الصوفية في عهد أتاتورك وإردوغان
مدينة قونية التركية - التي كانت ذات يوم عاصمة الإمبراطورية السلجوقية وأحد أكبر المراكز في الأناضول بعدد سكانها البالغ أكثر من مليوني نسمة - هي مكان معقد. حيث يهمس الناس في غرب تركيا بعضهم في آذان بعض بأنه لا توجد أي مدينة أخرى في البلاد يلتصق أهلها بالدين بهذا القدر، ومحافظون بهذا القدر و"متخلفون" مثل هذه المدينة.
لسنوات طويلة، حقق حزب العدالة والتنمية الحاكم نتائج مذهلة هنا. وفي نوفمبر / تشرين الثاني 2022، أعلن الرئيس التركي إردوغان في تجمع حاشد بوسط مدينة قونية عن رغبته في أن يستثمر فيها 18 مليار ليرة تركية (ما يساوي حوالي 950 مليون يورو)، ومن بين هذه الاستثمارات بناء مصنع أسلحة جديد.
لكن قونية هي أيضًا مدينة أحد أهم سفراء السلام في تاريخ العالم، وهو "مولانا" أو كما ينطقها الأتراك: مِڤلانا „Mevlana“، وهو الاسم الذي يطلقه الأتراك على المعلم والشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي (المولود في عام 1207 في مدينة بلخ بأفغانستان، والمتوفى في عام 1273 ميلادية في مدينة قونية) ( مِڤلانا "Mevlana" هي الطريقة التركية في كتابة لفظ "مولانا" والذي يعد في العربية لقبا شرفيا تكريميا، ومعناه "سيدنا").
الرومي كعامل جذب للسياح
متحف وضريح مولانا، الذي كان لعدة قرون مركزًا للتدريس والمقر الرئيسي لدراويش الطريقة الصوفية المولوية، أصبح الآن نقطة جذب سياحي مع قدوم ملايين الزوار كل عام لزيارته. وخاصة وقت الاحتفال بـ "ليلة العرس"، كما يطلق على ذكرى وفاة الرومي منذ قرون، وهو الوقت الذي يمكن أن تشعر فيه بهذه الجاذبية العابرة للحدود لهذا الوليّ. وفي هذه المناسبة، يقوم الآلاف من جميع أنحاء العالم بالحج إلى قونية كل عام.
وعلى الرغم من أن مراسم إحياء ذكرى وفاة الرومي لا تبدأ إلا بُعَيدَ الساعة الرابعة عصرا، فإن الأرضية المفروشة بالسجاد، الموجودة أمام التابوت داخل الضريح، تكون قد عجّت بالزائرين بالفعل حتى آخر سنتيمتر منها قبل بدء المراسم بساعات.
بعض الزوار يثرثرون في مجموعات صغيرة - من بين لغات أخرى، يمكنك سماع التركية والفارسية والعربية والإنكليزية بوضوح – فهنا مجموعة من الشباب الإيرانيين يقرأون من ديوان شمس الدين التبريزي، وهنا معلم صوفي يعلم مجموعة من الطلاب المنصتين باهتمام، وهناك امرأة مسنة تتمتم بسور من القرآن ونصف جسدها العلوي يتأرجح أمامها أثناء التلاوة. وسرعان ما يبدأ أحد حراس الضريح، مرتديًا معطفًا من الصوف باللون البيج (اللون الرملي)، بإشعال الشموع في القناديل المعلقة فوق رؤوس الزوار المنتظرين باستخدام ولّاعة طويلة.
في الساعة 4:05 عصراً، ينطلق صوت "يا حضرة مولانا" من مكبرات الصوت. وينهض الجميع الآن على أقدامهم لتلقي البركات بهذه الطقوس التي تعود إلى قرون. ويتبع ذلك تلاوة للقرآن، وشعائر إقامة الصلوات، وأوراد الذكر التي يتم ترديدها في حالة من النشوة لتختم في النهايات بهتافات متكررة للفظ الجلالة "الله" بوتيرة تتزايد سرعتها تدريجيا. وبعدها بوقت قصير، يتدفق جميع الحجاج عبر البوابة مرة واحدة، بينما يظل البعض في تأمل صامت. ثم تتحول قونية إلى ساحة مهرجان. ففي أماكن مختلفة حول الضريح، في الفنادق والمراكز الثقافية وفي الدرقاعات (جمع درقاعة وهي الأضرحة الصوفية) أو في الهواء الطلق، ينشد الناس ويصلون ويتلون الشعر ويحيون ذكرى وفاة جلال الدين الرومي حتى وقت متأخر من الليل.
إحدى هذه التجمعات الأكثر شعبية تُقام كل عام في قاعة كبيرة خلف متجر للهدايا التذكارية غير ظاهر. الجدران المكسوة بألواح خشبية تُعَلَّق عليها بُسُط من كافة الألوان والأنماط. الموسيقى في هذه الليلة عبارة عن مزيج من الموسيقى الشعبية التركية الروحية والأناشيد الصوفية، والتي يطلق عليها أيضا اسم "إلهي" (ilahi)، بالإضافة إلى قصائد جلال الدين الرومي بالفارسية.
الإيقاع يصدر عن دفوف دائرية الشكل. ومع اقتراب الموسيقى من ذروتها، تقفز شابة من بين الجمهور وتبدأ في الدوران، وفي أثناء ذلك تتطاير (في الهواء) حافة تنورتها الملونة.
تجربة صوفية للجميع
دوران تلك الشابة جاء عفوياً وليس به سوى القليل من القواسم المشتركة مع طقوس أداء رقصة "سما" (Sema) المتقنة الخاصة بالطريقة المولوية، والتي تتبع ترتيبا محددًا و تحدد وضعية محددة للأقدام والجسم. المشاركة في طقوس رقصة السما، التي أصبحت تقليدا مميزا للصوفية، يسبقه عادة عملية تعليمية طويلة عبارة عن سنوات من الخدمة في المطبخ والإعداد الروحي. ومع ذلك، فإن الكثيرين في المشهد الصوفي في تركيا يزعمون اليوم أن النشوة الصوفية هي تجربة يتوق إليها الجميع وأنه قد حان الوقت الآن لنترك المؤسسات والقواعد وراء ظهورنا.
وبينما ينتقد الدروايش المولويون اليوم إطلاق وصف "رقصة" على "طقوس سما"، التي صارت تُقام أيضًا في المطاعم أو في قوارب النزهة في إسطنبول، فإن "الدوران الراقص للدراويش" أصبح منذ مدة موضوع حديث على ألسنة الجميع في الغرب. فقد أصبحت مثلا ورش العمل في الـ"Whirling" أو "الدوران الصوفي" جزءًا ثابتا في برامج استوديوهات تعليم اليوغا ومراكز ممارسة الطقوس الروحانية في المدن الأوروبية الكبرى. وهذا الفصل للطقوس الصوفية عن أصولها التقليدية ومزجها بممارسات روحية لثقافات أخرى أطلق عليه بعض الباحثين اسم "نمط الحياة الصوفية".
في تركيا، يزداد التَعَطُّش للممارسة الروحية بشكل خاص بين أولئك الذين يشعرون بالغربة عن الإسلام المؤدلج (الإيديولوجي) بشكل متزايد في السياسة التركية. ونتجت عن تقوية أشكال الحياة الدينية -في الأماكن العامة، في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية على مدى العشرين عامًا الماضية- عودةٌ تدريجية للصوفيين، حتى أضحى كبار المتصوفين يتحدثون إلى جمهور من ملايين البشر على شاشات التلفزيون وتتم دعوتهم إلى مراسم الاحتفالات العامة.
وفي الوقت نفسه، صارت توجد في تركيا طوائف من الصوفيين الجدد والمحافظين المتطرفين المنشقين عن طوائف دينية تقليدية، مثل "جماعة المنزل"، تسمى أيضا بالحركة المنزلية (وهم فرع من فروع الطريقة النقشبندية)، أو الطريقة السليمانية (Süleymancılar)، التي حافظ قادتها أيضًا على علاقات وثيقة مع الدوائر الحكومية في الماضي.
إبان عصر الإمبراطورية العثمانية، أثّرَت الثقافة الصوفية بقوة في الممارسة الدينية لقطاعات عريضة من السكان على مدى قرون. ولم تكن التكيات أو أضرحة الصوفية تعمل فقط كأماكن للتربية الروحية، ولكن أيضًا كملتقى اجتماعي يدير مكتبات أو يخدم أغراضًا خيرية. وكان للجماعات الصوفية مثل البكتاشية والنقشبندية، جزئيا، تأثير اجتماعي وسياسي كبير أثناء فترة الإمبراطورية العثمانية، وهو السبب الذي دفع مصطفى كمال أتاتورك لاعتبار هذه الطرق الصوفية رمزا للتخلف وعقبة في طريق مواكبة التقدم في أوروبا.
وبعد عامين من تأسيس الدولة التركية، حلّ أتاتورك الطرق الصوفية وحظر ممارسة طقوسها. ورفض بعض قادة الصوفية هذه الخطوة وانتقلوا مع جماعاتهم إلى الدول التي كانت تتبع الدولة العثمانية في السابق، ومن بينها ألبانيا وسوريا. فعلى سبيل المثال، عاش الجلبي، أو الزعيم الروحي للمولويين -وهو منصب تم توارثه على التوالي منذ وفاة جلال الدين الرومي– في البداية في حلب، حيث كان يوجد أحد أهم مراكز المولويين (مراكز الصوفيين) في عهد العثمانيين، بينما انضم صوفيون آخرون إلى الكماليين وشغلوا مناصب في الخدمة العامة.
قطيعة مع التراث الروحي القديم
وفي الوقت نفسه، أدى تحويل الأبجدية التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية كجزء من إصلاح الحروف عام 1928 إلى حدوث قطيعة مع الثقافة الروحية للأجيال السابقة: وسرعان ما أصبحت قراءة الشعر الصوفي العثماني مقصورة على المتخصصين فقط. واليوم يكاد لا يوجد أي شخص في تركيا يمكنه الوصول إلى الأعمال الأصلية للصوفيين، والتي يقتضي فهمها ترجمتها أولاً إلى اللغة التركية الحديثة. وفي السنوات الأخيرة، تُرجمت المزيد والمزيد من الأعمال الصوفية إلى اللغة التركية الحديثة، بفضل الدور الريادي لدور النشر التركية في إسطنبول مثل دار "المنشورات الصوفية" (Sufi Yayinları).
وبسبب الحظر المفروض عليهم، مارس بعض الصوفيين طقوسهم سرا لعقود من الزمن، وتخلوا عن دورهم كمراكز للتربية الروحية وعملوا فقط كجمعيات ثقافية، على سبيل المثال للموسيقى الصوفية. حتى في مدينة قونية، تم حظر طقوس "سما" حتى خمسينيات القرن العشرين. وأعيد السماح بها مرة أخرى في عام 1953 – كعرض تمثيلي علماني محض أمام متفرجين، لا يشاركون فيه.
واليوم، على عكس ذلك، تستخدم إدارة مدينة قونية جلال الدين الرومي والدراويش الدوارة كبطاقة تعريف لها وتصف نفسها بأنها "مدينة القلوب". وفي الفيلم الترويجي -الذي أعدته مدينة قونية لإحياء "ليلة العرس" أي ذكرى وفاة جلال الدين الرومي- نجد من يردد: "كن صديقًا حتى تتمكن من رؤية الصديق (الإلهي)". ورغم ذلك، ولفهم أن الأمر ليس سهلاً كما قد يوحي فيلم اليوتيوب، يكفي إلقاء نظرة على تعاليم جلال الدين الرومي أو طقوس التدريب الروحية الصارمة لأتباع الطريقة المولوية.
ماريان بريمر
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023