هل كارثة الزلزال عقاب من الله حقاً؟

الأب التركي مسعود هانس وهو يمسك بيد ابنته إرماك المدفونة تحت الأنقاض. "ألم لا يطاق".. قصة صورة الأب التركي المفجوع هزّت مشاعر العالم.
الأب التركي مسعود هانس وهو يمسك بيد ابنته إرماك المدفونة تحت الأنقاض. "ألم لا يطاق".. قصة صورة الأب التركي المفجوع هزّت مشاعر العالم.

هيمنت التفسيرات الدينية الغيبية على النقاش العام حول أسباب وتداعيات كارثة زلزال تركيا وسوريا وأظهرت الحاجة الماسة لدعم الأصوات والروايات الدينية النقدية التي تقدم القيم الإنسانية على الاستقطاب. تحليل مصطفى قره حمد لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Mustafa Karahamad

ضرب زلزال بقوة 7.8  درجات على مقياس ريختر فجر السادس من شباط جنوب تركيا وشمال ووسط سوريا.  كان مركز الزلزال قرب مدينة غازي عنتاب وكهرمان مرعش التركيتان، لكنه خلف دماراً في محافظات حلب واللاذقية وحماة وطرطوس في سوريا، وشعر سكان دمشق وبيروت وبعض المدن القبرصية بالزلزال.

وصل عدد ضحايا الزلزال إلى أكثر من 50 ألفاً حسب المصادر الرسمية التركية والسورية حتى تاريخ كتابة هذا المقال، غالبيتهم على الجانب التركي، فيما يعتبر أكبر كارثة طبيعية تضرب الدولتين منذ أكثر من مئة عام، وهو تقريباً عمر الدولة الوطنية في كلا الدولتين.

وفي زيارة للمدن الأكثر تضرراً من الزلزال، وصف مدير برنامج الأغذية العالمي المشهد بأنه "يوم قيامة" ووصف المدن بأنها تحولت إلى "مدن أشباح" وهي تشبيهات تعكس وهل الصدمة، ليس فقط على الجانب الشعبي، بل على من شاهد آثار هذه الكارثة الطبيعية.

وعادة تخلف الكوارث الطبيعية آثاراً على الأرض والأبنية، ولكنها أيضاً تظهر تطور الخطابات والفكر الاجتماعي، وأحد أهم أعمدته الفكر الديني. لذلك نعرض في المقال التالي بعض الروايات الدينية المنتشرة في المنطقة العربية بعد الزلزال الأخير بشكل مختصر.

بعد فشل المشروع الديمقراطي لثورات الربيع العربي، وتحول الثورات في الدول العربية إلى حركات مسلحة إسلامية في العديد من البلدان، وفشل التحول الديمقراطي في البلدان، التي نجحت الثورات فيها، وآخر الأمثلة الحاصل في تونس، يبقى الفاعلون الدينيون أكبر المهيمنين على المجال العام في المنطقة العربية.

فقمع الأحزاب وهيئات المجتمع المدني في الدول الغير ديمقراطية، ومنع أو تحجيم المشاركة السياسية الفعالة، تترك للناس خيارين في المجال العام: الإعلام الذي تسيطر عليه وزارة الإعلام، ومكان العبادة، الذي يسيطر على خطابه رجل الدين. لذلك كان من المهم استعراض الروايات الدينية حول حدث حساس على مستوى المنطقة كزلزال تركيا وسوريا.  

"كارثة الزلزال في تركيا وسوريا عقاب من الله"

مقابر ضحيا الزلزال في تركيا. Gräber von Erdbeben-Opfern in der Türkei. (Foto: Selahattin Sonmez/DVM/abaca/picture alliance)
الزلزال المدمر خلف وراءه أرقاما مرعبة إذما لا يقل عن 50 ألف قتيل، و 214 ألف مبنى منهار أو آيل للسقوط، وإحدى عشرة مدينة مدمرة بالكامل في تركيا وحدها. بالإضافة إلى ذلك، ملايين الأشخاص الذين فقدوا منازلهم وهم في حاجة ماسة إلى المساعدة.

يقول الأزهري عبد الله رشدي في فيديو على صفحته على الفيس بوك، أن "البلاء دليل على ازدياد الفساد في الأرض"، ما خلف موجة من الانتقادات ضد رجل الدين المصري من متابعين ومتعبعات، علقوا أن كثيراً من المنكوبين ما هم إلا نازحون من الحرب السورية. ورد رشدي على منتقديه أن منطق العقاب الإلهي فوق قدرة الاستيعاب البشري.

وبشكل مشابه علق رجل الدين السلفي المعارض للحكم في مصر، أبو اسحق الحويني، مدعيا أن الزلازل عقاب إلهي، وتذكير للناجين أن يعودوا إلى الله، حسب وصفه.

وضمن السياق ذاته، يغرد رجل الدين الشيعي اللبناني سامي خضرا، كيف أن الزلزال تذكير للمؤمنين بعظمة الله، وتحذير لهم للرجعة عن الفساد والغفلة، كما يصف. وكما هو متوقع واجه خضرا انتقادات واسعة من متابعيه رد عليها بقوله إن الملحدين واليساريين، كما يقول خضرا، لم يفهموا رأيه، واضعاً اللوم على وسائل التواصل الاجتماعي التي سمحت لهم أن يعبروا عن رأيهم بدون دقة.

وفي معسكر الإيمان المسيحي تداولت العديد من الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية رواية أن الزلزال عقوبة إلهية على تحويل كنيسة آية صوفية لمسجد قبل عامين. خرج الأب عبدو أبو كسم، رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان، بفيديو داحضا هذه التفسيرات، ومعلناً أن الإيمان المسيحي لا يوافق على أن الله يعاقب المذنبين، وأن الخوف لا يجب أن يكون دافع المؤمن. ولكنه دعا الناس من الملحدين ومشرعي الإجهاض ومؤيدي الجنسية المثلية، حسب وصفه، للعودة إلى لله، والاتعاظ من الأحداث الأخيرة.

تخفيف ذنوب ورفعة درجات للضحايا

وكما يبدو أيقظت الآراء الأخيرة لرجال الدين سخطاً شعبياً في المنطقة عبر عنه المتابعون على صفحات التواصل الاجتماعي، جعل من فكرة عدل الله أساس الحوار، خصوصاً أن عدداً كبيراً من المصابين بالكارثة هم من النازحين في الشمال السوري واللاجئين السوريين في تركيا، ومن الأتراك الذين استقبلوا اللاجئين السوريين في بلادهم.

ورداً على هذه الموجة الشعبية الساخطة، خرج الداعية المصري مصطفى حسني بفيديو على صفحته يروي أحاديث  تقول أن الكوارث الطبيعية كانت عذاباً قبل الإسلام، ولكن الله جعلها رحمة للأمة الإسلامية، حسب حسني، وأن الصابرين على هذا البلاء سيكونون بمقام الشهداء.

ورغم الاختلاف الجوهري، لكن الداعية مصطفى حسني يشارك الأزهري عبد الله رشدي أن الحكمة من الكوارث غير معروفة للبشر. وتماماً كرؤية مصطفى حسني، يعتبر الداعية الأردني إياد القنيبي أن الابتلاء بالكوارث يسري على الجميع، ولكنه رفعة درجات للمؤمن، وعقوبة للكافر، حسب وصفه  في فيديو على صفحته على الفيس بوك. كما يضيف القنيبي، أن الناس يبتلون على حسب درجة تدينهم، وأن الضحايا من المسلمين شهداء.

 

الاستقطاب الديني يولد السخط الشعبي ويستدعي التبرير 

 

[embed:render:embedded:node:49272]

 

وبالرغم من الغيبيات التي تحوم حول كلا التوجهين الرئيسين في الخطاب الديني، إلا أنهما يحملان طابع الانخراط بالنقاش العام حول الكوارث الطبيعية، محاولين تقديم تفسيرات دينية. في الحالة الأولى من تفسير الزلزال كعقاب، تم استثمار الحدث لاستقطاب أتباع الدعوة للعودة لتعاليم الدين. فوجهة النظر الأساسية لمفسري الزلزال كعقاب كانت أن الفساد الأخلاقي حسب وصفهم، وعدم اتباع التعاليم الدينية، هو المسبب الرئيسي للكوراث. وهنا تم تصنيف ضحايا الزلزال كمذنبين جعل الله منهم عبرة للآخرين، ما أثار الحفيظة الشعبية وأتى برد فعل شعبي عكسي، انتقد رجال الدين في إنسانيتهم، وفتح نقاشاً حول عدل الله في ضوء التفسيرات التي قدمها رجال الدين.

 وفي التوجه الثاني، كان رجل الدين في موقع الدفاع، فردوا على منتقدي التفسيرات الدينية الأولى، بتقديم آراء أكثر ليونة تظهر تضامناً دينياً مع الضحايا، تجعل منهم شهداء لا مذنبين، وتجعل من معاناتهم مركز الحالة التي تستحق التعليق، لا حدث الزلزال بعينه. وهنا يظهر رجال الدين بمظهر أكثر إنسانية وواقعية، ورغم ذلك فهو يرى الضحايا من المسلمين فقط كشهداء، ويوجه التعاطف نحوهم.

التوجه الخيري

كثير من رجال الدين، خصوصاً السوريين منهم، نأى بنفسه عن إبداء وجهة نظر دينية، أو تقديم تفسير غيبي للزلازل أو لضحاياه كما فعل كثير من أقرانهم. كانت الصدمة المجتمعية ذات أثر أكبر من الحاجة الدينية لتقديم التفسير الأمثل كما يراه أتباع كل ديانة، أو الحاجة لتوظيف الحدث لاستقطاب الأتباع وحثهم على الطاعة. وكمثال عن الترفع عن التفسيرات الدينية، اكتفى الدكتور محمد راتب النابلسي بتقديم العزاء لأهالي الضحايا، وحث المؤمنين على التبرع لأهالي الضحايا، واصفاً إياها بعبادة الوقت الحالي.

وفي خطوة لعلها أكثر نقدية للذات، كتب الدكتور في الشريعة الإسلامية، محمد حبش:

"وكم كنا سخفاء ولا إنسانيين عندما كنا ننتظر تسونامي وزلزال أغادير لنمارس ثقافة التوبيخ ونتحدث بشماتة عن انتقام الله وغضب الله ومكر الله".

هذا الموقف يعتبر أكثر ما قدمه رجال الدين مما قد يعتبر إصلاحاً دينياً، أو موقفاً نقدياً، نحو مركزية الإنسان في التعليق على الظواهر، فهو لا ينأى بنفسه فقط عن تقديم تفسير ديني قد يدين ضحايا الزلزال، بل إنه ينتقل نحو تقديم حلول شرعية لتبعات الكارثة.

فقد نشط الدكتور حبش في تفصيل أحكام التبني للأطفال الذين فقدوا أهلهم في الزلزال، مقترحاً نظام الضم، وهو بديل شرعي عن التبني يحقق كل أغراضه النبيلة التي دعا لها الإسلام، دون تغيير كنية الطفل المتبنى أو تغيير نظام الإرث المتبع في الإسلام، حسب وصف حبش.

 

عن محدودية الروايات الدينية النقدية

 

المقصود بالروايات النقدية في هذا السياق هي الروايات التي تركز على أولية الإنسان، وتستخدم المجال العام الذي يتمتع به رجل الدين بمسؤولية مجتمعية، لتسليط الضوء على المقصرين في أجهزة الدولة من مهندسين ومخططين ومسؤولين، الذي أدى تقصيرهم إلى ارتفاع عدد ضحايا الكارثة الطبيعية، أو التفكير بالتحضير لمثل هذه الكوارث في البلاد العربية.

وفي الواقع يمارس رجل الدين خطابه ضمن ما تسمح له العلاقة المعقدة مع الدولة وأجهزتها. وهذا ما يفسر غياب، أو محدودية، وجهة النظر النقدية ضمن الحسابات الحالية للمعادلة في البلاد الغير ديمقراطية. نجد الروايات غيبية بغالبها استقطابية (كرواية العقاب) أو اعتذارية (كرواية تخفيف الذنوب) ولكلا الروايتين ضحايا، إما مباشرين كتصنيف ضحايا الزلزال كبشر مذنبين، أو غير مباشرين كوصف أتباع الديانات الأخرى والأقليات بشكل سلبي يغيب عنه التعاطف في حالات الكوارث.

وفي كلا الحالتين تقدم الروايات الشائعة عن الزلزال دليلا آخر على الحاجة للإصلاح المؤسساتي في البلاد العربية، والحاجة لدعم الأصوات التي تقدم الإنسانية على الاستقطاب الديني والمجتمعي.  

 

 

الكاتب: مصطفى قره حمد

حقوق النشر: قنطرة 2023

مصطفى قره حمد، مرشح لنيل درجة الدكتوراه بالعلوم السياسية من جامعة غوته وباحث في معهد دراسات السلام في فرانكفورت.