باكستان في بوتقة الاضطرابات
أصيب في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2022 رئيسُ الوزراء الباكستاني السابق وزعيم المعارضة الحالي عمران خان بالرصاص في محاولة اغتيال خلال تجمُّع حاشد في مدينة وزير أباد. وبينما تمت السيطرة على المهاجم بسرعة وهو محتجز لدى الشرطة، لم يتم الكشف بشكل تام عن خلفية هذا الهجوم. ووصفت وزيرة الداخلية رنا صنع الله الاعتداء بأنَّه عمل قام به شخص وحيد من تلقاء نفسه بدوافع دينية. كان عمران خان يقود خلال وقوع الهجوم مسيرةً احتجاجية حاشدة باتجاه العاصمة إسلام أباد، حيث كان يريد التشديد على مطالبته بإجراء انتخابات فورية.
واجتاحت باكستان بعد هذا الهجوم صدمة عميقة. ويشتبه أنصار حزبه حركة الإنصاف الباكستانية (PTI) الغاضبون منذ الإطاحة بعمران خان في أنَّ هذا الحادث تم تدبيره من قِبَل دوائر غامضة من داخل الجيش، بينما أثار عمران خان نفسه هذه التكهنات في تصريح أدلى به من المستشفى اتَّهم فيه رئيسَ الوزراء شهباز شريف ووزيرةَ الداخلية رنا صنع الله والجنرالَ فيصل نصير من الاستخبارات العسكرية (ISI) بالتورُّط في محاولة اغتياله. وهذا الاتّهام يعني أنَّ علاقة عمران خان مع "المؤسَّسة" القوية -مثلما يُسمَّى الجيش بصيغة ملطَّفة في باكستان- قد وصلت إلى أدنى مستوياتها.
كانت الأمور تبدو مختلفة عندما تولى عمران خان السلطة قبل ثلاثة أعوام. إذ يتَّفق المحللون على أنَّ فوز حزب حركة الإنصاف الباكستانية بزعامة عمران خان في انتخابات عام 2018 يعود سببه إلى "الهندسة السياسية" من قِبَل الجيش. ففي ذلك الوقت، كان لا بدّ من الإطاحة بنواز شريف، الذي كان على خلاف مع قائد القوات المسلحة القوي. وبعد فوزه في الانتخابات، لم يتعب عمران خان قطّ من التأكيد على أنَّه هو و"المؤسَّسة" يسيران في مسار واحد. وقد أطلقت عليه المعارضة ألقاب ساخرة مثل "مختار" وَ "لادلا" أي "حبيب الجيش".
ولكنَّ الوضع تغيَّر منذ ذلك الحين بشكل جذري. فقد تحوَّل "لادلا" (حبيب الجيش) إلى معارض معلَن للجنرالات الأقوياء. ويكمن خلف هذا التغيير المفاجئ في الرأي نزاعٌ طويل بين عمران خان ومسانديه السابقين.
خلاف على رئيس جهاز المخابرات الباكستانية
ظهرت أولى علامات التصدُّع في العلاقة بين عمران خان والجيش في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021. فقد تجاهل عمران خان قرار قائد الجيش الباكستاني قمر جاويد باجوا من خلال تباطئه في الموافقة على تعيين الرئيس الجديد لجهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية، التي تخضع رسميًا بشكل مباشر لرئيس الوزراء، ولكن قائد الجيش يحدِّد في الواقع أهم موظفيها، في حين أنَّ القيادة السياسية توافق عليهم موافقة شكلية فقط.
فقد كان عمران خان يريد تمديد فترة ولاية رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية المنتهية ولايته فايز حميد، وذلك رسميًا بسبب تقلبات الوضع الجيوسياسي في أفغانستان المجاورة. وبشكل غير رسمي، ربَّما يعود السبب إلى علاقة فايز حميد الوثيقة وتعاطفه مع حزب حركة الإنصاف الباكستانية. بينما كان قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا يريد ترقية صديقه المقرَّب الجنرال نديم إلى هذا المنصب الأكثر أهمية.
ولذلك فقد ثار بينهما نزاع عنيف من وراء الكواليس، انتهى برضوخ عمران خان لضغوط الجيش المعروف بأنَّه لا يتحمَّل أي تدخُّل من قِبَل القيادة السياسية في شؤونه الداخلية. وكثرت التكهُّنات -حتى في ذلك الوقت- بأنَّ أيَّام عمران خان كرئيس للوزراء باتت معدودة.
وبالإضافة إلى ذلك أدَّى عجز حكومة حزب حركة الإنصاف الباكستانية عن التعامل مع الأزمة الاقتصادية المتنامية إلى إثارة الغضب الشعبي ليس فقط ضدَّ الحكومة بل حتى ضدَّ الجيش، الذي تم تحميله المسؤولية عن فوز حزب حركة الإنصاف في الانتخابات. وقد مثَّل ذلك بالنسبة للجيش ضررًا بسمعته كان يجب تصحيحه.
وبالعودة إلى عام 2020، كان الجنرال قمر جاويد باجوا مضطرًا في المملكة العربية السعودية إلى تهدئة الأوضاع بين باكستان والسعودية بعد انزعاج الرياض بشكل واضح من انتقادات حكومة عمران خان العلنية للمملكة على عدم دعمها باكستان في نزاع كشمير. وقد أدَّى هذا كله إلى زيادة التوترات بين الجنرالات وعمران خان.
ولذلك فقد تم في عام 2021 التحقُّق من خيارات تغيير الحكومة في اجتماعات سرية بين المعارضة والجيش. وعلى الأرجح أنَّهم اتّفقوا في تلك الاجتماعات على الحلّ "ناقص واحد"، أي حكومة معارضة من دون عودة رئيس الوزراء السابق نواز شريف، الموجود في المنفى في لندن. في حين اعتبروا شقيقه شهباز شريف شخصًا مقبولًا.
ثم تراجع فجأة نواب حزب حركة الإنصاف الباكستانية عن الولاء لزعيم حزبهم، أوَّلًا على المستوى الاتحادي في البرلمان الوطني، حيث فشل خان في تصويت لحجب الثقة عنه وخسر منصبه، ولاحقًا في البنجاب، وهي أكبر ولاية في باكستان. ثم أعلن العسكر عدة مرات أنَّهم الآن محايدون ولن يتدخَّلوا في الشؤون السياسية. وعلاوة على ذلك فقد أعلن قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا أنَّه لن يسعى إلى تمديد فترة قيادته الجيش بعد شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022.
شعبوية عمران خان
ولكي يتجنَّب هذا الإخفاق السياسي إلى حدّ ما، فقد اختلق عمران خان قصة خرافية حول وجود مؤامرة سياسية ضده، زَعَمَ أنَّ الأمريكيين متورطون فيها بسبب اتباعه سياسة خارجية أكثر استقلالية. وقال إنَّ الحكومة الجديدة ليست إلَّا صناعة أمريكية.
وقد أعيد بحسب ذلك تفسير شفرة السفارة الباكستانية في واشنطن من قِبَل عمران خان، الذي يأمل في تمكُّنه بفضل شعبويته المناهضة لأمريكا من حصد ما يكفي من الأصوات للفوز من جديد في الانتخابات البرلمانية. لقد ظهرت في العديد من الانتخابات النصفية -التي تمكَّن فيها حزب حركة الإنصاف الباكستانية بزعامة عمران خان من تحقيق بعض الانتصارات- أنَّ نزعته الشعبوية هذه تساعده من دون شكّ.
تثبت مقاطع سرِّية مسجَّلة من مكالمات عمران خان الهاتفية المكشوف عنها لاحقًا أنَّ عمران خان قد صمَّم مع رفاقه وعن عمد قصة وجود انقلاب من الخارج وراء خسارته السلطة. من المعروف أنَّ الحقيقة تلعب دورًا ثانويًا في السياسة الباكستانية. وبالمناسبة، في باكستان تقليد طويل الأمد من التسريبات المجهولة للمحادثات الخاضعة للتنصت. إذ ظهرت مؤخرًا على الشبكات الاجتماعية محادثات هاتفية تم التنصت عليها لرئيس الوزراء الحالي شهباز شريف. ولم يتم قَطُّ تحديد مَنْ يقف وراء هذه التسريبات.
الجيش في مرمى الانتقادات
الاستقطاب يؤدِّي إلى انقسام المجتمع الباكستاني فيما تزداد انتقادات مؤيِّدي حزب حركة الإنصاف للجيش القوي عنفًا وعدوانية بشكل ملحوظ. لقد دفع قتلُ الصحفي المعروف والمتعاطف مع حركة الإنصاف الباكستانية أرشد شريف -على أيدي الشرطة الكينية في الثالث والعشرين من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2022- رئيسَ الاستخبارات الباكستانية الجنرال نديم، في خطوة نادرة، إلى إجراء مؤتمر صحفي نفى فيه شخصيًا أي تورط في قتل الصحفي. بينما يَتَّهم أنصار حركة الإنصاف الاستخبارات باغتيال أرشد شريف، الذي هرب من البلاد بسبب انتقاده الجنرالات وتهديده بمحاكمته بتهمة الخيانة.
وفي ظلِّ هذه الأجواء المشحونة أصلًا فقد أدَّى الهجوم على عمران خان إلى صبّ الزيت على النار. فخلال الاحتجاجات هتف أنصار حزب حركة الإنصاف الغاضبون علانية باتجاه الجيش "ارحل يا باجوا ارحل" بينما أقسم آخرون وهم رافعون بنادق الكلاشينكوف بالانتقام من وزيرة الداخلية رنا صنع الله.
ويُعتقد أنَّ أنصار حزب حركة الإنصاف كانوا يحملون معهم أسلحة في مسيرتهم الاحتجاجية إلى العاصمة إسلام أباد. لا يمكن حتى الآن تقدير إنْ كان عمران خان يريد إثارة مواجهة عنيفة من أجل عودته إلى السلطة. ولكن من المؤكَّد أنَّ الهجوم عليه يصبّ في مصلحته.
محمد لقمان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022