ثورة مصرية مسرحية عبر الاستقلال عن دعم الدولة
30 عاما على مشروع "الورشة". إنها أعمال مسرحية يتم إنتاجها في مصر لتشارك بعدها في جولات حول العالم. حوار مع المخرج المسرحي حسن الجريتلي.
**************************************************************
كيف تعرف نفسك؟
حسن الجريتلي: أنا منشط للممارسة المسرحية. في بداية حياتي، وددتُ أن أكون ممثلاً؛ لكن لم يكن من السهل أن يصبح الأجنبي ممثلاً في أوروبا حيث انتقلت، درستُ في جامعة بريستول، وفي هذه الأثناء أصبحتُ منغمساً أكثر في الإخراج، وازداد استمتاعي به لأنني مهتم أكثر بالخلفية النظرية والتاريخية للفن. كما أنني لم أستطع بتاتاً الوصول للإشباع مع أي مخرج عملت معه من قبل، نظراً لأن أيهم لم يستطع استحضار الممثل الكامن بداخلي. لهذا فكرتُ، قد أكون مخرجاً، بل دراماتورغياً لو لزم الأمر؛ نظراً لكوني شديد الاهتمام بالإلمام بتفاصيل المسرحية البنائية من ديكور ومعمار وخلافه.
كممثل اشتركت في أدوار مسرحية كثيرة، صغيرة ومحورية، لكن أكثر دور وجدتُ فيه نفسي كممثل كان دور مهرج المسرح في مسرحية "الأمير المحبوس" لفرانسوا سرفانتس.
ما هو دور "ورشة"؟
حسن الجريتلي: نحن نقوم بتدريب أعضاء فرقتنا، وآخرين أيضاً، ننتج مسرحيات ونتجول بهم في مصر، وأنحاء العالم العربي والعالمي، كما نتواصل مع الفنانين المستقلين حول العالم العربي، لمساعدة الشركات المستقلة. ويتضمن عملنا الإدارة والترجمة؛ لنترجم الفنون من ثقافة إلى أخرى، خاصة لأننا نعاني من أزمة توفُّر مترجمين متخصصين في الأمور الثقافية.
أحد أهم جوانب فرقة "ورشة" هي استعادة وظيفة الحكَّاء، ليس بالضرورة الحكَّاء بالأسلوب البريختي، لكن بلغة أهل الشارع: فأي انسان مثلاً يمكن أن يكون حكّاء. يتضمن عملنا أنشطة متشعبة بانضباط، تتفرع ولكنها تتقابل في مصب واحد.
ما هي أهداف عمل "ورشة"؟
حسن الجريتلي: نحن نحاول التعبير عن المسكوت عنه، ونمنح صوتاً لمن لا صوت لهم في العالم العربي، عن الطريق التعبير بأنفسنا، ومن هنا نعبر عن المحظورات في العالم العربي. أهدافنا دعم الفن المستقل بجميع صوره. الكثير من الناس يخبرونني: "لقد أصبحت سياسياً منذ اندلاع الثورة في 2011"، لكن في حقيقة الأمر فإن أكثر شيء ثوري قمنا به هو استقلالنا كفنانين عن الدولة، وعدم انتظارنا للدعم المادي لنعبر عن أنفسنا.
لقد قمت باكتشاف العديد من الفنانين الرائعين؛ بل واستخرجت الجانب الفني منهم، فكيف تقوم باكتشاف الإمكانات الفنية في الإنسان؟
حسن الجريتلي: نحن مشهورون بقدرتنا على اكتشاف النجوم، صحيح أنني غير مسؤول عن شهرتهم فيما بعد، لكننا ندربهم على النجومية. بالطبع، يخلق الرب أناساً بمواهب ضخمة، لكنهم يحتاجون لمن يكرِّر (ينقِّي) هذه المواهب من الشوائب بطريقة تعليمية.
نحن لا ندربهم فقط على التمثيل، ولكن أيضاً على الحكي، وتدريبات الصوت والحركة، ليتلقوا تدريباً مكثفاً، شاملاً. وقد أصبحنا خبراء في هذا المضمار.
عندما أتأمل الماضي –وهو شيء لا أفعله عادةً، لكنها الذكرى الثلاثون لإنشاء فرقة ورشة– وجدتُ نفسي أمام مجموعة من العظماء الذين تخرجوا من مدرستنا بمختلف الشخصيات والمواهب، سواء مطربين أو ممثلين أو راقصين. الكثيرون يسألونني عن الكيفية التي يمكنهم بها الالتحاق بفرقتنا، لكنني أجيبهم بأنني لا أعرف حقاً.
كل ما أفعله هو أنني أخرج للشارع وأسير كالأخطبوط، أجذب الناس بمجسّاتي، وأتحدث إليهم، وأرى إن كان من الممكن أن ينضموا إلينا.
لم تكن بتاتاً من المتحمسين للقطاع العام، وتجربتك الوحيدة في مسرح الهناجر بدار الأوبرا انتهت قبل أن تبدأ، هل نقول إنها لم تكن بذات القدر من النجاح...
حسن الجريتلي: كلا. كانت ستنجح لو كنت أبحث عن حجة للغياب، لو أردت أن تضعني في الشباك، فليكن لديك آخرون في دكة الاحتياطي. ولكن إذا قلدتني هذا المنصب، فلا تتوقع مني حجة للغياب. المنطق هناك كان بيروقراطياً، لا فنياً. لقد اشتركنا في العمل مع الحكومة بينما نلف البلاد لنروج لأعمالنا.
في حقيقة الأمر، نحن أكثر فرقة مسرحية في تاريخ مصر قامت بلف البلد لتروج أعمالها. ومع هذا، لن أكون الشجرة التي تتوارى وراءها الغابة الواسعة.
ما هي الفوارق الرئيسية التي لاحظتها بين المسرح الفرنسي والمسرح المصري؟
حسن الجريتلي: ليس من السهل صناعة الفن في أي مكان في العالم، ولو اختلفت الوسائل التي تحجِّم الطريق أمام الفن، فإنها موجودة، حتى في بلد مثل فرنسا، هناك وسائل غير محددة للرقابة. لا أستطيع أن أقول إنني عملت في بيئة حيث يتوائم هامش الحرية مع أحلامي وطموحاتي الضخمة. لكن هناك أكثر من طريقة للتحايل على الرقابة. هي طبيعة الحياة، حيث الحروب اليومية على جبهة المسموح به.
نحن نعيش في عالم قمعي، انظر ما يحدث الآن في أمريكا وألمانيا، وكل ما علينا فعله هو التأقلم على ديناميكية العلاقة بين مكاننا في العالم والحدود الموضوعة. لم نكن بتاتاً على الجانب الآخر من الحدود، لم يكن مسموحاً لنا بذلك. ومع هذا، لم نستكن لطبيعة هذه الحدود، بل داومنا على أن نقول ما نريد طوال الوقت، ومططنا حدود الرقابة على قدر استطاعتنا.
هل استطعت تناول أي موضوع بحرية أم واجهت المنع بشأن مواضيع معينة؟ وهل وصلت أنباء عن انضمام أحد أفراد الحكومة لصفوف جماهيرك؟
حسن الجريتلي: هذه الصورة الكافكاوية عن فرد من الحكومة يجلس ليتابع كل ما تفعل ويسمع أفكارك، ليست بالضرورة ما يحدث في الحقيقة. الأمر أكثر تعقيداً وتشعباً. لم يكن متوقعاً لـ"ورشة" أن تبقى، لكننا استمررنا لثلاثين عاماً. كيف؟ بالتأقلم، مع عدم التنازل عن أن نقول ما نريد أن نقوله. الناس منذ عهد مبارك يقولون ما يريدون في مصر، وحتى هذه اللحظة. وأسئلتك تناقض ما يحدث يومياً وما ينمو، بل ترجح استحالة حدوثه.
هناك الكثير من المبادرات التي تجافي منطق حدوثها أو وجودها، وبالرغم من هذا، كل يوم أسمع عن مبادرات حماسية جديدة. الصعيد الحالي المصري متناقض، لكنه يختلف عن البارادوكسية التي تواجه الفن والثقافة في أي مكان آخر في العالم.
هل تستمتع بعملك أم أنه يرهقك أحياناً؟
حسن الجريتلي: أستمتع بشدة، لا لكوني مشاغباً، ولكن لأنني أحب هذا العمل وأستمتع به. من خلاله، اكتشفت جوانب أخرى للتحرر في مجتمعنا، تختلف تماماً عن الحدود الخارجية للحرية.
لا يتجه المجتمع للتحفظ بسبب النظام السلطوي، ولكن بسبب البنية المجتمعية نفسها. ومع هذا، عندما نقدم عروضنا في أكثر بيئات مصر تحفظاً، تكتشف في البشر جوانب للتحرر لن يتم التعبير عنها في مناقشة مثلاً. أحد الأسئلة التي طرحناها على أنفسنا؛ هو ما يمكننا فعله للأقليات في هذا الوطن، بل أيضاً للأغلبية التي لا يتم تمثيلها بصورة شافية، مثل النساء. كيف نمثلهم؟ كيف نوصل صوتهم. هذا العمل –على صعوبته المزعجة بصفة يومية– هو حياتي. لكنه الثمن الذي تدفعه لأجل الأشياء التي تحبها، لا يمكنك أن تحصل على كل ما تريد.
وما هي خطتك للثلاثين سنة المقبلة؟
حسن الجريتلي: أنا لم أندم قط على أي شيء فعلته. بالرغم من اختلاف بعض التفاصيل الدقيقة في الطريقة التي كان من الممكن أن أدير بها الأمور سابقاً، إلا أنني لو عادت بي آلة الزمن للوراء ثلاثين سنة، لسرت في نفس الطريق. أنا مهتم أكثر باللحظة؛ وديناميكياتها السلبية والإيجابية. يسعدني بالطبع الحديث عن الثلاثين سنة السابقة ليستفيد منها الآخرون، لكنني أكثر اهتماماً بالمستقبل، ليس الأمر مجرد محافظة على "ورشة" كما هي، لأنه نمط حياتنا كفنانين مستقلين، مما يعيدني إلى رفض فكرة التواجد "الديكور"، فالحياة طبيعتها الحركة والتغيير.
أنا أرغب في البقاء حكاءً، وأرغب في الرقص، وأرغب في الاستمرار كمدرب للآخرين، ومساعدتهم على إيجاد مواطن الابتكار في أنفسهم. صحيح أنني أود البقاء في أن أفعل ما أفعله، لكنني أرفض فكرة الثبات الأبدية. أنا لا أوقن أين يقودني المستقبل، لكنني متأكد أننا سنكون جزءاً منه. ليس لدي الأمل، لكنني أملك رغبة شديدة القوة.
حاورته: فرنكا شومان
ترجمة: جيلان صلاح
حقوق النشر: معهد غوته 2017