عياض بن عاشور: الدستور التونسي دستور ثوري
الأستاذ عياض بن عاشور كنت من الأوائل الذين اُنيطت بعهدتهم أصعب المهام وأثقلها مسؤولية عقب الثورة ضد نظام الرئيس المخلوع بن علي، وهي تمهيد الطريق للتحول الديمقراطي في البلاد، حيث كُلفت برئاسة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة. ماذا حققت هذه الهيئة؟
عياض بن عاشور:عندما تأسست الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة كان الهدف من ورائها تمهيد الطريق للبناء النهائي للنظام السياسي في تونس. وقد سهرت الهيئة على هذه المرحلة الانتقالية تمهيدا لانتخاب المجلس التأسيسي الذي تكمن مهمته في كتابة دستور جديد للبلاد. كما قامت بالمصادقة على أهم القوانين التي تنظم الحياة السياسية والدستورية في تونس، أهمها القانون الانتخابي، الذي حرصنا على أن يحترم مبدئي التعددية والتناصف بين الرجال والنساء في القوائم الانتخابية. وأرسينا في تونس الهيئة المستقلة للانتخابات التي أشرفت فيما بعد على العملية الانتخابية. كما صادقنا على قانون حرية الصحافة وحرية وسائل الإعلام السمعية والبصرية. وجمعيها قوانين تُؤطر الحياة السياسية وفقا للمعايير التعددية والديمقراطية الدولية.
ولكن المهمة لم تكن سهلة
عاشور: فعلا، عمل الهيئة لم يكن يسيرا، فهي لم تكن منتخبة، وكانت مبنية على التوافق الجماعي والاجتماعي. لذلك فقد كانت متواضعة جدا في الإجراءات والأساليب ولم تكن تخطو خطوة إلا بعد التشاور مع الجميع. وكان حزب النهضة مثلا يشعر أنه يمثل الأقلية داخل الهيئة ويدّعي أن اليساريين كانوا يسيطرون عليها. وخلال بعض الأزمات التي واجهتها، كالخلاف بشأن تأجيل الانتخابات وقانون الأحزاب، انسحب هذا الحزب من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة.
ولكن ذلك أصبح في حكم الماضي. والآن قد مرت نحو سنتين على الثورة التونسية، فهل تحققت أهداف الثورة؟
عاشور: الثورة هي رسالة تتطلب سنوات طويلة إن لم نقل عقودا لإنجازها. ولا يمكن لأحد ولا لأي قوة سياسية موجودة في بلادنا أن تحقق أهداف الثورة على المدى القريب. وعليه يجب التأني والصبر لتحقيق أهداف الثورة. ولكن ما أريد قوله هنا هو أن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة قد حققت فعلا جميع المطالب التحررية التي نادت بها الثورة: التعددية، دولة القانون، المبادئ الديمقراطية، الانتخابات الشفافة، الصحافة الحرة، الحوار المفتوح بين الجميع، أي تلك المطالب التي طالب بها التونسيون وأسقطوا من أجلها نظاما ديكتاتوريا. لكن ما حققناه ليس إلا جزءا من برنامج شامل يتطلب عقودا من الزمن.
هل أفهم من كلامك بأنك راض عما تحقق حتى الآن؟
عاشور: هناك توتر في الأجواء السياسية وبطء في عمل المجلس التأسيسي. وإذا قارنا الفترة التي عملت خلالها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وهي الفترة الممتدة بين مارس/ آذار وأكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011، وما قامت به السلط الجديدة في البلاد، لوصلنا إلى نتيجة مفادها أن عمل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة كان أسرع وأنجع وأثرى من العمل الذي تقوم به الحكومة المنحدرة من انتخابات 23 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
مهمتك على رأس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة انتهت بانتخاب المجلس التأسيسي في 23 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الذي فاز بأغلبية مقاعده حزب النهضة الإسلامي. وبعدها قدمت مع مجموعة من الخبراء في مجال القانون الدستوري لهذا المجلس مشروع دستور للبلاد. كيف كان رد فعله؟
عاشور: المواقف من مشروع الدستور الذي قدمناه، كانت متحفظة، ذلك أنه متقدم جدا عن تصورات الأغلبية داخل المجلس التأسيسي الذي يسيطر عليه المحافظون (الإسلاميون). وتتجلى الصبغة التقدمية لمشروع الدستور في عدد من البنود التي اقترحها مثل إلغاء عقوبة الإعدام وعدد من المبادئ التحررية، مثل إدراج إعلان تونسي لحقوق الإنسان مطابق للمعايير العالمية. أما المجلس التأسيسي فقد انتهج سياسة "الورقة البيضاء" ومفادها أن المجلس التأسيسي لا يأخذ أيا من المشاريع التي قدمت له بعين الاعتبار انطلاقا من منهج الورقة البيضاء، معتبرا أن لديه ما يكفي من الخبراء لأداء مهمته. وهذه عقلية خاطئة لأن كتابة الدستور تتطلب اختصاصات كثيرة، ولا أعتقد أن المجلس التأسيسي لديه ما يكفيه من الاختصاصات القانونية لكي يؤدي وظيفته على أفضل وجه وهي كتابة الدستور.
ساد الجدل ولفترة طويلة داخل المجلس التأسيسي حول هوية البلاد وعلاقتها بالعروبة والإسلام، ولكن في مشروع الدستور الذي قدمتموه للمجلس تم تغييب هذا الجانب كليا....
عاشور: صحيح. لقد ركزنا في مشروع القانون على حقوق الإنسان وضرورة حمايتها، لأن هذه هي المبادئ التي تتماشى مع رسالة الثورة التونسية، التي لم تناد باعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في تونس. كما أنها لم تطالب بأن تكون حرية الفكر والتعبير مشروطة بعدم المساس بالمقدسات. أي أنها لم تكن دينية قط. والدستور الذي قمنا بإعداده هو دستور ثوري، حيث تضمن إعلانا للحقوق والحريات الأساسية.
أنت ترفضون اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع وأنت حفيد الطاهر بن عاشور، أول شيخ لجامعة الزيتونة، ألا ترى في ذلك تضاربا؟
عاشور: لا أبدا! اليوم هناك اختلاف حول مفهوم الشريعة ومحتواها، فإذا أخذنا الشريعة من المنظور السياسي، فلا سبيل إلى إدخال بعض القواعد مثل الحدود وقتل المرتد وغيرها من التي لا تتماشى مع المفهوم الحديث لحقوق الإنسان. وأنا أرفض هذا الاتجاه السياسي للشريعة. أما إذا تبينا الشريعة كمرجعية أخلافية فلا ضرر من ذلك.
ماذا تعني بالشريعة "كمرجعية أخلاقية"؟
عاشور: مرجعية أخلاقية بمفهوم أن الإسلام دين التسامح، دين حرية العبادة وضامن للحريات الشخصية وللحرية الدينية للأقليات. لكن مع الأسف هناك أناس يتشبثون بسطحية الألفاظ الجامدة وبالقواعد الفقهية القديمة، متناسين أن تأويل الإسلام يتجدد ويتطور وفق تطور العصور.
هناك من وجه إليك انتقادات بأنك من دعاة اللائكية (العلمانية)، التي لها بصفة عامة في العالم العربي مفهوم سلبي، كما يتهمك البعض حتى بمعاداة الإسلام.
عاشور: أنا لست من دعاة اللائكية ولست من المنادين باتباعها كأساس للنظام السياسي الجديد في تونس. ما أدعو إليه هو فصل الدين عن السياسة، أي فصل الإسلام عن العمل الحزبي. وأنا لا أدعو إلى فصل الدين عن الدولة، أي أني لا أعارض مثلا وجود وزارة للشؤون الدينية تتولى بناء المساجد وتسييرها وتنظيمها. لكني أرفض ممارسة السياسة والعمل الحزبي باسم الإسلام، لأنه في حال تم المزج بين العمل الحزبي السياسي وبين الدين فإن ذلك سيكون مطية لأبشع الديكتاتوريات.
مراقبون للشأن التونسي يلاحظون تنامي التأثير الإسلامي في تونس حتى منذ عهد الرئيس المخلوع بن علي. واليوم نلاحظ صعود بعض التيارات الإسلامية الراديكالية مثل التيار السلفي. كيف تفسر هذه الظاهرة وهل تشعر بقلق إزاءها؟
عاشور: هو تطور قد يبعث على القلق إن صاحبه استخدام للعنف. مبدئيا كل فرد حر في اختيار قناعاته الفكرية والدينية، وكذلك السلفيون. وهناك في تونس حزب سياسي سلفي وهو "حزب التحرير"، وهو حزب ينادي بتبني الخلافة الإسلامية مثلا وغيرها من المطالب ذات المرجعية السلفية. و لكل الحق في كنف الديمقراطية في التعبير عن آرائه. لكن الإشكال يكمن في أن هناك بعض الجماعات التي تتسمى بالسلفية وتستخدم في الواقع الدين لأغراض سياسية كما أنها لا تتوانى عن استخدام القوة والعنف لتحقيق أهدافها. والأمر الذي يثير القلق أننا نرى أن الحكومة (الحالية) قد التزمت في أحيان كثيرة الصمت وتعاملت مع هذا الانفلات بنوع من التراخي. وهنا يكمن الخطر، لأنه إذا تركنا الطريق مفتوحا أمام هذه الجماعات السلفية التي تستعمل العنف باسم الدين، فإننا نكون قد وضعنا الديمقراطية في بلادنا أمام أكبر خطر وخالفنا تماما ما أتت به الثورة.
كلامك لا ينم عن نظرة تفاؤلية للتطورات في البلاد، فكيف ترى مستقبل تونس؟
عاشور: لا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل، ولكن الشيء الذي يمكنني قوله هو إن تونس تمر بفترة صعبة جدا محفوفة بالكثير من التناقضات وثمة تجاهل لرسالة الثورة وطموحها. لذا يجب علينا توخي الحذر إزاء هذه الأخطار ونواصل الكفاح من أجل تونس حرة ووفية لرسالة الثورة.
أجرت الحوار: شمس العياري
مراجعة: أحمد حسو
حقوق النشر: دويتشه فيله 2012
البروفسور عياض بن عاشور، من مواليد تونس عام 1945، هو خبير في الشؤون القانونية والدستورية، درس القانون وتولى منصب عميد كلية الحقوق في جامعة تونس. تولى في الفترة الممتدة ما بين مارس/ آذار وأكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011 منصب رئيس "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي". وأسوة بشخصيات عالمية كالإيرانية شيرين عبادي والرئيس التشيكي الراحل فاكلاف هافل، حصلت الشخصية التونسية المعروفة عياض بن عاشور، أستاذ القانون والخبير في الشؤون السياسية، على الجائزة الدولية للديمقراطية تكريما لجهوده ولجهود الذين ساهموا في دفع الانتقال الديمقراطي في تونس بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.