إعادة إحياء الصوفية في مصر
لا يمكن أن يكون الهواء في محطة مترو السادات بميدان التحرير في القاهرة خانقا أكثر مما هو عليه الآن. تهدرالمراوح فوق رؤوس المنتظرين بينما يدفع رجل ممتلئ الجسم التذاكر الورقية عبر شباك التذاكر. وخلف لوح زجاجي مغطى بالضباب يقف تمثال للإلهة المصرية إيزيس، يحدق بلا حراك في هذا الصخب الذي لا يهدأ. وبجانبه خريطة معلقة، بها شخابيط، لشبكة مترو الأنفاق في العاصمة الواقعة على النيل.
وصلتُ إلى المعادي، وهو حي من أحياء الأثرياء جنوب العاصمة المصرية ومررتُ بجوار كنيسة قبطية يخرج منها دوي أغانٍ للأطفال. وفي عمارة سكنية بسيطة بها شقق حديثة، صعدتُ السلم ووصلتُ إلى شقة اجتمع بها أفراد مجموعة صوفية في لقائهم الأسبوعي.
غرفة المعيشة مفروشة بأناقة، وعلى الحائط علقت لوحات لفن الخط العربي والفن التجريدي جنبًا إلى جنب. وتجلس خمس شابات على أريكة أمام شيخهن الصوفي، الذي يقود الاجتماع. خالد (تم تغيير الاسم)، رجل في منتصف العمر ذو وجه رفيع تظهر عليه ملامح الجد، ويحرك حبات مسبحته بين أصابعه بلا توقف.
تحرُّر من هياكل الطريقة التقليدية
ينتمي خالد إلى الطريقة الشاذلية، وهي واحدة من الطرق الصوفية الثمانين تقريبا المعترف بها رسميًا في مصر. هنا في المعادي يواصل إلقاء درسه الصوفي بطريقة حديثة، بعيدًا عن هياكل الطريقة التقليدية التي نشأ هو عليها. الحاضرات في الاجتماع هن طالبات وسيدات أعمال يشاركن في الحياة العملية سريعة الإيقاع في القاهرة. وتوفر الاجتماعات الصوفية لهن ملاذَ هدوءٍ في هذه المدينة الصاخبة، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم العربي، ففي القاهرة الكبرى يبلغ عدد السكان بالفعل أكثر من عشرين مليون نسمة.
يسأل خالد النساء في الغرفة عن أحوالهن مع "الوظيفة": الوِرد، وهي في هذا السياق ذلك التمرين الذي يكلف به المعلم طلابه كممارسة روحية. ثم يلتفت إلى سيدة شابة حضرت لأول مرة. وتحكي المرأة، التي كانت تضع بأريحية وشاحاً على شعرها، أنها تعمل في شركة برمجيات ناشئة وأنها في الماضي شاركت مرة في مجلس ذكر، لكن ليس في إحدى الطرق الصوفية. يقول خالد للمرأة: "يمكنك أن تسألي عما يدور في ذهنك". تفكر المرأة لبرهة، فعالم الطرق الصوفية والمشايخ جديد عليها، ثم تطرح سؤالا: "هل من الممكن بداية أن آخذ شيئا من إحدى الطرق ثم شيئا آخرمن طريقة أخرى؟".
ويرد خالد: "لنفترض أنك مريضة وذهبتِ إلى أربعة أطباء، جميعهم يستخدمون طرقًا مختلفة للعلاج وكل واحد منهم على حق وفقا لتعليمه الخاص، ولكن ليس كل تعليم يناسب كل شخص. فكل واحد يحتاج إلى نظام يناسب جسده وشخصيته. وإذا سمحت بأن يتم علاجك بطرق مختلفة فلن يؤدي ذلك إلا إلى بَلبَلَة وحيرة".
ثم يتابع: "الطرق الصوفية هي مدارس لشفاء الذات. عليكِ أن تعرفي الطريقة المناسبة لكِ، والأفضل لطبيعتك". وبعدها، دار نقاش في المجموعة حول بعض آيات من القرآن، موضوعها: كيفية تجاوز الابتلاءات والتحديات في الحياة ولماذا تركز الصوفية على تنقية القلب. وفي النهاية اختتم الاجتماع بدعاء جماعي مشترك.
الاغتراب عن الإسلام بعد ثورة يناير 2011
بعد ثورة ميدان التحرير في عام 2011 وتزايد قوة الخطاب الإسلامي المتشدد، أضحى الشبان المصريون من الطبقات الوسطى والعليا في القاهرة يغتربون بشكل متزايد عن الإسلام. وفي الوقت نفسه، تنامى الاهتمام بالصوفية، والتي رأى فيها الشباب بديلاً لاستكشاف الجوهر الروحي لدينهم. في المقابل، كان يُنظر إلى تعاليم الوهابيين والسلفيين على أنها تضييق للإسلام وتشويه للإسلام.
في مقاله في مجلة "المونيتور" الإلكترونية تحدث عالم الأنثروبولوجيا زامولي شيلكه في برلين، عن "إعادة إحياء للصوفية" بين المثقفين المصريين، فقد حاول هؤلاء لعدة سنوات أن يبثوا حياة جديدة في تلك التقاليد الصوفية التي بدا وكأنها آخذة في الاضحملال على ضفاف نهر النيل لفترة طويلة. وفي بعض هذه المجموعات، كما يلاحظ أيضا في تركيا أو إيران، تختلط تعاليم إسلامية مع عناصر من العصر الجديد أو ممارسات من التقاليد الهندية، مثل اليوجا والتأمل.
الصوفية متجذرة بقوة في مصر. فوفقا لتقديرات مدرسة اللاهوت بجامعة هارفارد (Harvard Divinity School) فإن 15 بالمائة من المصريين إما ينتمون إلى طريقة صوفية أو يشاركون في طقوس صوفية شعبية. ولا يكاد يوجد في أي بلد عربي آخر احتفال بالمولد النبوي، أي ذكرى ميلاد النبي محمد، بهذا الشكل الواسع النطاق كما في مصر.
لكن مصر، ومع وجود جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، هي أيضًا مهد للإسلام المتشدد. وعلاقة مؤسسة الأزهر بالتصوف علاقة متناقضة: فمن ناحية، ينتمي كثير من أعضاء هيئة التدريس في الأزهر أيضًا إلى الطرق الصوفية، ومن ناحية أخرى، يتخلل التدريس في الجامعة أيضًا عناصر مغالية في المحافظة وحتى سلفية متشددة.
تنظيم الطرق الصوفية
علاوة على ذلك، يشارك الأزهر منذ أكثر من مائة عام في مراقبة أنشطة الجماعات الصوفية في البلاد. فمنذ عام 1903، يوجد في مصر "مجلس أعلى للطرق الصوفية" مسؤول عن تنظيم الطرق الصوفية. هذه الهيئة الحكومية، المكونة من ممثلين عن جامعة الأزهر وقادة روحيين من مختلف الطرق الصوفية، مكلفة بضمان بقاء ممارسات الجماعات الصوفية في حدود القواعد والقوانين الدينية. وتختص الهيئة بتعيين المشايخ ومنح تصاريح الاحتفالات والتجمعات الدينية.
هذه الهيئة هي ثمرة نقاشات في القرن العشرين، عندما شجب المصلحون الإسلاميون ورجال الدين المتشددون بشكل متزايد الممارسات الصوفية معتبرينها ضربا من الخرافات. وكان شيوخ الصوفية المصريون في ذلك الوقت في موقف دفاعي وأجبروا على إثبات أن ممارساتهم متوافقة مع العقيدة الإسلامية والإسلامي السني.
وقد شكّل ظهور جماعة الإخوان المسلمين، التي اعتبرت الصوفية تحريفًا للإسلام، تحديًا خاصًا للصوفيين. فقد انتقد مؤسس الجماعة، حسن البنا (1906 - 1949)، الصوفية انتقادا لاذعا رغم أنه هو نفسه كان ينتمي في السابق إلى إحدى هذه الطرق الصوفية، ورغم مدحه لممارسات الزهد في الفترة المبكرة للتصوف الإسلامي.
من ناحية أخرى، تُدين الجماعات المصرية ذات التوجه السلفي الممارسات الصوفية باعتبارها بدعة. وكرد فعل على ذلك، سمحت بعض الطرق الصوفية لنفسها باكتساب سمات سلفية في العقود الأخيرة. وبهجوم على مسجد الروضة بشمال سيناء في نوفمبر / تشرين الثاني عام 2017، وصل العداء تجاه الصوفيين إلى ذروة وحشية.
فقد أودى هذا الهجوم الجهادي على مسجد يرتاده صوفيون في شبه جزيرة سيناء بحياة أكثر من 300 شخص بينهم 27 طفلا. وكان فرع لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" قد أعلن في وقت سابق على الهجوم عن رغبته في تدمير الطريقة الجريرية حول بلدة بئر العبد، الواقعة على بعد 300 كيلومتر تقريبا من شمال شرق القاهرة.
صوفيون ثوريون
لكن حتى ثورة ميدان التحرير عام 2011 شارك فيها صوفيون أيضًا، حتى أن بعضا منهم أسسوا أحزابا سياسية خاصة بهم بعد الإطاحة بمبارك. والمبرر في ذلك هو أن المشاركة في السياسة كانت ضرورية لمواجهة الإخوان المسلمين والأحزاب السلفية. في ذلك الوقت، كانت هناك مخاوف من تقييد حريات وحقوق الحركات الصوفية بعد انتخاب الإخواني محمد مرسي رئيسًا لمصر في يونيو / حزيران 2012.
ونتيجة لذلك، فقد دعم قادة الصوفية الإطاحة بمرسي عام 2013 على يد الجيش، بعد احتجاجات حاشدة ضد حكومته. ومع مذبحة حي رابعة العدوية والتي سقط فيها 800 من الإخوان المسلمين في القاهرة في أغسطس / آب عام 2013، أوضح الحاكم الجديد وقائد الجيش السابق عبد الفتاح السيسي أنه لن يتسامح مع أي معارضة لحكمه.
يدعم نظام السيسي الصوفيين كفصيل مقابل ومناهض للإسلاميين، لأن الطرق الصوفية والحكومة المصرية لديها عدو مشترك هو جماعة الإخوان المسلمين.
ويعد ضريح ابن عطا الله السكندري، قطب الصوفية الشاذلية الشهير في القرن الثالث عشر - أحد أهم مواقع الحج الصوفية في جنوب شرق القاهرة – هنا يدخل الزوار إلى مكان يبدو خاليا من كل هذه الاضطرابات السياسية والأيديولوجية. وتُقرأ تعاليم ابن عطا السكندري من قبل الطرق الصوفية في أنحاء العالم وهي تمثل حقبة كانت مصر فيها مهدًا للتعاليم الصوفية.
فنجد مثلاً هذه المقولة المأثورة المنقولة عن السكندري: "ما دام في قرارة نفسك أي دعم للأنا، ولو كان مثقال ذرة، فأنت بذلك متكبر ولديك شيطان يضلّك".
ماريان بريمر
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023