اللغة الأم موطن الكينونة وأقصى درجات القوة
عندما تغادر وطنك أو بيئتك المألوفة -سواء أكان هذا طوعًا أم قسرًا، عن طريق الهجرة أو الشتات- تشعر غالبًا بأنك غريب في البيئة الجديدة. يهاجر الناس لأسباب مختلفة، ويشعرون بالغربة بطرق مختلفة، بسبب المكان المادي -الموقع في حد ذاته- أو بسبب اللغة الجديدة المحيطة بهم.
وإن كانت تجربة الغربة شخصية للغاية، ولا تقتصر على السفر إلى الخارج وحسب، بل قد تحدث في إطار الوطن أو العائلة حتى، إلا أن آلام الكوارث وصدماتها، طبيعية كانت أم من عمل الإنسان، تزيد من وطأة التجربة.
كلنا بالتأكيد نتاج أماكن وثقافات بعينها ولدنا فيها، ويعود ذلك إلى عملية اكتساب الخواص الثقافية والمجتمعية. هذا هو العالم الذي نعتاد العيش فيه، حيث نشعر بالأمان والسلامة والثقة، لأننا نعرفه ويعرفنا. نشعر بأننا ننتمي إلى هذا العالم. والعكس صحيح في الأماكن التي لا نعرفها، والتي تبث فينا الشعور بالخوف وانعدام الأمان.
هذا الانقسام بين المألوف وغير المألوف، بين الوطن والمكان الغريب، يشكل عقلنا وأفكارنا وأسلوب حياتنا. ونظرا لأن الإنسان كائن منزلي تحكمه العادة، نجده يرسم خطًا بين العالمين، المألوف وغير المألوف. ولذلك عندما يشعر بالغربة والوحشة يحاول التعرف على ما حوله والتكيف معه حتى يصبح وطنه.
أما تجربتي مع الإنجليزية فمختلفة تمامًا، لأني تعلمتها طوعًا وكان هدفي من ذلك واضحًا، الدراسة في بلد يتحدث الإنجليزية. عندما سافرت إلى إنجلترا للحصول على شهادة الماجستير في الفلسفة، كان كل شيء جديد علي. شعرت وكأن عالمي المألوف تحطم، وانقلب رأسًا على عقب بين يوم وليلة. أولًا، واجهت تغيرات جذرية من حيث الثقافة والمعتقدات وذاتي ووجودي نفسه في اللغة. شعرت بغربة في اللغة الإنجليزية لأني، في البداية، لم أكن أتحدث بطلاقة وأعبر عن نفسي كما ينبغي. كان علي أن أتعرف على هذا العالم اللغوي الجديد.
انعكاسًا للعالم الجديد
في لغتي الثانية، الإنجليزية، شعرت بغربة ووحشة لأنها كانت انعكاسًا للعالم الجديد المحيط بي وتعبيرًا عنه، حيث بدا كل شيء فيه مختلفًا عن عالمي القديم. كانت ذاتي القديمة مهددة، ولم تكن ذاتي الجديدة قد حلت بعد. كان علي أن أعيد بناء نفسي من الصفر على حساب ذاتي القديمة، أن أقصيها جانبًا، وفي نفس الوقت كان على أن أتحرى ذاتي الجديدة.
"اللغة موطن الكينونة"
والحقيقة إننا جميعنا ولدنا في ثقافة ومجتمع وعائلة ومكان ولغة ذات طبيعة محددة. وقد انتقلت هذه الثقافة والمعتقدات والأفكار، وأشياء أخرى لا حصر لها، وما زالت تنتقل من خلال لغتنا الأم، كما ننقل نحن كل ذلك إلى الآخرين من خلالها. نعيش داخل هذه اللغة وننمو معها، وهي تشكل أفكارنا وحياتنا ككل. ترتبط اللغة الأم بكياننا، بوجودنا في حد ذاته. ولذلك تكتسب بعدًا أنطولوجيًا. وكما كتب هايديغر: "اللغة موطن الكينونة".
لكن ألا يمكن القول إن هذه العبارة تنطبق على اللغة الأم تحديدًا؟ فاللغة الثانية لا يسعها أن تكون موطنًا لكينونتنا بنفس طريقة اللغة الأم. هذا البعد الأنطولوجي غير موجود سوى في اللغة الأم. ونظرًا لأننا ولدنا فيها، وعشنا بها، ونمونا معها، تشكلت حياتنا بالكامل من خلالها. إن كانت "المعرفة قوة" كما قال فرانسيس بيكون ذات مرة، فنحن كنا مسلحين إذًا بمعرفتنا باللغة الأم، ونصل إلى أقصى درجات قوتنا في لغتنا الأم.
ولدتُ في عائلة كردية. ونحن كأكراد لا نتمتع بدولة مستقلة، بل تفرض علينا بطاقات هوية عراقية أو إيرانية أو تركية أو سورية. نحن لاجئون في وطننا. باستثناء العراق، حيث أصبحت الكردية لغة رسمية بعد خلع نظام صدام حسين عام 2003، لا تحظى الكردية بالصفة الرسمية ولا يسمح باستخدامها في البلاد التي نسكنها حاليًا. لا خيار أمامنا سوى تعلم لغة أجنبية. وبالتالي أصبحنا غرباء في هذه اللغات الثانية.
"تأنفل"
أولى مواجهاتي مع اللغة الثانية كانت مع العربية، لأننا كان علينا تعلم العربية في العراق. كان أبي "تأنفل"، أي قتل في حملة الأنفال عام 1988، المذبحة التي ارتكبها نظام البعث في حق الأكراد ليحل "المسألة الكردية" في العراق من جذورها. لم أره قط، فقد كان عمري ثلاثة أشهر عندما "تأنفل". عندما سمعت كلمة أنفال للمرة الأولى، كان وقعها مربكًا وغريبًا.
{تجربة الغربة لا تقتصر على السفر إلى الخارج بل قد تحدث في إطار الوطن أو العائلة.}
لم أفهمها لأنها كلمة عربية إسلامية من القرآن (بمعنى غنيمة). لكني أدركت أنها مرتبطة بغياب أبي وموته. بالنسبة لي كانت "أنفال" مرادفًا لغياب الأب. سمعت كلمة "أنفال" مرة أخرى في المدرسة في دروس التعاليم الإسلامية. في هذه الدروس كان علينا حفظ آيات من القرآن، نتعلم من خلالها رسم الكلمات دون فحواها. تطاردني كلمة "أنفال" حتى يومنا هذا. تؤثر على رؤيتي للغة العربية، وتزيد من شعوري بالغربة في هذه اللغة.
كانت تلك الذات الجديدة في مرحلة الطفولة، في ذلك الوقت كنت قيد الإنشاء. بداخلي تواجهت لغتي الأم وذاتي القديمة مع اللغة الثانية وذاتي الجديدة. من ناحية، شرعت في رحلة جديدة أبحث فيها عن ذاتي الجديدة من خلال اللغة الجديدة، بلا خسائر ولا مكاسب. ومن ناحية أخرى كانت ذاتي القديمة تتشبث بي في لغتي الأم، كنت معلقًا فوق هوة سحيقة تفصلهما.
عندما تجد نفسك في عالم جديد تمامًا، وقد تركت عالمك القديم خلفك، تكون في هذا المكان جسديًا، جسمك هناك، لكن عقلك لم يصل بعد. ما زلت تعيش وتسكن في لغتك الأم، ما زلت تفكر بلغتك الخاصة. إذا أردت التواصل مع عالمك الجديد، عليك أن تفعل ذلك من خلال لغته. لكن هذه عملية شائكة، لأنك ستشعر في البداية بالحاجة إلى صياغة أفكارك بلغتك الأم في عقلك، ثم تنطقها مترجمة.
إذا عجزت في اللغة الجديدة عن التعبير بسهولة عن مشاعرك أو أفكارك ولا سيما عن نفسك، ستواجه عدة مشاكل لا محالة. ولذا تشعر بالغربة وبأن هويتك وشخصيتك مهددتان. تشعر بالضعف والهشاشة لأنك غير مسلح بلغتك التي تدافع بها عن نفسك. ونظرا لأنك لم تتقن بعد اللغة الثانية، صرت بلا قوة. وبعد وقت طويل جدًا في مواجهة اللغة الثانية، تشعر أخيرًا أنك تتعلمها. أخيرًا تجني ثمار ما استثمرته من وقت في دورات اللغة والمحادثات المربكة مع متحدثي اللغة الأصليين. ولذلك فتعلم لغة جديدة له بعد معرفي.
قد تتعلم لغة ثانية، لكنها لا تحل محل اللغة الأم أبدًا، وهي اللغة الطبيعية والأنطولوجية. فما تقدر على قوله والتعبير عنه في لغتك الأم لا يتساوى أبدًا مع اللغة الثانية. على سبيل المثال، قد تكون قد حفظت بعض القصائد، أو تستخدم الأمثال والمقولات والنكات والحكايات والأساطير واللعنات في لغتك الأم، لكنك على الأرجح لن تستطيع فعل الشيء ذاته في اللغة الثانية.
في حوار أجراه الصحافي الألماني غونتر غاوس في سبتمبر 1964 مع حنا أرندت، تتحدث الأخيرة عن لغتها الأم كعنصر دائم على مدار حياتها، وقد فرت من النظام النازي في ألمانيا إلى فرنسا، ومنها إلى الولايات المتحدة، وعادت إلى ألمانيا بعد الحرب:
"ما الذي لازمني؟ اللغة. [...] ولطالما رفضت فقدان اللغة الأم رفضًا واعيًا. لطالما احتفظت بمسافة ما بيني وبين الفرنسية، وكنت أتحدثها جيدًا طوال الوقت، وكذلك الإنجليزية، اللغة التي أكتب بها اليوم. [...] كما ترى، هناك فرق هائل بين اللغة الأم وسائر اللغات. التفسير في حالتي سهل للغاية. فأنا أحفظ عددًا من القصائد الألمانية عن ظهر قلب. [...] هذا أمر لا يمكن تحقيقه مرة أخرى أبدًا."
إن التحدث بلغة ثانية لن يكون أبدًا مثل التحدث باللغة الأم. ولكن هذا لا يعني إن مجهود إتقان اللغة الثانية لا طائل له، فقد تكتشف ذاتًا جديدة في أثناء ذلك.
نباز صمد أحمد
ترجمة: أميرة المصري
حقوق النشر: معهد غوته / "رؤية" 2018
نباز صمد أحمد من مواليد كويا، كردستان، عام 1988. حصل على شهادة الماجستير في علم الأخلاق والفلسفة السياسية من جامعة مانشستر في إنجلترا، كما حصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة كويا بالعراق. يعمل نباز حاليًا محاضرًا في جامعة السليمانية في كردستان. وهو أيضًا كاتب ومترجم وعضو في هيئة تحرير "المجلة الثقافية"، وتصدر بشكل رُبع سنويّ بالكردية.