تحقيق: الأسد لا يريد اللاجئين السوريين
يتصدّر السوريون أرقام إحصائيات اللاجئين في ألمانيا منذ عام 2014 بلا منازع. وقد تمخض ذلك عن الحرب التي آلت إليها انتفاضة الشعب السوري قبل عشر سنوات. ورغم انحسار الحرب، إلا أنها لم تنتهِ بعد؛ ليلجأ منذ ذلك الوقت ما يقارب تعداده مليون لاجئ سوري إلى ألمانيا.
وقد سبق للنائب البرلماني عن الحزب الديمقراطي المسيحي، شتيفان هاربارت، أن صرّح في إحدى مناقشات البرلمان الألماني، البوندستاغ -في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وكان حينها رئيسًا للمحكمة الدستورية الألمانية- بأن "حماية اللاجئين في الحالة السورية أيضًا هي حماية مؤقتة"، صائغًا بذلك أحد التوقعات التي شاع استخدامها في حزبه، ومفاده: يتوجب على لاجئي سوريا العودة مجددًا إلى وطنهم حالما تنتهي الحرب فيه.
إلا أن هذا التوقع يقف على النقيض من تطوّر يكاد لا يتم الحديث عنه، ألا وهو مصادرة نظام الأسد شقق اللاجئين السكنية ومنازلهم، وانتزاعه ملكيتها منهم بصورة جماعية، بطريقة يبدو فيها الأمر تطبيقًا لسياسات سكانية يريد النظام بها التخلص من قسم كبير من مواطنيه مرة واحدة وإلى الأبد. فنظرة عامة على المدن والأحياء المتضررة تبين لنا أنّ من سيفقد ملكيته في المقام الأول هم لاجئون سنّة، أي ممن ينتمون إلى غالبية سكان سوريا. في حين ينتمي حاكم سوريا، الأسد، إلى الأقلية الدينية العلويّة.
في عام 2015، لجأ أيمن الدرويش مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى ألمانيا، وهو من أهل تدمر، المدينة الصحراوية ذات الشهرة العالمية، التي دمر داعش قسمًا من أوابدها الأثرية. يعيش أيمن حاليًا في مدينة أُستَرُودِه أَم هارتْس، في شقة ضيقة مخصصة للاجئين؛ وقد عاشت الأسرة سابقًا في دار واسعة في تدمر، يخبرنا عنها أيمن: "تبلغ مساحة دارنا 312 مترًا مربعًا، ذات فناء عربي داخلي مع بحرة ماء تحيط بها أشجار الرمان"، عارضًا خلال ذلك صورًا للدار من الداخل ومن الخارج وكذلك مقطع فيديو يُظهر أطفاله يلعبون برش الماء بعضهم على بعض في البحرة. ويضيف مصمم الديكور المنزلي: "لقد عملتُ وادخرتُ من أجلها مدة طويلة، وانتقلنا للعيش فيها في عام 2009، ثم ما لبث أن تحتم علينا مغادرة وطننا الصغير هذا في عام 2015."
استهداف سُنَّة سوريا
ووفقًا لفهم أيمن الدرويش، فإن داره في تدمر قد ضاعت إلى الأبد؛ وهو بذلك لا يختلق أوهامًا، إذ يعمل النظام فعلًا على مصادرتها وانتزاع ملكيتها منه. يقول أيمن: "أنا على اتصال مع جيراني السابقين ممن فروا إلى المملكة العربية السعودية أو إلى تركيا، والجميع يُبلغنا بالشيء نفسه: يُحظَر على جميع سكان الحي الوصول إليه". وينتمي أيمن وجيرانه والغالبية العظمى من سكان تدمر إلى المذهب السُّنِّي. ويضيف أيمن أن "سياسة التَّهجير هذه موجَّهة ضد السُّنَّة. الجميع يعرف ذلك".
وقد ظهرت أولى الدّلالات على نيَّة نظام الأسد استغلال الحرب بغية إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا في عام 2012، إذ حُرِم اللاجئون من العودة إلى دورهم وشققهم السكنية. وعندما استعاد الأسد بمساعدة حزب الله الشيعي مدينة القُصَيْر الاستراتيجية المهمة -ذات الغالبية السكانية السنيّة والقريبة من الحدود [اللبنانية]- من أيدي المتمردين [الثوار] في عام 2013، تم تهجير سكانها السنّة.
كما أعلن الأسد صراحةً ولمرات عدة أن أحد الأهداف المهمة لحربه هي إقصاء مجموعات شعبية غير مرغوب بها بصورة مستدامة. وقد أوضح نواياه بصورة خاصة في خطابٍ ألقاه أمام مجلس الشعب السوري في 20 آب/أغسطس 2017، عندما قال: "خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والعرق لأجيال، صحيح؛ لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعًا أكثر صحة وأكثر تجانسًا"، وكان قد سبق أن أكّد في المكان نفسه في عام 2015 على أن: "الوطن هو لمن يدافع عنه ويحميه والشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا وطن له ولا يستحق أن يكون له وطن".
المصادرة وسيلةً للتغيير الديموغرافي
وفي معرض تصريحاته التي تتناول السياسات السكانية يتجنب ديكتاتور سوريا استخدام كلمة "سنّة"، في حين لا يفتأ نظامه عن التعريف بنفسه أنه "فوق الطائفية" وبأنه ملتزم بالتعددية الدينية. وفي الواقع، فإن العديد من سُنّة الطبقة الوسطى والعليا موالون للنظام، منهم على سبيل المثال تجار أثرياء من مدينتي دمشق وحلب. ولكن الذي لا ريب فيه هو رغبة هذا الديكتاتور بتقليص نسبة الأغلبية السنيّة. إذ يزيد عدد السوريين عن 20 مليون نسمة، تبلغ نسبة السنّة منهم 75%؛ في حين ترتفع نسبة السنّة بين أوساط اللاجئين أكثر.
واليوم، لم يعد أكثر من عشرة ملايين سوري يعيشون حيث كانوا في عام 2011 عشية بدء الصراع؛ فقد عثر حوالي نصف المُهجَّرين على ملاذٍ لهم في المناطق الّسورية المتبقية التي لم يتمكن النظام من استعادة السيطرة عليها حتى اليوم، لا سيما في محافظة إدلب شمال غرب سوريا. أما النصف الآخر، أي ما يقارب تعداده خمسة ملايين شخص، فقد فرّوا إلى الخارج. وينوي النظام منع عودتهم.
وبالإضافة إلى المناطق الاستراتيجية المهمة الأصغر حجمًا، مثل مدينتي تدمر والقُصَيْر، طالت سياسة التّهجير والمصادرة الأحياء المكتظة سُكانيًا في ضواحي مدن سوريا الرئيسية دمشق وحلب وحمص، حيث تتركز الشرائح الاجتماعية الأكثر فقرًا من السكان السنّة، ممن انتقلوا للعيش من المناطق الريفية إلى ضواحي المدن ما قبل عام 2011؛ وقد بقيت بعض هذه الأحياء مثل الغوطة شرقي العاصمة دمشق، معاقل للثورة ضد نظام الأسد لسنوات؛ وينوي النظام حاليًا، بعد استعادته السيطرة على هذه المناطق، توزيع عقاراتها على مؤيديه من ضباط وعسكر وعناصر ميليشيات ورجال أعمال مخلصين له.
والحكومة الألمانية على دراية بسياسات التّطهير الممارسة من قبل نظام الأسد، ويؤكد ذلك العديد من تقارير وزارة الخارجية الألمانية السّرية لتقييم الوضع في سوريا ما بين العامين 2018 و 2020، إذ يحتوي كل تقرير منها على قسمٍ خاص تحت عنوان "المُصادرات". وتشير وزارة الخارجية إلى "تقارير موثوقة" عن لاجئين عادوا إلى سوريا ومُنعوا من استعادة ممتلكاتهم، بل إنّ بعضهم قد "تم اعتقاله" عندما حاول ذلك؛ كما تشير التقارير إلى أن عمليات المصادرة تجري "على نطاق واسع".
وتستشهد وزارة الخارجية بتقرير لوزارة المالية السورية يفيد بالاستيلاء على 70 ألف عقار خلال العامين 2016 و2017 لوحدهما. ووفقًا لتقارير سرية من وزارة الخارجية الألمانية فإن هذه السياسات تزيد من خطر "فقدان اللاجئين لممتلكاتهم" وتضعف إمكانية عودتهم إلى سوريا.
القانون رقم 10
وتشير وزارة الخارجية الألمانية صراحةً إلى "القانون رقم 10" الذي أصدره نظام الأسد في نيسان/أبريل 2018، وبموجبه سيفقد أصحاب المنازل والشقق السكنية ممتلكاتهم في حال لم يتواصلوا مع السلطات السورية بخصوصها خلال فترة قصيرة من الزمن؛ وفي حالة اللاجئين، فسوف يتعذر عليهم إمكانية تأكيد حقهم في ممتلكاتهم.
وقد تناولت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل هذه المسألة في أيار/مايو 2018 خلال زيارتها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ففي المؤتمر الصحفي الذي عُقد في سوتشي، تحدثت ميركل عن قلق يستشري ضمن أوساط عريضة من الناس بسبب "القانون رقم 10 في سوريا، والذي سيفقد بموجبه كل من لا يتواصل مع السلطات في غضون فترة زمنية معينة عقاراته السكنية"، ووصفت ميركل هذا القانون بأنه "خبر سيّء لجميع أولئك الذين يرغبون في العودة إلى سوريا في يوم من الأيام"، كما أكّدت ميركل أنها "ستطلب من روسيا فعل ما بوسعها لمنع الأسد من القيام بذلك."
أما بالنسبة لبوتين، فلم تظهر على رده علامات اكتراث، وعلّق قائلًا إنه ينبغي على المرء أن يأخذ خلال تناوله المسألة السورية "الجوانب الإنسانية" بعين الاعتبار. وقد كان من الواضح أن بوتين يساوم على الثَّمَن المقابل، قبل ممارسة أي ضغط على حليفه الأسد. وحتى يومنا، لم يتم إحراز أي تقدم في هذا المضمار، إذ يتمسك بوتين بالأسد بقوة، ويتمنى أن تدفع أوروبا ثمن إعادة إعمار سوريا، في حين تطالب أوروبا الأسد بتسليم السلطة كشرط مسبق لذلك.
وقد علّقت وزارة الخارجية الألمانية على أحد تقارير تقييم الوضع [في سوريا] بالقول: "تلعب حقوق الملكية دورًا مهمًا في الصّراع السوري وفقًا لتقييم وزارة الخارجية الفيدرالية". ويمضي التعليق ذاكرًا أنه "مع حوالي 40 قانونًا ذا صلة، ينتهج النظام منذ بداية الصراع سياسة تهدف إلى التأثير على البنى السكانية المحلية الاجتماعية والاقتصادية، تأتي في المقام الأول على حساب أحياء غير نظامية كان يسكنها مُهجَّرون، ممن شكّلوا السّواد الأعظم للمعارضة؛ فيكاد هؤلاء لا يستطيعون تأكيد حقوق ملكيتهم وهم بعيدون عنها".
ولا تجيب وزارة الخارجية في تعليقها عن سؤال ما إِنْ كان السُّنَّةُ هم المتضررين بذلك بصورة أساسية. غير أن السّفيرين الألماني والتركي قد شدّدا في رسالة مشتركة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في خريف عام 2018 على أن "القانون رقم 10" هو جزء من "سياسة شاملة" تهدف إحداث تغيير في التركيبة السكانية لسوريا "من الناحية الطائفية"، وبأن ذلك يؤثر على "ملايين" [السوريين].
وينوي نظام الأسد إنشاء بعض المنشآت العمرانية الفخمة على الأراضي المُصادَرة. وما يتم بناؤه من أحياء فاخرة يذهب بالطبع إلى مواطنيه المخلصين له. ويبقى نجاح هذا النموذج السوري -الرامي لإعادة تخطيط الأحياء القديمة عمرانيًا- مسألة تبعث على الجدل، إلا أن النظام قد ينجح في حملته في سرقة العقارات وتجريد سوريين من جنسيتهم، وهو ما يتم فعلًا على أرض الواقع.
شتيفان بوخن / سليمان تدمري
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
[embed:render:embedded:node:43567]