ما ينقصنا لصناعة كتب عربية تجذب الأطفال واليافعين
كان من نصيبي أن أشارك كعضوة في لجنة تحكيم جائزة اتصالات لكتاب الطفل لعام 2022 وأعتبر هذه المشاركة من التجارب الثرية التي سمحت لي بأن أطّلع – وبعمق – على ما تنتجه الكثير من الأقلام ودور النشر العربية للأطفال واليافعين؛ لذا أشعر أنه يتوجّب عليّ مشاركة بعض الانطباعات والأفكار التي خرجتُ بها، لعلّ مَن يهتم بهذه القضية يجد فيها ما يُفيد.
مبدئيا أودّ الإقرار بأنني سعيدة وراضية عن الكتب الفائزة، وعن أغلب العناوين التي وصلت إلى القائمة القصيرة؛ بل أنا على يقين من أنّ القرّاء والآباء والمعلّمين سوف يجدون تنوّعاً جميلاً في الكتب التي انتقتها لجنة التحكيم، وفي غيرها من العناوين التي رُشّحت للجائزة.
ومع ذلك فعليّ التصريح أيضاً بأنّ انطباعي الأوّل والأهمّ – حين كنت أقرأ الكتب المُرشّحة – والتي تجاوزت المائتي كتاب! - هو أننا ما زلنا بعيدين جداً عن المستوى والجودة التي يستحقّها الأطفال واليافعون العرب؛ وأقصد بذلك أغلب ما يصدر في العالم العربي.
عوامل جذب لغوية وأخرى متعلقة بالمضمون
هناك طبعاً عوامِل مختلفة تُسهِم في نجاح (أو إخفاق) هذه النوعية من الكتب، وأسباب تجعل الأطفال واليافعين يُقبِلون عليها (أو يُعرِضون عنها). من ضمن هذه العوامل ما هو فنّي، وما هو لغوي، ومنها ما يتعلّق بالمُحتوى، وأيضاً ما يخصّ الأساليب الفنّية والأدبية المُستخدمة في معالجة الموضوعات المطروحة. وبحُكم خلفيتي الأكاديمية، أودّ أن أتوقّف عند بعض العوامل اللغوية وأخرى متعلّقة بالمضمون، التي تلعب دوراً أساسياً في جذب الصِغار والناشئين إلى الكتب المطبوعة باللغة العربية، سوف أعرضها في النقاط التالية:
الخطّ المُستخدم
1. الخطّ المُستخدم في الطباعة: الخطوط التي يختارها الكاتب أو صاحب دار النشر لكي تصاحِب القصة ذات تأثير كبير على ذهن الطفل ومدى قدرته (أو لا) على فكّ الحروف بسلاسة. فهناك خطوط سهلة القراءة، وهناك خطوط تشكّل عبئاً كبيراً على ذهن القارئ (سواء أكان طفلا أم لا!). وتخبرنا الأبحاث بأنّ للمَحارِف دوراً مهماً في تسهيل أو عرقلة عملية القراءة؛ لذا فدار النشر الناجحة سوف تكون تلك التي تحرص على اقتناء وتصميم أطقم مناسبة من المحارف العربية التي تلائم الشرائح العُمرية المختلفة. هذا الجانب البصري من النص لا نستطيع إغفاله، فالخطّ المُستخدم يمكن بسهولة أن ينفّر الطفل من الكتاب إذا صعُب عليه فكّه؛ لأنه ببساطة يسبب له عبئاً ذهنياً.
تشكيل الكلمات والنصوص
2. تشكيل الكلمات والنصوص: يميل العرب إلى تشكيل جميع المطبوعات الموجّهة للأطفال واليافعين، فيما يبدو توارثاً لعادة بدأت منذ عقود طويلة. وهذا التشكيل - لبنية الكلمات تحديداً - مفيد للطفل عندما يبدأ في تعلّم الفصحى، كونها تختلف إلى حدّ ما عن اللهجة التي يتحدّثها في المنزل؛ ولكنه قد لا يكون مجدياً في حالة طفل اكتسب آلاف الكلمات، ووصل إلى مرحلة القراءة السلسة، بل هناك أبحاث تخبرنا بأنّ تقديم نصوص كاملة التشكيل للقارئ المتمرّس، بمثابة عرقلة وتشويش؛ إذ تُحدِث ضوضاء بصرية لا تخدم عملية الاستيعاب. ونظرا لأنّ الأبحاث ما زالت قليلة في هذا المجال، فهناك حاجة إلى الاهتمام بهذا النوع من الدراسات العلمية لنفهم بشكل أفضل كل ما هو متعلّق بقراءة الأطفال واليافعين للغة العربية.
نوعية المُفردات المُستخدمة
3. نوعية المُفردات المُستخدمة: إنّ القصص التي تدخل قلوب الأطفال تستخدم لغة بسيطة ومفردات فصيحة تشبه ما نستعمله في اللغة المحكية؛ وليس لغة تطرب آذان الفصحاء منّا. ماذا أقصد؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ اللغة الأم عند الطفل العربي (بحسب تعريف مصطلح "اللغة الأم") هي اللهجة العربية التي يتعرّض إليها في الشهور والسنوات الأولى من عمره، والتي يستخدمها لاحقاً في التواصل الشفهي مع الأم والأب وبقية أفراد الأسرة، فعلى المؤلفين والناشرين الانتباه إلى نوعية المفردات المُستخدمة في القصص، ومدى قُربها أو بُعدها عن الكلمات الفصيحة التي يتعلّمها الطفل في السنوات المدرسية الأولى. بعبارة أخرى: كلّما كان القارئ أصغر في العمر، احتاج المؤلفون أن يستخدموا مفردات أقرب إلى لهجة الطفل (أو ما هو شائع في أغلب اللهجات العربية)، حتّى يتمكّن من التعرّف عليها صوتياً، ولاحقاً بصرياً. تبدو الوصفة بسيطة، ولكنها في الواقع أقرب إلى ما يُسمّى بالسهل المُمتنع.
هناك فائدة أخرى من استخدام مفردات تُشبه اللغة المحكية، وهي أنّ هذه المفردات المُشتركة (بين اللهجة والفصحى) هي الجسر الحقيقي الذي يمكّن الطفل من بناء قاعدة متينة من المفردات، تسهّل عليه عملية فك الحروف وقراءة كلماته الأولى، وتؤهله بعد ذلك لاكتساب مفردات أكثر فصاحة وأكثر ابتعاداً عن لهجته الأم. لا يجب أن ننسى أنّ لكلّ شريحة عمرية لغة تناسبها وأنّ اللغة الفصيحة تُكتَسب بالتدرُّج، كونها لا تأتي بالسليقة.
الموضوعات والقضايا المطروحة
4. الموضوعات والقضايا المطروحة: لفت نظري أنّ العديد من الإصدارات الموجّهة للطفل العربي تكتسي بنبرة وعظ تربوية أو أخلاقية أو دينية مباشرة، لا تخدم الهدف الذي يُفترض أن يصبو إليه أدب الطفل والناشئة؛ ليس فقط لأن هذه النصوص تذكّر الأطفال بالمناهج المدرسية ولا تحبّبهم في القراءة. هذا النوع من الأدب يجب أن يهدف إلى تحفيز الخيال، وتنمية الفكر الناقد الذي هو مُنعدم - بكل أسف وألم - لدى أغلب أطفالنا وشبابنا العربي. ويبدو لي أنّ السبيل إلى ذلك يكمن في القصص التي تحثّ الطفل على إيجاد حلول فردية ومستقلة على الأسئلة التي يطرحها النص، بعيداً عن أي منظومة أخلاقية وفكرية مُعدّة سلفاً. وهنا تجب الإشارة إلى أنّ الموضوعات جميعها تصلح لتحقيق هذا الهدف، إنْ تمّ تقديمها بشكل صحيح ومُحفِّز.
في هذا الصدد، نسمع أحياناً أصواتاً تنتقد بعض الإصدارات الحديثة بحجة أنها تتناول موضوعات قديمة، تمّ طرحها من قبل في قصص أخرى.. وينسى هؤلاء أنّ السرّ لا يكمن في القضية نفسها، بل في طريقة تناولها، وهل ثمة ابتكار وإبداع، سواء أكان ذلك في اللغة أم أسلوب العرض أو الإخراج الفنّي. هنا يظهر ذكاء المؤلف (والرسّام أيضاً) ومعرفته باحتياجات الطفل، وحِرفية الناشر عند اختياره النص الذي يلائم الفئة العمرية المستهدفة.
طرق لجذب القارئ اليافع
5. طرق جذب القارئ اليافع: يستهلك أطفال ويافعو اليوم مادة مرئية تقوم على عنصريْ السُرعة والمفاجأة، وأجد أنّ بإمكان رواية اليافعين خاصةً الاستفادة من هذا الواقع. فالصفحات الأولى من القصة أو الرواية عادة ما تكون مفتاحية من حيث قدرتها على جذب انتباه القارئ ودفعه إلى الاستمرار في القراءة، أو جعله ينحّي الكتاب جانباً. لا أقصد أنّ الأولوية يجب أن تكون للإيقاع السريع، أو أنّ السرد والوصف لا مكان لهما في أدب اليافعين. المقصود ضرورة الانتباه إلى أسلوب الكتابة ومدى قدرتها على استقطاب هذه الفئة العمرية، لأنّ التحديات التي تواجه صُنّاع الكتب اليوم أكثر ممّا كان عليه الوضع منذ ثلاثة أو أربعة عقود.
***
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك عوامل أخرى تسهم في نجاح أدب الأطفال واليافعين، مثل تلك المتعلّقة بالإخراج الفني والرسوم، أتمنّى أن يتناولها زملائي المتخصصون في المجال. وجميعها - إنْ أُخِذت بعين الاعتبار، وبجدّية - فبإمكانها أن تنقل أدب الطفل إلى مستوى آخر من الجودة والفعالية، لأنّ عدداً لا يُستهان به ممّا قرأته هذه السنة أخفق - في نظري - من حيث قدرة النص الأدبي على اجتذاب القُرّاء الصِغار؛ والسبب الرئيسي كما قلت هو أنّ النصوص لم تراع مستواهم اللغوي ولا نضوجهم العمري والفكري، إضافةً إلى أنّ أغلبها افتقر إلى الابتكار والإلهام.
جوائز مادية ودورات تدريبية وورش مهنية
يقوم المجلس الإماراتي لكتب اليافعين – وغيرها من المؤسسات العربية، مثل مؤسسة عبد الحميد شومان ومركز اللغة العربية – بدور مهم في دعم وإثراء أدب الطفل، سواء من خلال تقديم الجوائز المادية أو تنظيم الدورات التدريبية والورش المهنية. ومع ذلك فعلى هذه الجهود أن تتضاعف لتخلق فرصاً جديدة وتُشرِك أكبر عدد ممكن من المؤلفين والرسّامين والناشرين ذوي التجارب البارزة والناجحة، إنْ كان الهدف هو الإسهام في تطوير أدب يُلهِم الأطفال واليافعين ويغذّي خيالهم باللغة العربية الفصحى.
أخيراً، أشكر جائزة اتصالات لإتاحتها لي فرصة المشاركة – إلى جانب زملاء رائعين، تعلّمت منهم الكثير إثر ساعات طويلة من النقاشات الممتعة، والمحتدّة أحياناً – وأتمنى أن نرى في السنوات القادمة ازدهاراً حقيقياً في المجال، من خلال نصوص تخاطب وتستميل القارئ الصغير وترسّخ لديه مبادئ الجمال والفكر الناقد المُبدع، بعيداً عن الخطابات التربوية التقليدية.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
د. ليلى فاميليار محاضرة في جامعة نيويورك أبوظبي ومستشارة أكاديمية في مجال تعليم اللغة العربية. أسست موقع "خلّينا" لتعليم اللغة والثقافات العربية، وصدر لها قاموس المفردات الأكثر شيوعاً في الرواية المعاصرة، إضافة إلى منهج لتعليم اللغة العربية كلغة ثانية يعتمد على الأدب المعاصر.