وداع من كاتبة كانت أمي

فارقت الحياة الكاتبة العراقية إحسان الملائكة، التي كان لها حضور في الساحة الثقافية العراقية على مدى نصف قرن. الراحلة، وهي شقيقة الشاعرة المجددة "نازك الملائكة" عاشت سنواتها الأخيرة بعيداً عن الناس قريبة من الكلمة. ملهم الملائكة يستعرض أبرز محطات الأديبة والناقدة العراقية.

الكاتبة ، الكاتب: ملهم الملائكة

​​ليس سهلاً أن يواصل الأديب الكتابة والتأليف مدركا أنّ مصير ما يكتبه هو رفوف مكتبته التي تغطيها الأتربة ويتآكل عيها وقع التواريخ. وليس سهلاً أن يعرف الأديب أنّ ما يكتبه يتفوق إلى حد كبير على ما تعرضه المكتبات وما تتناوله صالونات الأدب، ومع ذلك فإن دور النشر تمتنع عن نشره.

وليس سهلاً أن يكون الأديب موسوعة تستقي معارفها من ثلاث لغات هي العربية والانكليزية والتركية ويرفض ناشرو الكتب مؤلفاته في الغالب لأنها تتخطى بكثير حجم معرفتهم وتسيء إلى الواقع السياسي، كما يقولون. وليس سهلاً عليّ وأنا نجل المبدعة الراحلة الأكبر أن أضع مشاعري جانباً في غمرة الفاجعة لأكتب في رثائها سطوراً تعرّف القارئ بانجازاتها، التي لا يزال جلها ينتظر النشر ويحمل رسالتها الإنسانية، التي عاشت وتوفيت لأجلها، إلى الملايين في عصر سرعة تداول المعلومات الذي أدركته الراحلة في وقت صارت عاجزة فيه عن الإفادة منه. هكذا عاشت إحسان الملائكة وهكذا رحلت بصمت عن العالم (كما رحل ويرحل ملايين العراقيين بصمت)، وحدها تتحدى ظروفاً حياتية بالغة الصعوبة. مشكلتها أنها عاشت الكلمة (حيث درست الأدب وتخصصت فيه) والخط واللون (حيث درست الرسم ولم تنل شهادة فيه) والنغم الجميل (حيث درست الموسيقى ولم تنل شهادة فيها)، أكثر مما تعيش مع العالم. كانت حالمة كبرى لم تبتعد قط عن جزئيات واقع الحياة اليومية لكنها لم تتقن قط فن مقاربة الناس ومخاطبة أصحاب القرار. طيلة ثلاثين عاماً من العمل في مدارس بغداد لم تكن أبدا على وفاق مع مرؤوسيها، إلا أنها مع ذلك خرجت أكثر من 6 آلاف طالبة إلى الجامعات العراقية وغيرهاً.

تاريخ الرفض

خرجت إحسان الملائكة على تقاليد المجتمع واختارت أن ترفض الحجاب أسوة بكل بنات أسرة الملائكة منذ أن كانت طالبة في دار المعلمين العالية ببغداد بين أعوام 1945- 1949. لم يكن هذا سهلاً في أربعينات القرن الماضي، لكنه صار أصعب في عراق التسعينات والألفية الجديدة، حيث بلغ المد الإسلامي مدى أبعد في المجتمع وحيث اختار أغلب نساء العراق الحجاب وحتى بعض أخواتها من بنات المربي الكبير المرحوم صادق الملائكة. وتوفيت إحسان وهي لم ترتد الحجاب قط. شاركت في تظاهرت اليسار العراقي في ربيع الديمقراطية العراقية (مطلع خمسينيات القرن الماضي)، لكنها لم تنتسب لأي حزب سياسي مدى حياتها، وظلت تعتبر السياسة لعباً على عقول البسطاء ينبغي على العقلاء عدم الخوض فيه.

وفي تلك المرحلة الصاخبة نالت شهادة الكفاءة في اللغة الانكليزية من المعهد الثقافي البريطاني. بعد قيام الجمهورية الأولى في العراق في 14 تموز 1958 اقتربت كثيراً من خلال زوجها المرحوم الفنان التشكيلي علي الشعلان من اليسار العراقي، لكنها سرعان ما اختلفت معه في كثير من التفاصيل وصارت تضع بينها وبينهم مسافة يشوبها الاحترام والمحبة. وبعد سقوط الجمهورية الأولى عام 1963 عاشت الراحلة مرحلة صعبة، تفاقمت فيها أوضاع العراق في منتصف الستينيات وحتى نهايتها، من هنا لم تنجز في هذا العقد سوى كتابين، الأول ترجمة لرواية " الدينغو" عن الأدب الروسي الحديث، ودراسة عن المتنبي وحياته.

حين يصبح الكتاب رهينة الإرادة السياسية ​​في عام 1971 زارها في مسكنها ببغداد كل من الشاعر الراحل حسين مردان والشاعر الكبير سعدي يوسف وعرضا عليها أن ترشح لرئاسة اتحاد الأدباء في العراق، إلا أنها رفضت الفكرة مدركة أنّ مشكلتها الدائمة في مقاربة الناس ستصطدم بمتطلبات هذا المنصب فاعتذرت عنه. سبعينيات القرن الماضي شهدت إحدى أهم مراحل إنتاجها الأدبي حيث أنجزت كتاب "المتنبي في مرآة عصره" وهي دراسة نقدية تسلط الضوء على جوانب من شعر المتنبي وحياته لم يسبقها إليها أحد. كما أنجزت كتاباً عن التصوف في شعر أبي العلاء المعري، وكتاباً عن الطرديان في شعر البحتري، وآخر عن الحماسة عند أبي تمام. ثم ترجمت عن الانجليزية كتاباً يعرض نظرية جديدة لنشوء الكون أسمته "عربات الآلهة"، ونشرت فصولاً منه في مجلات: الآداب اللبنانية والمعرفة السورية والأقلام العراقية.

عالم جديد على أعتاب الستين ​​بدأت دراسة اللغة التركية بعد أن أحالت نفسها إلى التقاعد عام 1980 وسافرت لتقيم وبضع من أسرتها في اسطنبول، وفي عام 1983 (وهي في الثامنة والخمسين من عمرها) نالت شهادة الدبلوم في اللغة التركية وآدابها من جامعة اسطنبول وانكبّت على ترجمة الأدب التركي، ثم انصرفت إلى توثيق تأريخ التصوف في تركيا بعد عودتها إلى العراق نهاية العام نفسه. وألفت كتاباً عن الفيلسوف المتصوف التركي الإيراني "جلال الدين الرومي"، قدمته إلى دائرة الشؤون الثقافية في بغداد عام 1985 واعتذرت الدار عن نشره لكون العراق آنذاك في حرب مع إيران وابن الرومي إيراني الأصل!! وفي العام ذاته قدمت إلى نفس الدار ترجمة لرواية روسية تتناول حقبة الستينات في إحدى ضواحي موسكو، إلا أن الدار اعتذرت عن نشره ( لعدم تماشيه مع مستوى العلاقات السوفيتية العراقية آنذاك)!! ثم أنجزت خلال عقد الثمانينيات أيضاً كتاباً في تأريخ الفلسفة اليونانية، وآخر في "نقد شعر النقد العربي" وثالث في تحليل العروض. واجهت مع زوجها سنوات التسعينيات الأولى المثقلة بوطأة الحصار الاقتصادي ولم تنجز في السنوات الخمس الأولى من العقد إلا بضع مقالات. لكنها ألّفت في النصف الثاني كتابين، أحدهما هو الكتاب اليتيم الذي نشرته تحت عنوان "أعلام الكتاب الإغريق والرومان".

رحلة الاختراع العظيم في ثمانينيات العمر

وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وانفتاح العراق على الإعلام والصحافة والإنترنيت، اقتنت الراحلة كومبيوتراً جديداً مع ملحقاته وبدأت منذ عام 2008 تتعلم استخدامه وهي في الثالثة والثمانين من عمرها. وكانت تقول إنها تريد أن تتصل بالعالم من خلال هذا الاختراع العظيم، إلا أن ضعف بصرها حال دون مواصلة رحلة التعلم الأخيرة لها، فاكتفت بتصفح المواقع، من خلال صديقة لها كانت تقضي لياليها في بيتها وتقرأ لها ما تنتخبه هي من مقالات. ظلت تكتب في صحيفة "المدى" حتى منتصف عام 2009، وبعد أن انطفأ بصرها لم تعد تستطيع الإبداع، فانقطعت عن "المدى" وانقطعت "المدى" عنها. وتوالت النكبات والآلام على إحسان، فقد أصيبت في كانون الأول / ديسمبر عام 2009 بجلطة دماغية أقعدتها عن الحركة وعطلت حواسها، لتعيش بروحها الطرية المرهفة مثل ملاك. وفي مساء يوم الجمعة (23 نيسان/ أبريل 2010) فارقت أمي الحياة، تاركة خلفها تاريخ طويل من الإبداع والألم و15 مؤلفاً غير منشور، ومذكرات مفصلة في 20 كراساً، تعد أرشيفاً أدبياً سياسياً اجتماعياً لستين عاماً صعبة من تاريخ العراق الحديث.

 

الكاتب: ملهم الملائكة

مراجعة: عماد مبارك غانم

حقوق الطبع: دويتشه فيله/ 2010