كتابة الكماليين القومية للتاريخ التركي

كنيسة القديس غريغوريوس في مدينة الأنفاض "أني" عاصمة مملكة باغراتيد الأرمنية - الواقعة حاليا في شرق تركيا.
كنيسة القديس غريغوريوس في مدينة الأنفاض "أني" عاصمة مملكة باغراتيد الأرمنية - الواقعة حاليا في شرق تركيا.

حين أسست النخبة الكمالية الجمهورية التركية عام 1923 عملت على القطيعة مع الماضي العثماني وتعزيز سماتها القومية. جيداء نورتش تكتب لموقع قنطرة عن ازدياد الأصوات في تركيا المنتقدة للرواية التاريخية الكمالية.

الكاتب، الكاتبة : جيداء نورتش

يحظى التاريخ في تركيا باهتمام شعبي كبير، على الأقل عندما يتعلق الأمر بمزوِّد خدمة البث على الإنترنت نتفليكس Netflix. فبينما نقل المسلسلُ الدرامي الغامض "منتصف الليل في قصر بيرا" مشاهديه إلى السنوات الأخيرة المضطربة من عمر الدولة العثمانية، أعاد مسلسل "النادي"، الذي كثير الحديث عنه، الحياة إلى إسطنبول في الخمسينيات.

لقد أظهرت مسلسلات تم تصديرها بنجاح مثل مسلسل "القرن العظيم" حول الحياة والحبّ في الدولة العثمانية أنَّ التاريخ التركي العثماني يمكن تسويقه بشكل مربح في إنتاجات الشاشة الساحرة. بيد أنَّ التاريخ في تركيا لا يزال مثل ذي قبل ساحة لمعركة إيديولوجية.

التاريخ ساحة لمعركة إيديولوجية

عندما قامت النخبة الكمالية الحاكمة بتأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، كان الكماليون مدركون أنَّ وجود تاريخ مشترك قوي "للأتراك" له أهمية أساسية لهوية أمَّتهم الجديدة وفخرها ووطنيَّتها. وهكذا فقد عملت هذه النخبة الحاكمة - من أجل القطيعة مع الماضي العثماني من ناحية ومن أجل دعم سياستها القومية المتمثلة في استيعاب الأقليات وإقصائها -  بإضفاء الشرعية على تأريخها القومي، الذي لا يزال إلى حدّ كبير على حاله حتى يومنا هذا.

 

عالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشكتشي. İsmail Beşikçi (photo: DW/B. Karakas)
"It was not until the 1990s, when the old military and bureaucratic elites started to wane in power, that serious attempts were made to revise conventional historical accounts," writes Ceyda Nurtsch. "In 2013, Bosphorus University awarded sociologist İsmail Beşikçi (pictured here) for his work on the Kurdish issue, efforts for which he had previously served 17 years in prison"

 

يتمحور هذا التأريخ القومي حول كفاح أتاتورك القومي من أجل التحرير، ويتَّخذ في الوقت نفسه موقفًا صارمًا لا يتغيَّر في ما يخص مسائل التاريخ التركي الأرمني أو السياسات المتعلقة بالأقليات والأكراد أو يتجاهل هذه القضايا ويستبعدها عن عمد.

بدء التحرُّر مع بداية القرن الحادي والعشرين

بدأت مع فقدان النخب البيروقراطية العسكرية القديمة سلطتها في التسعينيات مراجعةُ التأريخ الرسمي مراجعةً نقديةً ومناقشة المحرَّمات التاريخية السياسية - والتي كانت أولى علاماتها الحذرة قد ظهرت في الستينيات، ولكن بشكل متزايد في الثمانينيات. وهكذا فقد كرَّمت جامعةُ البوسفور في عام 2013 عالمَ الاجتماع التركي إسماعيل بيشكتشي وذلك تقديرًا له على جهوده وأبحاثه حول المشكلة الكردية - والتي كان قد سُجن بسببها لمدة سبعة عشر عامًا.

ونُشرت كتبٌ مثل كتاب "الجدة" Anneanne للكاتبة بحرية تشيري Bahriye Çeri ورواية أليف شفق "لقيطة إسطنبول"، التي تناولت لأوَّل مرة واحدًا من أكبر محرَّمات الدولة التركية والتأريخ الرسمي، أي: عمليات تهجير الأرمن وإبادتهم الممنهجة في بداية القرن التاسع عشر.

وقد انعقد في عام 2005 في إسطنبول - حتى وإن كان ذلك في ظلِّ صعوبات كبيرة - المؤتمرُ الأوَّل حول وضع الأرمن مع نهاية الدولة العثمانية. وبدا أنَّ القتل المروِّع للصحفي الأرميني هرانت دينك في عام 2007 على وجه الخصوص قد فتح الباب للحوار بشكل مأساوي.

زيادة التعبير عن الذات

وبدأت في هذا الوقت أيضًا المجموعات المستبعدة من التأريخ الرسمي في رفع أصواتها بشكل متزايد. وظهرت منشورات مثل كتب المؤرِّخ التركي اليهودي رفعت ن. بالي حول أحداث تاريخية تم تجاهلها رسميًا، مثل بوغروم إسطنبول أو أعمال شغب إسطنبول ضد الأقلية اليونانية في عام 1955. وهناك كاتبٌ آخر هو روبرت شيلد - المولود في إسطنبول في عام 1950 لعائلة يهودية نمساوية - يعالج في أعمدته الصحفية وكتبه جوانبَ مختلفةً من الحياة اليهودية التركية.

 

مسجد خورا في إسطنبول، المعروف سابقًا باسم كنيسة المخلِّص المقدَّس. A priest and a woman visit the Chora Museum, formally the Church of the Holy Saviour, a medieval Byzantine Greek Orthodox church, Istanbul, August 2020 (photo: Getty Images/AFP/B. Kilic)
Istanbul's Chora Mosque, formerly the Church of the Holy Saviour, was a medieval Byzantine Greek Orthodox church (pictured here) famous for its frescos and mosaics. Built in the sixth century, it was turned into a mosque in 1511 and a museum in 1945. In 2020, Turkish President Recep Tayyip Erdogan ordered that it be turned into a Muslim place of worship. The decision to transform the museum into a mosque came just a month after a similar conversion of the UNESCO World-Heritage recognised Hagia Sofia

 

يكتب روبرت شيلد موضِّحًا: "أنا أخاطب من خلال كتبي - مثل الكتب التي تتحدَّث حول روح الدعابة عند اليهود الأشكناز - بشكل أساسي السكَّان المسلمين الأتراك، الذين لا توجد لدى معظمهم معرفة باليهودية أو يعرفون عنها القليل جدًا". ويكتب في أعماله حول التعايش المتعدِّد الأعراق والطوائف في جزيرة بورغاز (وهي واحدة من جزر الأميرات في بحر مرمرة بتركيا)، وحول أساسيات التاريخ اليهودي وكذلك حول الوقائع ذات الدوافع الشوفينية خلال السنين الأولى من الجمهورية التركية، والتي نادرًا ما تم ذكرها أو لم يتم ذكرها على الإطلاق في التأريخ الرسمي المحلي حتى قبل نحو عشرين عامًا تقريبًا". ويكتب روبرت شيلد واصفًا عمله: "أنا أبيِّن المشكلات، التي تواجهها هذه الأقلية كجزء من الشعب التركي وأقترح حلولًا متواضعة لها".

زيادة الاهتمام بالتاريخ

كينان كروز جيلي باحث من أصول برتغالية تركية ومؤسِّس منصة على الإنترنت اسمها تركيا هيريتيج ووتش Turkey Heritage Watch، يتبادل فيها مع معجبيه ويشاركهم صورًا ومعلومات عن المباني والمعالم التاريخية. وهدفه هو زيادة الوعي في الداخل والخارج بالثروة الثقافية التركية الكبيرة.

ويقول: "الكنوز الثقافية بشكل عام هنا لا تتم حمايتها حماية كافية. وغالبًا ما يتم تدمير تراث الأقليات الثقافي بشكل خاص، وذلك إمَّا بسبب الجهل أو من خلال التخريب المُتعمَّد". ويضيف أنَّ اليهود السفارديم (أحفاد اليهود الذين كانوا يعيشون حتى عام 1492 في شبه الجزيرة الأيبيرية) لا يُنظر إليهم حتى يومنا هذا كمواطنين متمتعين بالمساواة في تركيا، بل كمجموعة تتسامح معها الأغلبيةُ المسلمة وكضيوف جاؤوا من إسبانيا واستقبلهم الأتراك كمضيفين.

 

الكاتبة التركية إليف شفق. Elif Shafak (photo: picture-alliance/dpa/K. Lütscher)
Confronting long-held taboos: "The Bastard of Istanbul" by Elif Shafak (pictured here) was published in 2006. According to Ceyda Nurtsch, this was "the first time one of the biggest taboos in state and official historiography: the systematic expulsion and extermination of Armenians in the early nineteenth century" was addressed. In 2006, she was charged with allegedly "insulting Turkishness" in the novel, but was subsequently acquitted

 

مع أنَّ هناك اكتشافات أثرية - مثل بقايا كنيس يهودي من القرن السابع في مدينة سايد - أظهرت أنَّ جذور اليهود في الأناضول تعود لفترة أطول بكثير. ولكن ازداد في السنين الأخيرة الاهتمام العام بالتاريخ اليهودي التركي، مثلما يقول كينان كروز جيلي. وتشهد على زيادة هذا الاهتمام أيضًا المشاريع الدولية لحماية التراث الثقافي، مثلًا في مدينتي إزمير وأنقرة.

قصص عائلية تكشف عن الفسيفساء الاجتماعية

رودي سايات بولاتيان باحث أرميني من إسطنبول ومؤسِّس مشارك في مشروع التاريخ الشفوي "بانافور". وهو يقوم في محادثات مع الأرمن الغربيين (أرمن تعود أصولهم إلى الدولة العثمانية) المنتشرين في جميع أنحاء العالم بجمع وأرشفة التراث الثقافي الأرمني غير المادي مثل أغاني الأطفال والرقصات وطقوس الزواج والطقوس الجنائزية. وقد طوَّر بالإضافة إلى ذلك وبالتعاون مع مؤسَّسة هرانت دينك تطبيق "كارديس" KarDes الإلكتروني، الذي يُقدِّم جولات في مدينة إسطنبول مع التركيز على المعالم التاريخية غير الإسلامية.

ويقول رودي سايات بولاتيان: "كثيرًا ما يتم حتى يومنا هذا تداول فرضية غير مثبتة تاريخيًا وتفيد بأنَّ الأرمن كانوا في يوم ما الملة الصادقة (بالتركية millet-i sadika) ولكنهم طعنوا الدولة من الخلف في القرن التاسع عشر". وهذا يؤدِّي حتى اليوم  ـ مثلما يقول ـ إلى خوف الأرمن من ذكر أسمائهم والحديث بالأرمينية في الأماكن العامة وارتداء الصليب. "هذا شعور لا يوصف بأنَّ شيئًا ما يمكن أن يحدث في أي وقت"، مثلما يقول رودي سايات بولاتيان.

 

 

المسلسل التركي ’القرن العظيم‘ حول الحياة والحبّ في الدولة العثمانية. Promotional image for the series "Muhteşem Yüzyil", the Magnificent Century (photo: imago/Seksim Photo)
"The fact that Turkish-Ottoman history can be lucratively marketed in glamorous screen productions had already been previously demonstrated by successful export series such as "Magnificent Century", which tells of life and love in the Ottoman Empire. Yet how that history is told is still, as ever, an ideological battleground in Turkey," writes Ceyda Nurtsch

 

ومع ذلك فهو يلاحظ في الوقت نفسه أنَّ هناك عتبةً تم تجاوزها، ويقول: "من ناحية، أصبح الوصول إلى المعلومات أسهل اليوم، في حين أنَّ الدولة كانت مصدر المعلومات الوحيد. ومن ناحية أخرى، صار يزداد عدد الأشخاص، وخاصة الشباب - المهتمين بتاريخ عائلاتهم، الذي غالبًا ما يتشابك مع تاريخ الأرمن في منطقة الأناضول. ويكتشف بعضهم أنَّهم هم أنفسهم أحفاد نساء تعرَّضن للاغتصاب في نحو عام 1915".

وهو يريد من خلال جمعه القصص المنقولة شفويًا إبراز قصص المجموعات، التي لا يوجد لها مكان في التأريخ الرسمي، مثلما يقول: "لأنَّ الثقافة الأرمنية في طريقها إلى الزوال وهذه القصص هي الشيء الوحيد الذي لا يزال يشهد لهذه الثقافة اليوم".

 

 

 

جيداء نورتش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

 

بالإمكان الحصول على المزيد من المعلومات حول المشاريع البحثية في: مشروع التراث اليهودي في إزمير والحي اليهودي في أنقرة.