إعادة النظر في الشريعة والديمقراطية
سيطرت الأنظمة العلمانية على العالم الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي. وقد ظهرت الثورة الإسلامية الإيرانية بوصفها علامة ومحفِّزاً لاتجاه جديد، وهو: أسلمة القانون. واليوم، نجد البلدان ذات الأغلبية الإسلامية نفسها في منعطف حرج آخر إذ يتصاعد اتجاه علماني جديد. ومرة أخرى، تمثّل إيران رمز التغيير، كما تُظهِر احتجاجات 2022. ولهذه الاحتجاجات جذور اجتماعية عميقة. إذ أنتج الحكمُ الديني شبه الجمهوري في إيران المجتمعَ الأقل تديّناً في العالم الإسلامي، كما يتّضح من استطلاع أجراه موقع Gamaan.org في حزيران/يونيو من عام 2020.
فشلت العلمانية في سبعينيات القرن الماضي في إنتاج ديمقراطية في العالم الإسلامي، ولن يختلف الاتجاه الحالي في شيء إن لم يغيّر العلمانيون موقفهم السلطوي. ولا يزال من غير المؤكد ما إن كانوا سيتبنون التعددية الديمقراطية فعلاً. لكن المؤكّد أنّ الترويج للشريعة الإسلامية بوصفها قانوناً للدولة قد فاقم من مشكلة السلطوية في العديد من البلدان.
ومن بين 50 دولة إسلامية موجودة اليوم، ثلاثة أخماسها إما تملك دستوراً يشير إلى الشريعة بوصفها المصدر التشريعي الوحيد أو هي عبارة عن أنظمة مختلطة تجمع بين كل من القوانين العلمانية والشريعة. وجميع هذه البلدان سلطوية. إذ إنها تتّبع أحكام التشريع الجنائي الإسلامي، مثل القوانين التي تجرّم الردة والكفر، وقانون الأسرة الإسلامي، الذي يفضّل الرجال على النساء في الزواج وفي الطلاق وفي الميراث.
أما في الخُمسَين الباقيين من الدول الإسلامية فتوجد دساتير تُظهِر درجات متفاوتة من العلمانية. فليس فيها قوانين الردة/الكفر وهي أقل تمييزاً ضد المرأة. لكن 6 فحسب من هذه الدول العلمانية هي عبارة عن ديمقراطيات مُنتخبة. فالدستور العلماني ضروري، ولكنه غير كافٍ لإرساء الديمقراطية. فمن إيران إلى تركيا، صعد الإسلاميون إلى السلطة من خلال انتقاد السلطويين العلمانيين، إلا أنّ أجنداتهم الإسلامية تبدو الآن أكثر سلطوية، لا سيما حين يروّجون للشريعة.
الشريعة: قانون العلماء
ينبعُ التوتر بين الديمقراطية والشريعة من المنهج السائد للشريعة الإسلامية، والتي تعرّف الإسلام بوصفه مجموعة من القواعد الشرعية التي توجّه حياة المسلمين بالكامل. وهذا المنهج، الذي صاغه علماء القرن التاسع، يعرّف مصادر الشريعة الإسلامية على أنّها أربعة: القرآن، والأحاديث النبوية، وإجماع علماء الإسلام والقياس. وتتبنى جميع مذاهب الشريعة السنية هذه الطريقة، وكذلك المسلمون الشيعة، باستثناء بعض التفاصيل.
تلعب الأحاديث دوراً رئيسياً في المنهج الشرعي الإسلامي السائد نظراً لأنّها تتعامل مع مجموعة واسعة من الموضوعات التي لا يتناولها القرآن. وبالنسبة لغالبية السنّة، فإن كتابَيْ الحديث الأساسيين، صحيح البخاري وصحيح مسلم، مرجعان شرعيان وتُعتبر الأحاديث فيهما على أنها كلمات للنبي كما لو كان يحدّثهم اليوم. وبناء على آلاف الأحاديث، أصدر علماء الإسلام عدداً كبيراً من الفتاوى التي تمسّ جميع مجالات الحياة على الرغم من افتقارهم إلى الخبرة الكافية في مجالات مثل السياسة، والاقتصاد، والعلوم، والفنون.
وبما أنّ القرآن والأحاديث يحتملان التأويل، فالمعيار الحاسم للمنهج السائد في الشريعة الإسلامية يتمثّل في إجماع العلماء. وبمجرد أن يتوصّل العلماء إلى إجماع على قاعدة شرعية معيّنة، يكاد يصبح من المستحيل تغييرها. ولذلك تعني الشريعة قانون العلماء وليس قانون الله. أما المعيار الرابع، القياس، فيقيّد دور العقل في إجراء المقارنات. لا تؤخذ العقلانية أو الملاحظة التجريبية بعين الاعتبار. ويقود هذان المعياران، الإجماع والقياس، إلى تشكيل هرمي وحرفي للشريعة الإسلامية.
تحالف العلماء مع الدولة
سلطة العلماء الهرمية والحرفية، تجعل الشريعة غير متوافقة مع الديمقراطية. في الديمقراطية، توضع القوانين كنتيجة للمشاركة الشعبية، مع الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات المتغيّرة للشعب. بينما في المنهج الشرعي الإسلامي السائد، تُنتج القوانين من قبل مجموعة من الرجال، أي العلماء، بناء على فهمهم للنصوص الدينية. لا يوجد مكان للمشاركة الشعبية عند صياغة الشريعة.
منذ القرن الحادي عشر، شكّلت سلطة الدولة العامل الوحيد القادر على تحدّي مطالبة العلماء باحتكار سنّ القوانين. وقد أنتج هذا المزيج من السلطة الدينية للعلماء وسيف السلطان ثنائية قانون السلطان والشريعة عبر التاريخ إلى الوقت الحاضر. كما خلقت هذه العلاقة المتبادلة تحالفاً بين العلماء والدولة. ونتيجة لذلك، يختلف تطبيق الشريعة من بلد إلى آخر استناداً إلى الخصائص المحدّدة لهذا التحالف.
في المملكة العربية السعودية، تُفرَضُ الشريعةُ عبر تحالف بين العلماء الوهابيين والسلالة السعودية، على الرغم من أنّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحاول حالياً إعادة تشكيل التحالف لمنح المزيد من السلطة للدولة. أما إيران، وفي أعقاب ثورتها الإسلامية في عام 1979، فقد شكّلت استثناء. ففيها، لم يُمنح العلماء السلطة التشريعية والقضائية فحسب بل السلطة التنفيذية أيضاً. وذلك وفقاً لفكرة آية الله الخميني عن "ولاية الفقيه". ومؤخراً، أظهر استيلاء طالبان من جديد على أفغانستان، أنّ مثل هذا النظام، الذي يقول فيه العلماء "نحن الدولة"، ممكن حتى في دولة ذات أغلبية سنية.
هل من الممكن استخدام منهج شرعي جديد؟
مع الأخذ بعين الاعتبار الارتباط القوي بين المنهج السائد في الشريعة وبين السلطوية، فلدى الدول الإسلامية خياران من أجل تحقيق الديمقراطية. أحدهما، العلمنة القانونية الكاملة، وإبقاء الشريعة في كتب التاريخ، فيما عدا القواعد المتعلّقة بالعبادة (الصلاة والصوم والزكاة والحج). والخيار الآخر، إنتاج مناهج جديدة للشريعة الإسلامية تستند على العقلانية والملاحظة التجريبية.
وهناك سببان للتفاؤل بشأن المناهج الجديدة المحتملة. أولاً، كان هناك مناهج شريعة إسلامية متنوعة بالفعل بين القرنين الثامن والحادي عشر، حين أنتج المسلمون "عصراً ذهبياً" علمياً واقتصادياً. مذهب أبي حنيفة (توفي سنة 767)، على سبيل المثال، شجّع الأحكام الشرعية التي تقوم على العقل. وبعد القرن الحادي عشر، فضّل تحالف الدولة والعلماء المذهبَ الشافعي (توفي سنة 820) بتركيزه على القرآن، والأحاديث، وإجماع العلماء، والقياس. وما من سبب يمنع التاريخ الإسلامي المبكر من إلهام مناهج جديدة اليوم.
أما السبب الآخر للتفاؤل، عدم وجود أي شيء في القرآن أو الأحاديث يشرعن تحالف العلماء مع الدولة أو يفضّل إجماعهم. يستخدم بعض العلماء عبارة واحدة في القرآن (سورة النساء) "أولي الأمر" لتبرير تحالف العلماء والدولة، رغم حقيقة أنّ الآية لا تشير إلى العلماء أو إلى الحكام. كما أنّهم يستخدمون حديث "لا تجتمع أمّتي على ضلالة"، لتسليط الضوء على إجماع العلماء، بيد أنّ الحديث يشير إلى المجتمع المسلم ككل، وليس إلى العلماء.
في الديمقراطيات، توضع القوانين من خلال المشاركة الشعبية والمناقشة العامة. ويمكن أن تشكّل المناهج الشرعية الإسلامية الجديدة التي تتبنى العقلانية والتجريبية جزءاً من المناقشات الديمقراطية. إنْ فشلت المجتمعات المسلمة في تطوير مثل هذه المناهج الشرعية الجديدة، فلن يكون التحول الديمقراطي ممكناً إلا من خلال العلمنة القانونية الكاملة، وبالتالي إبقاء الشريعة في كتب التاريخ. ويبقى أن نرى ما الطريق الذي يقرّر الإيرانيون والمجتمعات المسلمة الأخرى اتّباعه.
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
أحمد ت. كورو هو أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز الدراسات العربية والإسلامية في جامعة سان دييغو، ومؤلف كتاب: "الإسلام والسّلطويّة والتأخّر: مقارنة عالمية وتاريخية" الصادر عن جامعة كامبردج.