في الحاجة إلى الديمقراطية ونقدها... المفكر السعودي محمد الأحمري أنموذجاً
ما برح الخطاب العربي "المعاصر" يعج بأفكار وكتابات تعادي الديمقراطية وتعتبرها سلعة غربية، بل وتكفر من ينافح عنها، كما أنه ما زال يفرّخ لكتابات ترى أن الدين يتعارض مع الديمقراطية ومع قيمها، فيكتب أحدهم مثلا: "ثم يجب أن نكون على يقين تام بأن التسامح ليس من شيم الأديان مهما كانت. وإن أحكام الذمة ليست تسامحا، بل إن الأديان لا تتسامح فعلا إلا إن أجبرت ـ أي إذا أجبر رجال الدين والدينيون بصورة عامة على التسامح بفعل حركة مدنية مهيمنة، قد تكون مجتمعا، وقد تكون مجتمعا ودولة مجتمعين. وهذا ما حصل في التاريخين العربي والأوروبي الحديثين حتى وقت قريب"(عزيز العظمة، دنيا الدين في حاضر العرب، 2002، ص.14)، متناسيا بأنه يخلط في حكمه بين المسيحية الأوربية والإسلام، وأنه في ظل الإسلام تعايشت أديان وأعراق وثقافات مختلفة، وأن نصوصه الأساسية تؤكد على قبول هذا الدين بحق الآخرين في الحياة وفي الحقيقة، وهو ما لم يتحقق للمسيحية إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي تحتفل الكاثوليكية اليوم بمرور خمسين عاما على إعتماده.
إننا أمام موقفين استحكما بالثقافة العربية المعاصرة وتسببا لمجتمعاتنا في كثير من الدمار، واستندا في غالب الأحيان إلى السلطان أو الإرهاب. ولا يمكننا اليوم الخروج من نفق الإيديولوجيا المظلم بكل تلويناته ودروبه وأشباحه، إلا إذا انفصلنا في تفكيرنا وطريقة حياتنا عن هذين الاتجاهين، وتعلمنا "التعلم من الآخر"، ولكن وفق روح نقدية، وليس روحا سلفية، تعيد إنتاج العلاقات وطرق التفكير نفسها. وهذا لا ريب ما يحاوله مفكر من السعودية لم يلق كتابه للأسف العناية التي يستحقها، ولربما وقفت مرة أخرى أحكامنا المسبقة ضد ذلك، ولربما يكون لنوع الطرح الذي يقدمه الكتاب، دورا في ذلك. إنني أعني المفكر السعودي محمد الأحمري وكتابه "الديمقراطية.. الجذور وإشكالية التطبيق".
تحرير مفهوم الديمقراطية من المركزية الأوروبية
لا يتوقف الأحمري أمام الديمقراطية منافحا عنها ومطالبا بتطبيقها في العالم العربي فقط، بل يبدأ أولا بإعادة كتابة تاريخ الفكرة الديمقراطية بشكل يحررها من السردية الغربية، ويجعلها ملكا مشاعا للبشرية، عرفتها في فترات وحقب مختلفة من حياتها، ولم تكن التجربة اليونانية إلا جزءا من كل وفرعا من أصل متأصل في الفطرة الإنسانية، وليست بالمصدر الوحيد للفكرة الديمقراطية كما تحاول السردية الغربية إقناعنا.
وسواء نجح الأحمري في التدليل على ذلك أم لم ينجح، فإن أبحاثا أخرى طرقت مجالات أخرى مثل المسرح والتفكير الفلسفي والعلمي، أثبتت بأن الحضارة اليونانية القديمة كانت هبة البحر المتوسط وهبة اللقاء مع ثقافات الشرق وأممه المختلفة، ولم يكن لها أن تنبعث من العدم. لكن الأحمري في الآن نفسه وهو يحرر الديمقراطية من المركزية الغربية، التي درجت على نفي ثقافة الآخر، المختلف من عالم الحقيقة، يدعونا إلى ضرورة التعامل معها وفق منطق نقدي، وبلغة أخرى إلى ضرورة إصلاحها وتطويرها، فنحن أمام منتوج بشري ولسنا أمام نظام مقدس.
النظرية السياسية في الإسلام نظرية وضعية
ولكن في ظل هذا النظام تتحقق المشاركة ويترسخ مفهوم المواطنة وتعرف الحريات السياسية طريقها إلى حياة االبشر، وهو ما لم يتحقق إلى اليوم في العالم العربي، لأنه يعيش في ظل أنظمة استبدادية، تستغل الدين لتبرير استبدادها وقمعها للشعوب، وهي في ذلك تخطئ مرتين، مرة بحق شعوبها ومستقبلها ومرة ثانية بحق ثقافتها ودينها، لأنها تحول ذلك الدين إلى ضامن للاستبداد ومبرر للقهر، وتصبغ القدسية على نظام حكمها، في حين أن الأمر لا يتعلق في النظرية السياسية في الإسلام بأكثر من نظرية وضعية، لا تربطها صلة بروح النصوص الدينية المؤسسة، وإن كانت لا تتوانى عن ليّ عنقها وتحميلها ما لا تتحمل وتزييفها في أغلب الأحيان، فأين هي النصوص الدينية التي تصف المسلمين بالبهائم والحاكم براعيها؟
ومع ذلك نقرأ عند الماوردي في "نصيحة الملوك" :" "جعلهم عمار بلاده، وسماهم رعاة عباده، تشبيها لهم بالرعاة الذين يرعون السوائم والبهائم: "وأقل ما يمكننا قوله في البهائم أن لا عقل لها يقودها وأنها خلقت لخدمة الآخرين، وقد يلقى بها إلى الكلاب حين تنتهي مهمتها، أو كما كتب عبد الجواد ياسين معلقا على عبارة الماوردي:"وهي صورة بالغة الدلالة على موقع الرعية (الشعب) من معادلة الحكم في الثقافة السياسية الإسلامية كما عبر عنها وساهم في تثبيتها أشهر كتاب الفقه الدستوري في الإسلام الوسيط. فحتى لو جردنا مفردة البهائم من ظلالها الإيحائية في التعبير العربي حين يوصف بها البشر، فسوف يبقى معنى العجز والقصور باعتباره صفة طبيعية مساكنة بالجبلة لتكوين الرعية (الشعب) أي شعب، في مقابل صفات العظمة والاقتدار الملازمة لتكوين الحاكم الملك، أي ملك" (السلطة في الإسلام 2009، ص. 75).
إنها الرؤية التي تقدمها الثقافة الثيوقراطية عن الشعب وعن الحاكم، وهي التي ترسخت في أعماق اللاوعي الإسلامي، حتى أصبح كل أمل بالتغيير ضربا من المستحيل، رغم أن الأصل في البشرية هي الحرية كما يكتب الأحمري، والأصل في الإسلام هو العقل، كما كتب الطاهر بن عاشور، وأشد ما يعارض العقل ويتناقض معه هو الاستبداد بالرأي أو السلطة.
لكن مع ذلك، لا يتوقف الأحمري عند نقد ثقافة الاستبداد والاستغلال السياسي للدين، وما نعته سمير أمين يوما بـ"الفهم المتخلف للدين الذي ينتشر في ظل التخلف"، بل ينتقد أيضا التيار الغالب داخل الديمقراطية الغربية، والذي يرى الديمقراطية نظاما لنفسه، ويحرم الآخرين منها أو يعمل كل شيء من أجل حرمانهم منه، وهو ما سبق وانتقده الفيلسوف الفرنسي دريدا في كتابه الشهير "مارقون"، وخصوصا تلك العلاقة بين السيادة والديمقراطية في الفكر السياسي الغربي والتي لا تعترف ولا تؤبد سوى منطق الشبيه، معتبرا بأن الدولة المارقة هي تلك، التي لا تحترم المواثيق الدولية وخصوصا تلك التي تخوض حروبا باسم الديمقراطية والحرية.
إن منطق البيت البيض، يكتب دريدا في محاضرته التي ألقاها بمناسبة تلقيه لجائزة "أدورنو" الألمانية الشهيرة، هو منطق السيادة الذي لا يقبل القسمة والتجزؤ، ومنذ عهد كلينتون وباسم السيادة والمصالح الوطنية، خرقت الولايات المتحدة الأمريكية القانون الدولي مرات كثيرة وفرضت عقوبات على الدول المعارضة لسياستها.
ومحق دريدا لا ريب حين يكتب في كلمات تفضح كنه الديمقراطية السائدة اليوم:"لا خطر على الديمقراطية القادمة إلا حيث يوجد الإخوة، ليس بالضبط الإخوة (...) ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، هناك حيث تسود ديكتاتورية سياسية للأخواتية" (مارقون، ص. 76). وفي الواقع لا يقول الأحمري غير ذلك وإن في لغة تقربنا أكثر من واقعنا العربي، وهو يؤكد بأن "الديمقراطية في كثير من أرجاء المنطقة العربية والإسلامية، إما محرمة بسبب مصالح المحتلين، وإما مسموح بجوانب منها في الداخل، ولكنها محرمة جملة على البلاد المهزومة كما في العراق وغيره، ولا يسمح لها بأن تصل إلى مستوى سيادي في المستعمرات، وكذا في فلسطين لم يسمح للشعوب بممارسة الديمقراطية ولو المحدودة" (ص. 44).
نظرة ثقافوية تسطيحية غربية لأهلية المجتمعات الاسلامية للديمقراطية
بل وغالبا ما يجري الحديث في الأدبيات الغربية عن شعوب لا تتوافق ذهنيتها مع النظام الديمقراطي، عن "أعراق مستبدة وأخرى ديمقراطية"، رغم أن الأمر لا يتعلق بخلل جيني أو ثقافي ولكن في أغلب الأحيان بمسألة التأخر التاريخي والتي ساهم الغرب فيها من خلال سياساته الكولونيالية، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بنظام رأسمالي لم يبدأ الآن فقط مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضربت المركز بفك ارتباطه مع الديمقراطية كما أوضح ذلك عالم الاجتماع الألماني فولفغانغ شتريك في آخر إصداراته "شراء الزمن: الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديمقراطية".
لكن فك الارتباط هذا مع الديمقراطية ومع قيمها، وهو ما أغفله عالم الاجتماع الألماني، ظل ملازما للمغامرة الرأسمالية في المستعمرات وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، كتشغيل الأطفال في مصانع الرأسماليين وإرغام الدول على شراء منتوجات دون أخرى أو قلب أنظمة الحكم المعارضة لسياساتها إلخ.. ومع ذلك فإنه لا يمكننا انتقاد مثالب الديمقراطية أو انحرافاتها أو الانحراف الرأسمالي للديمقراطية إلا من داخل الديمقراطية نفسها وباسمها؟
ومحق الأحمري حين يؤكد بأن الديمقراطية نظام مفتوح، يتعلم من أخطاءه ولا يتوقف عن التطور، ولربما يعود سبب ذلك في حد كبير إلى اعترافه بقيمة الفرد، كل فرد، وقيمة ما يمكن أن يقدمه للمجتمع، في حين يقمع مجتمع الاستبداد، كما يكتب الأحمري، الفرد وذكاءه وفطرته ويفرخ لقيم النفاق ولتدين يعتقل الدين وحيويته ويبرر الفساد السياسي.
رشيد بوطيب
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2014
صدر كتاب محمد الأحمري "الديمقراطية... الجذور وإشكالية التطبيق" في عام 2012.