مفكرو الإصلاح الإيرانيون...ازدهار في المنفى وانحدار في الوطن الأم
أطلق الفيلسوف عبد الكريم سوروش في نهاية الثمانينيات نقاشًا واسع النطاق من خلال نشره سلسلة من المقالات تناولت أساسيات المعرفة الدينية وذلك على صفحات المجلة الثقافية كيهان فرهنكي.
فبعد مرور عقد على الثورة الاسلامية عام 1979 التي جعلت الإسلام أساسًا لكل العمل السياسي ووَضَعت رجال الدين على رأس الدولة، وجد الإسلام نفسه في أزمة، وذلك لأنَّ أخطاء الدولة ارتدَّت على الإسلام ذاته وكانت النتيجة ابتعاد المجتمع عنه على نحوٍ متزايد.
لاحظَ مفكرو الدين من أمثال عبد الكريم سوروش حينئذ بقلقٍ أنَّ الثورة لم تؤدِّإلى أسلمة السياسة وحسب، إنما أيضًا إلى تسييس الإسلام واستحواذ الدولة على المجال الديني.
ومن خلال مصاعب صياغة قوانين حديثةٍ للعمل والإيجار تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، تبيَّن أنَّ الإسلام في تفاسيره التقليدية على الأقل لا يصلح لإدارة دولةٍ حديثةٍ دون أن يتم إصلاح فهمه.
سبل إصلاح الإسلام والشريعة
لاقت نظريات عبد الكريم سوروش آذانًا صاغية في ظل هذه الظروف، وساهمت في فتح الطريق أمام إصلاح الإسلام والشريعة الإسلامية من خلال تمييز عبد الكريم سوروش بين الدين الأبدي الذي لا يمكن تغييره وبين المعرفة الدينية ذات الطابع الإنساني بالضرورة، وبالتالي غير المعصومة من الخطأ ويمكن تغييرها.
انطلاقًا من أطروحاته تطوّر في التسعينيات نقاشٌ حيويٌ جدليٌ تناول قضايا علم التفسير ونظرية المعرفة، ولم يكن لهذا النقاش مثيلٌ في أيِّ بلدٍ من بلدان العالم الإسلامي.
بيد أنه لم يبقَ من هذا إلا القليل بعد مرور عشرين عامًا. فالمجلات مثل مجلة كيهان، المتأثرة بالفلسفة الغربية وعلم اللاهوت المسيحي والتي كانت تناقش بلا مواربة علاقة الإسلام بالنقد والعقل، وبالتعددية والديمقراطية باتت محظورة منذ فترةٍ طويلة.
وتطاير الأمل بقدرة حركة الإصلاح على إحداث تغييرٍ في السياسة وفي النظام استنادًا إلى تأويلٍ ليبراليٍ تقدميٍ للإسلام. والكثيرون من روّاد الإصلاح يعيشون اليوم في المنفى.
كان عبد الكريم سوروش أول من غادر إيران. إذ بعد الاعتداء على محاضراته في أعقاب نشر مقالٍ ينتقد رجال الدين، غادر إيران في عام 1996 لإجراء جولة واسعة لإلقاء المحاضرات.
وهو يعيش في المنفى منذ عام 2000 ويدرِّس اليوم في عدَّة جامعاتٍ في أوروبا والولايات المتحدة. وقد دأب بلا انقطاع على تطوير نظرياته، ولم يتوقف عند مسألة تأويل الشريعة بشكلٍ جديدٍ ولم يخشَ من وضع مبادئ الإيمان المركزية موضع التساؤل.
أما أطروحته الأكثر راديكالية فتتعلق بالقرآن، حيث يرى أن النبي لم يتلقَ الوحي بالقرآن حرفيًا، بل كتبه النبي بإلهامٍ من الله. ويرى أنَّ القرآن عملٌ إنسانيٌ على نحوٍ مشابهٍ للإنجيل، أي يمكن أنْ تشوبه الأخطاء كما هي حال جميع الأعمال الإنسانية.
بذلك يكون عبد الكريم سوروش قد تجاوز طروحاته السابقة، التي تقول بأنَّ لغة وطول القرآن قد تحددا بالصدفة. وعلى الرغم من أنه بهذا يفتح المجال لآفاقٍ جديدةٍ في تفسير القرآن، ولكن يبقى من غير المؤكد، إنْ كانت غالبية المسلمين ستتبع أطروحاته هذه.
عودة إلى فصل الدين عن الدولة
حتى فقهاء الدين الإصلاحيين مثل حسن یوسفي أشکوري يرون أنَّ عبد الكريم سوروش يغالي في أفكاره. لكن أشکوري يبقى ملتزمًا بالطريقة التقليدية في مقاربته للنصوص، على الرغم من توصُّله إلى تأويلٍ تقدمي.
وبعدما رأى أنَّ الحجاب ليس إلزاميًا من الناحية الدينية في مؤتمر إيران الذي عقدته مؤسسة هاينريش بول في عام 2000 في برلين، حُكِم عليه بالإعدام بتهمة الردّة، ثم تمّ تخفيف الحكم إلى السجن خمس سنوات.
ومنذ خروجه من السجن يعيش حسن یوسفي أشکوري في المنفى في ألمانيا.
وها هو اليوم يقرُّ علنًا بوجوب الفصل بين الدين والدولة. أما مبدأ ولاية الفقيه المطلقة الذي يقوم النظام الحالي عليه فيرفض باعتباره مبدأً غير شرعي دينيًا، على الرغم من تمسُّكه بأفكاره الإصلاحية لأسبابٍ عملية.
وقد انتقد في إحدى المقابلات في حزيران/يونيو 2012 محاولات مؤيدي القائد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي جعل منزلته تقارب مقام الإمام المهدي في سبيل تبرير سلطته المطلقة.
كما تحرَّر من قيود الخطاب السائد في إيران رجلُ الدين محسن كاديوار الذي وقف في المنفى علنًا ضد النظام. وبعد مقاضاته في محكمة خاصة بعلماء الدين في عام 1999 والحكم عليه بالسجن لعدة سنوات بسبب خطبٍ ومقابلاتٍ نقدية، غادر محسن كاديوار إيران في عام 2008.
وهو يدرِّس الآن في جامعة ديوك في الولايات المتحدة. وكانت له تصريحات نقدية للغاية منذ عام 1999 طالت تحليل أسس "ولاية الفقيه" الدينية. ثم تراجع عنها تمامًا في المنفى.
اعتبار العدالة معيارًا للإسلام
تتخذ فكرة العدالة موقعًا مركزيًا في فكر محسن كاديوار، فبحسب رأيه يساهم الإسلام في تحقيق العدالة، إلا أنه لا يحدد ما المقصود بذلك بالضبط. وبدلاً من ذلك تسود الأحكام الدينية مفهوم العدالة المتقلِّب لديه.
كما يسوِّق محسن كاديوار حججًا تشير إلى الشعور بالعدالة تجاه القوانين الإسلامية في عهد النبي. ويرى أنَّ تغيُّر مفهوم العدالة يتطلب بالضرورة أيضًا تغيير القوانين - وبخاصة في مجال حقوق المرأة.
ومن خلال الإعراض عن فكرة تحكُّم الإسلام بكل جوانب الحياة الاجتماعية، ينادي محسن كاديوار بالانسحاب التدريجي لما هو ديني من المجتمع. وبدلًا من استبدال الأحكام القديمة بأحكامٍ جديدةٍ يريد ترك هذه المجالات في المستقبل للهيئات التشريعية العلمانية.
فهو على قناعة بأنه بالرغم من أنَّ هذا سوف يضيّق الحيّز الديني، إلا أنَّ الدين سوف يكتسب من خلال ذلك عمقًا أكبر. وكما هي الحال لدى عبد الكريم سوروش ليس من المؤكد إنْ كانت جموع المؤمنين ستتبع رأيه، وبخاصةٍ عندما يشطب تعاليم راسخة في الإسلام.
ثمة سؤالٌ يطرح نفسه لدى جميع المفكرين الإصلاحيين في إيران يتعلق بمدى تأثيرهم المتبقي في إيران اليوم. هل هناك التفات إلى ما يكتبونه، وهل تجري قراءة ومناقشة هذه الكتابات؟ فهم ممنوعون من نشر الكتب منذ فترة طويلة، ناهيك عن تقديم المحاضرات.
لكن في الوقت ذاته، يبدو أنَّ شبكة الإنترنت توفّر نوعًا من التعويض عن اللقاءات المباشرة، حيث أدرك عبد الكريم سوروش وحسن یوسفي أشکوري ومحسن كاديوار مثل الكثير من المفكرين ورجال الدين في إيران إمكانات شبكة الإنترنت، وهم يستخدمونها على نحوٍ كامل.
وهم يوثِّقون كلَّ شيءٍ على مواقعهم الخاصة في الإنترنت – بدءًا بالمحاضرات والمقابلات الصحافية والتصريحات وصولاً إلى نشرهم كتباً كاملة وسلاسل كاملة من المحاضرات على شكل ملفاتٍ صوتية.
موقع محسن كاديوار بالذات أشبه بالمكتبة. وهناك نقاشاتٌ وتعليقاتٌ عن الكثير من مقالاتهم في الإنترنت. ومن الواضح أنهم ما زالوا على اتصال مع أصدقاء وتلامذة وأتباع في إيران. وبعد مرور عقدٍ على إغلاق مجلة كيهان ومجلات إصلاحيةٍ أخرى، يبدو أنَّ النقاش مستمر في أعماق الشبكة العنكبوتية على الأقل.
أورز سارتوفيتس
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012