درس لن ينساه حلم الدولة الكردية
مَنْ كان يعتقد أنَّ العاصمة العراقية بغداد ستكون في يوم ما أكثر أمانًا من مدينة إربيل الكردية؟ ولكن هكذا هي الحال اليوم، رغم أنَّ المحافظات الكردية الثلاث إربيل والسليمانية ودهوك في شمال العراق كانت تعتبر ملاذًا آمنًا في بحر الإرهاب، الذي كان مهيمنًا على بقية البلاد. ومن حيث درجة التحذير والخطر كانت إربيل خضراء اللون على الخارطة الأمنية وبغداد كانت حمراء اللون.
لقد فعلت حكومة إقليم كردستان كلَّ شيء من أجل إبقاء الإرهاب بعيدًا عن الإقليم ولفترة طويلة وَفَّرت إجراءاتُ الرقابة والتفتيش الصارمة -على الحدود البرية وفي المطار- الحمايةَ لإقليم كردستان من القنابل والعبوات الناسفة. وكان الأكراد فخورين في المقام الأوَّل بقوَّاتهم الأمنية (البيشمركة).
أصبحت قوَّات البيشمركة رمزًا لكردستان وقام عدد لا يحصى من المستشارين العسكريين القادمين من جميع أنحاء العالم بتدريب المقاتلين الأكراد كمقاتلين لمحاربة الإرهاب وتجهيزهم للحرب ضدَّ جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان يعيث فسادًا ورعبًا في شمال العراق حتى عام 2017 وما يزال يحتفظ بخلايا نائمة هناك، ولكن قوَّات البيشمركة لا حول لها ولا قوة ضدَّ جيوش تقليدية مثل جيشي تركيا وإيران.
تستهدف منذ أسابيع كلّ من تركيا وإيران المناطق الكردية في شمال العراق. وفي حين كان الجيش التركي يشن هجمات جوية منذ سنين على مواقع حزب العمال الكردستاني-التركي في العراق، بدأت إيران فقط منذ اندلاع الاحتجاجات الإيرانية في أيلول/سبتمبر 2022 بشن هجمات واسعة النطاق في شمال العراق أيضًا.
والجديد هو أنَّ كلا البلدين صارا يشنان غاراتهما الجوية في الوقت نفسه على الأكراد. ويدَّعيان أنَّ سبب هذه الغارات هو "المحاسبة": محاسبة أكرادهم، الذين يقال إنَّهم يثيرون الاحتجاجات في إيران ويقومون بهجمات في تركيا. ولكن الأتراك والإيرانيون يقومون أيضًا بتصفية حسابات مع أكراد العراق، الذين يوفِّرون لأكراد تركيا وإيران المأوى والملاذ.
منع الوصول إلى سنجار
انتهت رحلتنا قبل مدينة سنجار بنحو خمسين كيلومترًا حين اعترض جندي قوي يرتدي زي الجيش العراقي طريق المراسلة الصحفية وقال: "لا يمكنك مواصلة السفر هنا"، وكان يقف خلفه رجل أقصر قامةً ممتلئ الجسم مُرتديًا ملابس مدنية، وأومأ قائلًا: "أوامر من بغداد. لا يُسمح للأجانب بالسفر إلى سنجار، فهذا خطير للغاية". تسيطر هنا المخابرات والجيش بشكل مشترك على نقطة التفتيش الموجودة على الطريق الرئيسي المؤدِّي من مدينة إربيل الكردية إلى أقصى شمال غرب العراق.
لقد قال السائق إنَّه يسمع صوت صواريخ في الخلفية. فمدينة سنجار الإيزيدية تتعرَّض لهجوم. استدرنا وسافرنا مباشرة إلى الموصل. وعلمنا هناك أنَّ الجيش التركي يشن غارة جوية على مواقع لحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري وحدات حماية الشعب. الصواريخ التركية تتساقط على مناطق خاضعة لسيطرة الأكراد في شمال سوريا وعلى المنطقة الحدودية مع العراق في جنوب تركيا، وكذلك على جبال قنديل شرق محافظة السليمانية في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي في العراق، وأيضًا على سنجار غربي العراق باتجاه الحدود السورية.
إذ إنَّ "عملية المخلب السيف" قد بدأت. وأرسلت القنصلية الأمريكية العامة في إربيل تحذيرات لمواطنيها لتجنُّب شمال العراق ومغادرته. من جانبه أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان -وهو في طريقه إلى بطولة كأس العالم في قطر- أنَّه لن يتردَّد في نشر قوَّات برية أيضًا.
أتت الغارات الجوية التركية بعد أيَّام قليلة من تفجير إسطنبول، الذي حمَّلت أنقرة مسؤوليته لوحدات حماية الشعب الكردية ولحزب العمال الكردستاني. ما تزال التحقيقات في هذا الصدد جارية وقد تم اعتقال خمسين شخصًا حتى الآن. وتنفي المنظمتان الكرديتان -اللتان يصفهما إردوغان بالإرهاب- تورُّطهما وتتهمان تركيا بأنَّها تستخدم هذا الاتهام لخلق ذريعة من أجل القيام بعملية عسكرية في شمال سوريا.
ولكن تركيا لا تحتاج إلى مثل هذه الذريعة من أجل العراق لأنَّ الجنود الأتراك متواجدون منذ فترة طويلة في الأراضي العراقية: في الشمال على الحدود مع تركيا وفي زاخو وكذلك في بعشيقة على بعد ثلاثين كيلومترًا عن الموصل. وبحسب التقديرات من المفترض وجود ثلاثة آلاف جندي تركي في العراق خلال فترة خلافة تنظيم الدولة الإسلامية داعش بذريعة أنَّهم متواجدون هناك لمحاربة الميليشيات الإرهابية ومن أجل حماية التركمان ذوي الأصول التركية.
ولكن وجود الجيش التركي يستهدف في الواقع -مثلما يقول الأهالي هنا- الجماعات الكردية المكروهة من قِبَل الأتراك، والتي وجدت لنفسها ملاذًا في كردستان العراق، حيث يحتفظ حزب العمال الكردستاني بمواقع في جبال قنديل في الشرق وفي قضاء مخمور جنوب إربيل، ووحدات حماية الشعب في سنجار.
هل تنشر إيران قوَّات برية؟
وبالتزامن مع الصواريخ التركية، تهاجم إيران بالطائرات المسيرة قواعدَ تابعة لمجموعات المعارضة الكردية الإيرانية في كردستان العراق. يتم إطلاق هذه المسيرات على العراق المجاور من قاعدة للحرس الثوري الإيراني تقع في الجزء الكردي من إيران - وهي قاعدة حمزة سيد الشهداء العسكرية.
وتحدَّثتْ في هذا الصدد وحدةُ النخبة في القوَّات المسلحة الإيرانية -والتي تخضع مباشرة للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- في بيان أصدرته عن وجود "مجموعات إرهابية انفصالية مناهضة لإيران" تتم مهاجمتها حاليًا وقد لجأت إلى المحافظتين الكرديتين العراقيتين إربيل والسليمانية. وقال رئيس بلدية مدينة كويه (كوي سنجق) في محافظة إربيل لقناة "رووداو" التلفزيونية الكردية إنَّه لم يتم استهداف مكتب الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني فقط، بل لقد استهدفت الغارات الإيرانية مخيمًا يأوي لاجئين من المناطق الكردية الإيرانية أيضًا.
يَتَّهم رجال الدين الحاكمون في إيران الجماعات الموجودة في المنفى في شمال العراق بتأجيج الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران ضدَّ حكومتها ونظام حكمها الإسلامي. أمَّا المنظمات الكردية العراقية فهي تدعم الاحتجاجات في إيران منذ وفاة الشابة الكردية الإيرانية ژينا مهسا أميني (جينا مهسا أميني) في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2022، وتندّد بالعنف المفرط ضدَّ المحتجِّين.
ويختلف رأي المراقبين في إربيل حول إن كان هذا الدعم يتجاوز توفير المأوى للأكراد الإيرانيين أو إن كان يتم أيضًا تهريب أسلحة ومعدات تقنية للمقاومة عبر الحدود. والآن توجد تقارير تفيد بأنَّ إيران قد حشدت قوَّاتها على الحدود مع العراق. فهل تُفكِّر إيران في نشر قوَّات برية في العراق؟ يقول رئيس بلدية مدينة إربيل السابق نهاد قوجة: "نحن الأكراد خائفون ولا أحد يعرف إلى أين سيقودنا هذا".
"القومية الكردية" كهوية
يعود سبب بقاء إقليم كردستان المتمتع بحكم ذاتي في شمال العراق في مأمن من العنف والتطرُّف، الذي سيطر على بقية العراق طيلة سنين -أوَّلاً مع تنظيم القاعدة ثم مع تنظيم الدولة الإسلامية- إلى حقيقة أنَّ الأكراد يعتبرون العرقية وليس الدين هي محور هويتهم.
ومثلما أظهر معهد أبحاث الشرق الأوسط (MERI) ومقره إربيل -وقد صار مركز أبحاث معترَفًا به دوليًا- في دراسة نُشرت في نهاية تشرين الأوَّل/أكتوبر 2022 فإنَّ "كوردايـهتى"، أي "القومية الكردية" هي العنصر الحاسم لبقاء الأمور هادئة إلى حدّ بعيد في المناطق الكردية بعد سقوط صدام حسين في عام 2003. وهذه الهوية الكردية ساعدت في إبقاء التطرُّف والعنف ذي الدوافع الدينية تحت السيطرة. وبحسب معهد أبحاث الشرق الأوسط انضم فقط خمسمائة وثلاثون شابًا كرديًا إلى جهاديي داعش المتطرِّفين: "الأكراد لم يريدوا محاربة الأكراد".
ولكن يبدو الآن أنَّ "القومية الكردية" باتت تتحوَّل إلى حجر عثرة. فالأكراد العراقيون يشاهدون الآن ما كان ماثلًا دائمًا أمامهم ولكن لم يكن يؤخذ على محمل الجد وخاصة في إربيل. فحين أمر رئيس إقليم كردستان السابق مسعود بارزاني بإجراء استفتاء على استقلال الإقليم في سنة 2017، حذَّره الكثيرون من جيرانه: من أنَّ إيران وتركيا لن تقبلا أبدًا بدولة كردية متاخمة لحدودهما.
بيد أنَّ مسعود بارزاني ترك أكراده يُجْرُون التصويت وحصل على موافقة بنسبة بلغت أكثر من تسعين في المائة مع مشاركة كبيرة في الاقتراع. ولم يكن هدفه ينحصر فقط في إقامة دولة كردية مستقلة من مناطق الحكم الذاتي الحالية في شمال العراق؛ بل كان يريد المزيد: فقد كان يريد أيضًا ضمّ المناطق الخاضعة حتى ذلك الحين لحكم بغداد إلى الدولة الكردية الجديدة، وكذلك المنطقة الواقعة في شمال سوريا والمسماة "روج آفا"، والتي تخضع الآن للسيطرة الكردية.
ولكن لم يتحقَّق أي شيء من ذلك، لأنَّ معارضة هذه الفكرة كانت كبيرة للغاية. وحتى الأمريكيون -المتحالفون تقليديًا مع الأكراد في شمال العراق- رفضوا فكرة وجود كردستان منفصلة عن بقية العراق. ولذلك يمكن فهم العملية العسكرية الحالية، التي تقوم بها الجارتان إيران وتركيا، باعتبارها درسًا لا ينسى لأكراد العراق وتذكيرهم بما يمكن أن يحدث إذا حلموا بدولة خاصة بهم.
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022