون الجنس إساءة بالغة للحب!! وهي لعمري رؤية تسمو بالحب عن الجسد لدرجة تجعله عقدة مستحكمة، وليس للمرء أن يسأل، "وماذا بعد كل هذا الحب يا نازك؟ أين ترسو سفينة القلب، وكيف يترجم الحب"؟
وهكذا اعتصمت عاشقة الليل بالعفاف حتى تزوجت من الدكتور عبد الهادي محبوبة، الأكاديمي الرقيق الأنيق النبيل ابن النجف الموغل في التطهر والعفاف. وأثمر الزواج ولداً أسمياه "البراق" وقد أخذا الاسم من قصيدة شهيرة كتبتها ليلى العفيفة وهي من شعراء الواحدة اللواتي عشن قبل الإسلام في كنف قبيلة ربيعة تخاطب بها ابن عمها وحبيبها ثم زوجها البراق بن روحان:
لَيتَ للِبَرّاقِ عَيناً فَتَرى...ما أُقاسي مِن بَلاءٍ وَعَنا
يا كُلَيباً يا عُقَيلاً وَيلَكُم...يا جُنَيداً ساعِدوني بِالبُكا
عُذِّبَت أُختُكُمُ يا وَيلَكُم...بِعذابِ النُكرِ صُبحاً وَمَسا
نازك الشاعرة باتت أماً، وتغيرت بوصلة عواطفها ومشاعرها باتجاه الوليد الجديد، فبات الحب الخيالي الرومانسي حقيقة تتساقط برقة على أعطاف الحبيب الوليد الخارج من حشا الشاعرة...وكتبت له قصيدة "أغنية لطفلي":
ماما ماما ماما ماما ماماما
برّاق الحلو اللثغة ينوي النوما
والنوم وراء الربوة هيّأ حلما
والحلم له أجنحة ترقى النجما
والنجم له شفة ويحبّ اللثما
واللثم سيوقظ طفلي:
ماما ماما
وهكذا تحول الحب بلمسة الأحلام والرؤى الرومانسية إلى عاطفة حقيقية يقع جلّها على ولدها الوحيد، وطبقت في تربيته أحدث ما تعلمته من كتب تربية الأطفال الأمريكية، ووفرت له أغلى ما موجود في الأسواق، ومع مرسى عشقها الجديد بدأت قصائدها ترحل عن التخيلات، باتجاه قضايا السياسة والوطن والفن كما تراها. بالنسبة لي أنا الزائر الصغير الذي كان يجالسها في خلوتها، لم أعد استمع لألحان عودها الرقيق كلما زرتها، لأني لم أعد أزورها إلا لماماً، وخسرت صفة الطفل المدلل الذي تسبغ عليه فيض مشاعرها، بعد أن رزقت بطفلها فاستولى على كل مشاعرها بلا تمييز. أشرعة سفينة قلبها تتجه إلى موانئ أخرى.
نصب الحرية في مرمى السهام
ومن شناشيل الذاكرة التي صار عمر بعض وقائعها 63 عاماً، ذات غروب كانت نازك تعبر بنا جسر الجمهورية بسيارتها قادمة من كرادة مريم باتجاه نصب الحرية بعد بضعة أسابيع من افتتاحه في تموز 1961، كنت جالساً في المقعد الخلفي بين أبي الرسام علي غالب الشعلان، وبين والدتي إحسان الملائكة الأديبة الأقرب روحاً لنازك بين شقيقاتها، وفي المقعد الأمامي كانت تجلس إلى يمين نازك الأديبة الراحلة حياة شرارة وهي صديقة أسرة الملائكة، وما إن لاحت للعيان مفردات النصب والأنوار تتساقط عليها، حتى قالت الشاعرة مخاطبة أبي "أبو ملهم، كل هذا الاهتمام بنصب الحرية يبدو لي عبثياً، فالمنحوتات البرونزية كأنها عقارب وسحالي وصراصير كبيرة تدرج على جدار مرمري أنيق، لماذا لم ينحت صديقك الله يرحمه جواد سليم تماثيل يفهمها الناس بوضوح.
هذه الرمزية والتجريد لا تليق بمكان في قلب بغداد يمر به العراقيون ليل نهار. كأنها كوابيس مفزعة"، هكذا تتسرب مفردات الحوار من ذاكرتي إذ كنت طفلاً، وساد الصمت لحظات لأنّ أبي الراحل كان يكنّ لنازك احتراماً فائقاً، كما أن جواد سلم كان أستاذه ومعلمه في معهد الفنون الجميلة وفي جماعة بغداد للفن الحديث، لذا وجد نفسه فجأة في وضع مدافع عسير، فقال بصوت هادئ: "يا سيدتي هذا عمل يجمع العالم على أنّه الأجمل والأكثر تعبيراً عن ثورة العراق وشعبه، حتى أنى سمعت شهادة تنسب لبيكاسو تشيد به".
ضحكت نازك وهي ترد ساخرة "بيكاسو نفسه مغرق في رسم الشخابيط والخرابيط لدرجة مقرفة، فلا عجب أن يشيد بهذا العمل القبيح...إنّه قبيح يا عزيزي أبو ملهم، ألا تشعر بقبحه؟ أنا اخاطب فيك الفنان وليس الرجل ذي المواقف السياسية، أين الجمال في هذه السحالي السوداء وهي تطل على العراقيين في قلب عاصمتهم ليل نهار؟"
وسارعت والدتي، تحاول جر الحديث باتجاه آخر خشية من صدام سياسي، وقالت بلهجة مسالمة "أنا شخصياً لا أفهم الفن التجريدي، ولا يحرك في نفسي أيّ مشاعر، لوحات بيكاسو التكعيبية ولوحات باقي عمالقة التيار التجريدي لا تحرك في نفسي مشاعر جميلة، وهذا يعني أنه فن لا يروق لكل الناس، بل له جمهوره المحدود، وأنتِ يا نازك الغالية يمكنك أن تغضي بصرك عن هذا النصب كلما مررت به، فلا تستفزكِ رموزه!".
أجابت نازك بلهجة متذمرة، وقد وصلنا إلى مشارف ساحة التحرير، وانعطفنا إلى شارع السعدون باتجاه الكرادة الشرقية "أنا لا اعترض على رموزه، اعترض على طريقة التنفيذ، لماذا هذه الأشكال التجريدية؟ أما كان يمكن نحت تماثيل معبرة لشخصيات من واقعنا تعبر عن الشعب العراقي؟".
وتصاعد غضب أبي، وأوشك أن يفجّر في السيارة نقاشاً خلافياً لا تحمد عقباه، لكنّ الراحلة حياة شرارة تدخلت لتسوية الخلاف، ولا أذكر ما قالت، لكنها نجحت في أن تهدئ الموقف، وكنا قد وصلنا إلى ساحة الفردوس (ساحة الجندي المجهول القديم)، ثم دعت الراحلة الدكتورة حياة الجميع لنتناول باستورايزد آيس كريم من ماكينة أوتوماتيك في بوفيه العلوية الأنيقة المطلة على الساحة، فأوقفت نازك السيارة أمام المحل، ونزلنا، وانتهى المشهد بتناول آيس كريم خرافي المذاق.
سيل الذكريات هذا سيكون جزءاً من مشروع كتاب أعده عن "نازك الملائكة كما عرفتها"، وفيه مذكرات وخواطر شخصية كتبَتْها في العراق خلال أربعينيات القرن العشرين، وفيه كثير من الرسائل مع شخصيات مؤثرة في العالم، بينها الشاعر الأمريكي إزرا باوند Ezra Pound، وشخصيات أدبية فذة وملكات وأميرات وأمراء ورجال سياسة ومفكرون ورجال قلم من كل مكان.
ملهم الملائكة - ألمانيا - ربيع عام 2023
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023