بُعَيد وفاة النبي - بداية "أول الوهن"

سقيفة بني ساعدة - المدينة المنورة - السعودية.
سقيفة بني ساعدة - المدينة المنورة - السعودية.

يرى فرج العشة بتحليله أن الدعوة المحمدية الروحية الأممية تحولت في سقيفة بني ساعدة إلى غنيمة: إقصاء للشورى وتغلب للقَبَلية على مفهوم دولة الإسلام المعتمدة على التقوى كمعيار مواطنة ومساواة في أمة المؤمنين.

الكاتبة ، الكاتب: فرج العشة

إن "أول الوهن" الذي فجّر الخلاف المحتدم بين الأنصار والمهاجرين في السقيفة، لم يقف عند أوله. وذلك ما حدث. فما أن انتشر نبأ وفاة الرسول (11هـ ـ 632م) حتى تمردتْ القبائل في شبه الجزيرة العربية، عدا أهل مكَّة والمدينة المُنوَّرة والطائف وما جاورهم بالقرب. أحدث التمرد القبلي ثورة مضادة، أخذتْ من الإسلام الصلاة، ورفضت إتاء الزكاة التي اعتبرتها جباية يجب إلغاؤها. فكان ذلك بمثابة تهديد مصيري لوجود لدولة الإسلام الناشئة لتوها في مهدها، وينذر بعودة النظام القبلي والكيانات القبلية الانفصالية.

أعلن الخليفة أبوبكر الحرب على القبائل المتمردة باسم "الجهاد في سبيل الله" ليس لأنها ممتنعة عن إتاء الزكاة إنما بوصفها مرتدة عن الإسلام. ومن هنا جاءت تسميتها بـ"حروب الردّة" التي دامت ما بين سنتيْ (11هـ و12هـ ـ 632م و633م)، وانتهت بإخضاع كل قبائل شبه الجزيرة العربيَّة تحت الحكم الإسلامي وامتثالها لفروضه. بعدها توسُعتْ الفتوحات/الغزوات نحو الشَّام والعراق ومصر، داحرة في مسارها الروم البيزنطيين والفُرس.

العام13هـ تُوُفي الخليفة أبو بكر الصديق بعد عام من انتهاء "حروب الردة" فتولى الحكم خليفته عمر بن الخطاب رجل الدولة المؤسس. في عهده ضم المسلمون كامل أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية ونصف أراضي الامبراطورية البيزنطية. وقيل الكثير في نزاهته وتقشفه وفي عدله وإنصافه بين رعيته، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، حتى لُقب بالفاروق. وكان صارماً في إدارته شؤون الدولة الواسعة ومتابعة عماله على الأمصار كافة، فلا يتوانى عن عزل المقصرين منهم ومعاقبتهم.

متوالية الاغتيالات السياسية في سياق تداعيات "أول الوهن"

اغتيل الخليفة عمر العام 23 هـ - 644 م بينما كان يصلي الفجر، مطعوناً بخنجر أبي لؤلؤة فيروز الفارسي، أو كما يُسمى في المرويات السنية باسم "أبو لؤلؤة المجوسي". فكان اغتيال الخليفة الثاني مفتتحاً لأول الدم في متوالية الاغتيال السياسي في سياق تداعيات "أول الوهن".

 

سقيفة بني ساعدة - المدينة المنورة - السعودية. Saqifah of Bani Saedah - Google Maps
"حين تغلب منطق العصبية القبلية لثقافة ما قبل الإسلام على مفهوم دولة الإسلام": في سقيفة بني ساعدة تلك، تحولت الدعوة المحمدية الروحية/الأممية إلى غنيمة مُلك تتنازعه القبائل. فالتبس الإسلام بالعصبية. وبنية الوهن الحضاري هذه تكوّنتْ (سياسياً) مع إقصاء مبدأ الشورى في تدبر شؤون الحكم. إذ تغلب منطق العصبية القبلية لثقافة ما قبل الإسلام على مفهوم دولة الإسلام، التي تعتمد، في جوهرها، على مبدأ "التقوى" كمعيار للمواطنة في الأمة (أمة المؤمنين) حيث:" لا فرق بين عربي أو أعجمي، أسود أو أبيض أو أحمر.. إلخ، إلا بالتقوى".

 

جاء في تفاسير مرويات الإخباريين أن قاتله فارسي شعوبي دافعُهُ الانتقام من قائد الدولة الإسلامية، التي قضتْ نهائيا على الامبراطورية الفارسية المجوسية. وذلك ما ذهب إليه ابن تيمية في قوله أن: "أبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام. كان مجوسياً من عباد النيران، فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله، وحبا للمجوس، وانتقاما للكفار، لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤسائهم وقسم أموالهم".

أما المصادر الشيعية المتطرفة، فإن "أبو لؤلؤة" مسلم ومن شيعة علي (رغم أنه ارتكب جريمته وليس لعلي شيعة وقتها)، بل اعتبروه "من خيار شيعة علي" إلا أن العديد من فقهاء الشيعة، المُحَدِّثين على الخصوص، يعتبرون "أبو لؤلؤة" مجرماً، قُبض عليه ونال جزاءه بحدّ القصاص، ولا يُعرف أين دُفن. السردية الشيعية الشعوبية تروي أنه نجا من القبض عليه، حيث تمكّن من الهرب إلى بلاد فارس واستقر في مدينة قاشان (الإيرانية) ومات فيها، ودُفن في ضريح/ مزار تقوم عليه عائلة عشائرية تُسمى "عظیمی" تدعي انتسابها إليه.

محاولات مدّ جسور الحوار والتقارب بين السنة والشيعة

لقد ظلت جريمة "أبو لؤلؤة" مُفعَّلة في سرديات تداعيات "أول الوهن" حتى بعد قرابة ألف وخمسمائة سنة. ففي مؤتمر الدوحة للحوار بين المذاهب الإسلامية العام 2007، طالب بعض الحاضرين من فقهاء السنة من الحكومة الإيرانية إزالة ضريح "أبولؤلؤة". فرد المشارك الإيراني الدكتور محمد علي آذرشب الأستاذ بجامعة طهران، بأنه من غير الممكن إزالة الضريح لأنه مزار ضارب في القدم ويعبر عن تيار ديني في إيران لسنا أوصياء عليه. وأضاف محتداً أنه ليس من حق دعاة التقريب ولا من رسالتهم أن يطالبوا بإزالة هذا المزار.

وبعكسه أعلن آية الله محمد علي التسخيري الأمين العام السابق للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والتوفيق بين السنة والشيعة، في مقابلة تلفزيونية مع قناة العربية في 24 يناير / كانون الثاني 2007 قائلاً: "إن أبا لؤلؤة رجل مجرم أُقيم عليه الحد في المدينة المنورة ودُفن فيها ولم تنقل جثته إلى إيران، والقبر الموجود في قاشان، مجرد مكان وهمي ليس له اعتبار ولا يزوره أحد".

ووصل الأمر إلى إلغاء شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لقاء كان مُرتباً مع نائب الرئيس الإيراني حميد بقائي، تعبيراً عن رفض مشيخة السنة مدّ جسور الحوار والتقارب ما لم يحذف علماء الشيعة (الإيرانية) كل ما يُسيء إلى أهل السنة ومعتقداتهم، والتوقف عن الطعن في صحابة الرسول، وإزالة مزار أبي لؤلؤة قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.

وحدث في 4 أبريل / نيسان 2007 أن قام مجهولون (ربما من المخابرات الإيرانية!) بتدمير الضريح وتخريب المزار، وذلك بُعيد خطبة دينية لأحد رجال الدين البارزين في مدينة قاشان، يدعو فيها إلى التمسك بالوحدة الإسلامية وإزالة كل أسباب التفرقة بين المسلمين. لكن ذلك لم يكن ليبطل تراث هائل من العداء والكراهية بين المذهبين، اللذين يُشهّر أحدهما بالآخر بما يراه فيه سوءة.

 

سقيفة بني ساعدة - المدينة المنورة - السعودية. Saqifah of bani Saidah-almadinah Photo visitsaudi.com
"أول الوهن": كان وصف "أول الوهن"، الذي أطلقه سعد بن عبادة زعيم الأنصار، تعبيرا نافذ البصيرة عن داء العصبية الذي بذر بذرته مبكرا في البنية الجنينية للدولة الإسلامية الناشئة لتوها بينما كان الرسول/القائد يُغسَّل. ففي سقيفة بني ساعدة، تجادل الفريقان (الأنصار والمهاجرون) حول حق كل منهما في خلافة الرسول، حتى أدرك زعماء الأنصار أن السلطة لن تخرج من قريش بعد فتح مكة، فتنازلوا عن مطلب الخلافة، ليساوموا على أن يكون منهم أمير، لكن سادة قريش رفضوا المساومة، وأصروا على حقهم القبلي الكامل في وراثة "سلطان" محمد بلا منازع.

 

فأهل السنة يذمّون الشيعة بوصفهم "روافض" لأنهم رفضوا تقديم أبي بكر وعمر بالخلافة على علي بن أبي طالب. فيرد الشيعة، في سرديتهم الفقهية، بأن نعتهم بالروافض مدحاً يفتخرون به، باعتبارهم رفضوا الباطل وتمسكوا بالحق، ويذمّون أهل السنة بوصفهم "نواصب" أي الذين يعادون علي بن أبي طالب وأهل بيته، أي يناصبونهم العداء، ويؤذونهم بالقول أو الفعل.

وفي ذلك بيّن ابن تيمية في فتوى له أن عقيدة أهل السنة والجماعة تقضي بأن: "يحبون أهل بيت رسول الإسلام ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الإسلام … ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، وأهل السنة والجماعة يمسكون عما شجر بين الصحابة". وعبارة "عما شجر بين الصحابة" يُشير بها إلى أحداث الصراع بينهم بعد اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان في سنة 35 هـ.

من صراع قبلي بين المهاجرين والأنصار إلى صراع عشائري داخل قبيلة قريش بين بني أمية وبني هاشم

لقد ابتدأ "أول الوهن" خصومة بين الأنصار (أصحاب يثرب/ المدينة) والمهاجرين (قريش/أصحاب مكة) داخل سقيفة بني ساعدة. ثم سرعان ما صار إلى صراع عشائري داخل قبيلة قريش، بين بني أمية وبني هاشم، في عودة لإحياء النزاع "الجاهلي" القديم بينهما، وهم أبناء عمومة من جد واحد هو  قصي بن كلاب بن مرة (الجد الرابع للنبي محمد)، الذي تزعّم قبيلة قريش وأخرج بالقوة بقية القبائل مثل كنانة وخزاعة من مكة، ليجعلها سكنى خاصة لقريش، يؤسس فيها دولته القريشية، جامعاً في يده مقاليد سلطات السدانة والسقاية والرفادة والندوة ولواء الحرب.

 

 

فرج العشة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de