روايات جرائم وتحريات من بغداد العصر العباسي
تدُورُ أحداث "رُباعِيَّة الألغاز الصُّوفِيَّة" – للمُؤَلفة لُوري سِيلڤرز – في القرن الميلاديّ العاشر في بغداد، من خلال حكايات الجَماعات الصُّوفِيَّة التي بدَأَت في الظُّهور آنذاك، مِمَّا يُشَكِّل تجربة مُشَوّقة لقُرَّاء الرّوايات التَّاريخيَّة. تُرَكِّز الرّوايات الثلاث الأولى: "العاشِق" و "الغَيُور" و "اللَّامَرئِيّ" – وكذلك الرّواية الرّابعة المُزمَع إصدارها، "السَّلام" – على جرائم القتل، وعلى التَّحدِّياتِ الحياتيَّة التي تُواجِه أبطالَ الرّواية.
مُعتَمِدة في كتاباتِها على مجال خِبرَتها في التَّصَوُّف الإسلاميّ المُبَكِّر أيَّام الخلافة العبَّاسِيَّة، تُعطينا سِيلڤرز انطِباعًا واضِحًا عن الحياة كما كانت عليه قَبل ألف عام، في المِنطقة التي تُعرَفُ الآن بالعراق. تَنسُج الكاتبة بمَهارة كلَّ جُزئيَّة تاريخيَّة، بَدءًا من إدارةِ المَنظُومَةِ القَضائيَّة في الخلافة العبَّاسِيَّة، وجُذُور الخِلاف السُّنيّ-الشيعيّ، ونضال النِّساء اللَّاتي شَقَقنَ طريقَهُنّ وحدَهُنّ للحصول على مَعيشَةٍ مُستقِلَّة. وفي هذا، تأخُذ سِيلڤرز قُرَّاءَها لتعُودَ بهم إلى زمنٍ بعيد.
**********
لُوري سِيلڤرز: أنا كاتبة أمريكيَّة، أعيشُ في كندا، وأكاديميَّة مُتقاعِدَة في تاريخ التَّصَوُّف الإسلامِيّ المُبَكِّر. أقومُ بكتابة روايات الألغاز التي تدُور أحداثها في الأماكن والأزمنة الواقِعَة ضِمن تخصُّصي الأكاديميّ، تحديدًا، في القرن الميلاديّ العاشر في العراق. اِنضَمَمتُ عام 2005 إلى حِراك "إمامَةُ المرأة في الصَّلاة" في أمريكا الشماليَّة (الولايات المتَّحدة وكندا). وبالتَّعاون مع ناشِطين أُخُر، قُمتُ عام 2009 بتأسيس مَسجد للمُصَلِّين والمُصَلِّيات على السَّواء، وللمِثليّين والمُتَحوّلين جِنسِيًّا، في مدينة تورونتو في كندا. أما الآن، فأنا ألزمُ البيتَ مع أهلي، وأقضي وقتي في تأليفِ الرّوايات.
قنطرة: نراكِ قد اختَرتِ اِسمًا من أسماء الله الحُسنَى التِّسعة والتِّسعين كعنوان لكُلِ كتابٍ في هذه الرُّباعِيَّة. لمَ هذا النَّمُوذَج – ولماذا هذه الأسماء الأربَعة بالذّات؟
لُوري سِيلڤرز: أسماءُ الله الحُسنَى هي مفاتيح هذه الرُّباعِيَّة. فكُلّ اِسمٍ مِنهُم يُؤَشِّر إلى المَوضُوع الرَّئيسِيّ الذي يَطرَحُه الكتابُ المَعنِيّ، عبر قصص الشَّخصِيَّات والتَّحَرِّيات المُتعلِقة بكُلِّ جريمة. فَضلًا عن ذلك، يُمَثِّل كلُّ كتابٍ في الرُّباعِيَّة مرحلةً مُتتالِيةً من السَّير على النَّهج الصُّوفِيّ.
روايةُ "العاشِق" هي حكايةُ الرُّوح التي تَصحُو على عذاباتِها؛ وأثناء رواية "الغَيُور"، تبدأ الرُّوح في المَهَمَّة الصَّعبة التي تتبحَّر في الوَعي بالذَّات وفي التَّحَوُّل منها وإليها. في رواية "اللَّامَرئيّ"، تُبعَثُ الحياةُ في الرُّوح عبرَ الأحلام والمُعجِزات التي تُقَوِّي الوَعيَ الذَّاتِيّ، وكذلك عبر السَّعي المُوجَب كي تَصِلَ الرُّوحُ إلى حالةِ السَّلامِ التَّام. وأخيرًا، تأتينا رواية "السَّلام" حين تَجِد الرُّوحُ حُلُولَها مع الله.
نبدأ مع رواية "العاشِق"، حين تُجبَرُ "زيتونة" وأخُوها "تِين" على التَّأقلُمِ مع سُنَّةِ والدتِهما في الوَعظِ والتَّرحال، هذه المرأة المُتَصوِّفة التي كانت تَجُولُ أرجاءَ مَعمُورَةِ الخلافة العبَّاسِيَّة مع اِبنتها واِبنها، هائِمة ومُستَغرِقة في فضاءِ الحُبّ الإلَهيّ. حين كانت تُلقِي عِظاتِها في الطُّرُقاتِ والمَقابِر، كان مُريدُوها يتجمَّعُون حولها كي يتجَرَّعُوا أُصُولَ العِشق والحكمة. كان هذا يُخيفُ زيتونة، ممَّا أجبرَ شقيقَها على تَوَلِّي مَهام الحِفاظ على العائلة.
بعد ما يقارب العشرين عامًا، قرَّرَت "زيتونة" أن تُجريَ تحقيقًا جِنائيًّا لمعرفة سبب وفاةِ خادمٍ في مُقتَبَلِ العُمر، بقيادة شقيقها "تِين" وشريكه "عمَّار"، وهما المُخبِران اللذان يَعمَلان في "قسم الجرائم الخَطِرَة" في بغداد. تُطلِقُ هذه القضيَّة شخصيَّاتِ الرّواية إلى رحلةٍ عبر مَعالِم العِشق بكُلِّ تجلِّياتِه، بما في ذلك الحُبّ الذي يستنزفُ العاشِقَ على نحو خَطِر، سواء كان العِشقُ بَشَريًّا أم رَبَّانيًّا.
تُخبِرُنا روايةُ "الغَيُور" عن الذُّكوريَّة التي تَعُودُ إلى العصور الوُسطى، وهي الغَيرَة التي تَحُوطُ مَن هُم في رعايةِ العاشِق، لكن عَبر المُراقَبَة، والأنظِمَة الشَّرعِيَّة والأُخرَى اللَّادينِيَّة، بالإضافة إلى الصِّراعاتِ الدَّاخِليَّة للشَّخصِيَّات. أمّا رواية "اللَّامَرئِيّ"، فهي تَبحثُ في تفسيراتِ المُعجِزات، والأحلام، والأنساب، والنُّصوص التي يُعمَلُ بها في المُجتَمَعات السُّنِيَّة والشّيعِيَّة المُتعدِّدَة في بغداد، وفي التَّوَتُّرات السِّياسيَّة التي تَنتجُ عن ذلك.
وهناك الرّواية الرَّابعة والأخيرة في السِّلسِلة – "السَّلام" – التي تنظُر في تصوُّراتِ شخصيَّاتٍ مُختَلِفَة عن كيفيَّةِ الاِرتباط مع الخالِق. هنا، أقومُ بإعادَةِ سَردِ عوامِل مُتفرّقة من الرّوايات الثَّلاث الأولى، وبالحديث عن الحُبّ والثقة، وعن السَّيطرة المُؤَسَّساتِيَّة والشَّخصِيَّة، ولا ننسَى كذلك الخِلافات فيما بين العُلماء، وفيما بين فِئات المُجتَمَع ذاته.
قنطرة: عَمِلتِ لسنوات في المجال الأكاديميّ. كيف حدثَ التَّحوُّل إلى الأدبِ الرّوائيّ؟ ولماذا كتابات الألغاز تحديدًا؟
لُوري سِيلڤرز: بالنسبة لتَرك مَنصِبي غير المُتفرِّغ في التعليم، أدرَكتُ حينها أنّني لم أعُد أحتَمِل المزيد من العمَل الأكاديميّ. لطالما كنتُ أرغب في كتابة الرّوايات منذ أيَّام الطفولة. حين لم أتمكَّن من إنتاج المزيد من النُّصوص النَّثريَّة في حياتي الأكاديميَّة، عادَت لي رغبتي القديمة. وأصبَحَت روايةُ أُومبِيرتُو إيكُو "اِسمُ الوردة" هي المعيار الإبداعيّ بالنسبة لي. تدُور أحداثُ الرّواية داخل أحد أديرةِ الرَّهبَنة في إيطاليا في العصور الوُسطى. يَكشِفُ لنا إيكُو، من خلال أحداث الرّواية، عن التَّوتُّرات التَّاريخيَّة ضِمن الفِكر الأوروپيّ المسيحيّ، وعن دَور الثقافة الماديَّة في تلك النِّزاعات، وعن طبيعةِ الرُّموز، والمُعجِزات، واللغة.
كان الهدف هو كتابة مجموعة من روايات الألغاز التي تبعثُ الرُّوحَ في تلك التَّساؤلات التي لطالما كانت مَوضِعَ اهتمامي الأكاديميّ، وكذلك اهتمامي العقائديّ كمُسلِمة – الذَّاكرة الجَماعيَّة، التَّوتُرات الدِّينيَّة والسِّياسيَّة، ولا ننسى أيضًا الإنتاجات الثقافيَّة للخلافة العبَّاسِيَّة. كُلُّ هذه العوامِل تُضيء دَربي الإيمانيّ أيَّما إضاءَة. كما أنَّني أعشقُ الأُحجِيَّات في أحداث قصَص التَّحَرِّي. تغمُرُني الفَرحةُ العارمة حين أمنَحُ القُرَّاء كلَّ الأدلة اللازمة لمعرفةِ الجاني، وفي نفس الوقت، حين أُخفِي عنهُم هويَّةَ "الفاعِل".
قنطرة: تقُومين بتَسليطِ الضَّوء في رواياتك على التَّعدُّديَّة العِرقيَّة في العالم الإسلاميّ حينذاك – إذ تُقَدِّمين لنا شخصِيَّاتٍ آسيَويَّة وإفريقيَّة العِرقِيَّة – لكنّك تُلقِين الضَّوءَ أيضًا على قَدر لا بأس به من العُنصريَّة تجاه المُسلِمين ذوي العِرقِيَّةِ الإفريقيَّة. ما الذي جعَل تِبيان هذا المَوضُوع أمرًا بهذه الأهميَّة؟
لُوري سِيلڤرز: مع أنّ مَقُولةَ الرّوايات تُرَكِّزُ على الجانب الرَّوحانيّ والعاطفيّ للشَّخصِيَّات، فإنّ مَسيرَتهم لا تُفهَمُ إلّا في السِّياق الأوسَع للحياة بعَينِها. حاوَلتُ توضيحَ سِلسِلة الحياة بأكمَلِها في بغداد إبَّان العهد العبَّاسِيّ، وذلك بحسب فَهمي الشَّخصيّ، دون اعتِذاريَّاتٍ أو رُومانسِيَّاتٍ مُفرطَة، بل على العكس، قُمتُ بتَوضِيح الفَوضَى المُدهِشَة في تنوُّعِها العِرقِيّ وتَحَضُّرها الثقافيّ. ممّا يَعني وُجُوب تَوضِيح الجانِب الأسوَأ في ذلك المُجتَمَع، كالعُنصريَّة والعُبوديَّة.
غير أنّ هذه التَّصوُّرات تتطلَّبُ تمثيلًا واقعيًّا من قِبَل الكاتِب. إذ لا بُدَّ من وجود سبب مُقنِع وحدود واضحة لهذه التَّخيُّلات. في هذا الصَّدَد، قُمتُ باستشارةِ المُختَصِّين بتلك الحِقبَة، والأشخاص الذين تُمَثِّلهُم شخصِيَّات الرّواية، ودياناتها، ومناطقها، كي نُناقِشَ تلك القصَص سويًة. وقد مَكَّنَني سَخاؤُهُم في المَشُورَة من الوصول إلى الخِيارات المُناسِبة في الكتابة عن مَواضيع حسَّاسة، كالعُنصريَّة تجاه ذوي البَشَرة السَّمراء، والعُبوديَّة، ومجموعة مُعتَبَرَة من الحقائق التَّاريخيَّة. كما أنّني آمُل أن تطرَحَ هذه الرّوايات مَواضِع ليتفَكَّر القُرَّاءُ من خلالِها في القضايا التي ما انفكَّت تُقلِقُ المُجتمَعَ المُسلِم في أمريكا الشماليَّة، تلك التي تتكتَّمُ عليها الأغلبِيَّة غير المُسلِمة عبر استِجداء الأعذار الواهِيَة.
قنطرة: مَن هو الجمهور المُهتَمّ بكتاباتِك؟ أو بالأحرى، هل كانت لديك أدنَى فِكرة عن فِئةٍ مُعيَّنةٍ من القُرَّاء، حين جلستِ أوَّلَ مرَّة لكتابة هذه الرّوايات؟
لُوري سِيلڤرز: كما تَعرف، فأنا أجِدُ إلهامي في أُومبِيرتُو إيكُو. غير أنّ روايته الغامِضة تدُور أحداثها ضِمن سِياق تاريخيّ مسيحِيّ وأوروپيّ، وهذا شأنٌ مَعرُوف عند أغلب القُرَّاء في أمريكا الشماليَّة، وأوروپا، وبريطانيا. لكن حين جاء الأمر لتَسويق رواياتِي، وجَدَتُ نفسي غير قادرةٍ على تقديم التَّنازُلات الضَّروريَّة للوصول إلى جمهور أوسَع. فلو التَزَمتُ بالأعراف المُتداوَلة في عالم النَّشر، لأُجبِرتُ على مَسخ القصَّة كي تَخدُمَ أذواقَ البعض، لكن على حسابِ المُجتَمَعات التي أُمَثِّلُها. في حاصِل الأمر، ومع أخذ قَدر الحُريَّة التي يَمنَحُنا إيّاها النَّشر الذاتيّ بالاِعتبار، اكتَشَفتُ جمهورًا مُهتَمًّا بهذا النَّوع من الكتابة، على صِغَر حجمه، وله ارتِباط بالعراق – إما عن وَلَع بالمادَّة أو عن علاقةٍ بالنَّسَب – أثناء الحُكم العبَّاسِيّ. بالإضافة إلى المُهتَمِّين بمعرفةِ المزيد عن تلك الحِقبَة التَّاريخيَّة، وعن الإسلام كديانة، عبر حكايات الشَّخصِيَّات المُختَلِفة في كتاباتي. ولقد تمّ إدراج الكتُب الثَّلاثة الأولى في مُقرَّراتٍ جامِعيَّة، وأنا مُتفائلة بشأن الرّواية الرّابعة والأخيرة. كما أنّني مُمتَنَّة لقُرَّائي الذين اقتَرَحُوا رواياتي لجمهور أوسَع، فأصبَحُوا الجِسرَ الذي يَصِلُني بالمُتَلَقِّي، ذلك الجِسر الذي لم أنجَح في بنائِه وَحدي.
حاورها: ريتشارد ماركُوس
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
نادرًا ما شَهِد عالمُ روايات الجريمة نقلَة نوعيَّة كهذه. في الحِوار أعلاه، يتحدَّث الناقد الأدبي ريتشارد ماركُوس إلى المُؤَرّخة والرّوائيَّة الأمريكيَّة المُسلِمة لُوري سِيلڤرز عن روايات التَّحَرِّي الأربَع التي أصدَرَتها، والتي تدُور أحداثها في بغداد أثناء الخلافة العبَّاسِيَّة، وعن فوائد النَّشر الذّاتيّ للكُتَّاب المُستَقِلّين. وفي الحوار تقول الكاتبة: (تغمُرُني الفَرحةُ العارمة حين أمنَحُ القُرَّاء كلَّ الأدلة اللازمة لمعرفةِ الجاني، وفي نفس الوقت، حين أُخفِي عنهُم هويَّةَ "الفاعِل").