هل يناقض الفيلسوف الألماني هابرماس أفكاره؟

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (على اليسار) وعالم الاجتماع آصف بيات (على اليمين). صورة من: Louisa Gouliamaki/AFP über Getty Images‪.‬ ‏German philosopher Juergen Hamas (left) and sociologist Asef Bayat (right)
الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (على اليسار) وعالم الاجتماع آصف بيات (على اليمين). صورة من: Louisa Gouliamaki/AFP über Getty Images‪.‬

أعرب الفيلسوف الألماني هابرماس -وهو من أكثر فلاسفة العالم المعاصرين تأثيرا- عن موقفه من حرب غزة. ولكن موقفه يتناقض مع أفكاره الذاتية، كما يبيِّن عالم الاجتماع آصف بيات من خلال حجج هابرماس نفسه.

الكاتب، الكاتبة : Asef Bayat

نشر يورغن هابرماس في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 تصريحًا حول موقفه من الهجوم الإسرائيلي المضاد على غزة بعد مذبحة حماس في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 تحت عنوان "مبادئ التضامن"، ووصف فيه الهجوم العسكري الإسرائيلي في غزة بأنَّه "هجوم مضاد مُبرَّر مبدئيًا". وانتقد عالم الاجتماع آصف بيات في رسالته المفتوحة هذا التصريح لأنَّه -بحسب تعبيره- يتناقض مع مبادئ فكر هابرماس. هذه الرسالة المفتوحة هدفها هو الدعوة إلى النقاش.
 

عزيزي السيِّد هابرماس،

ربَّما لم تعد تتذكَّرني، ولكننا التقينا في مصر في شهر آذار/مارس 1998. لقد جئتَ كأستاذ زائر متميِّز إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة من أجل الحديث مع أعضاء الهيئة التدريسية والطلَّاب والجمهور.

وكان الجميع متحمِّسين لسماعك. وكانت أفكارك حول المجال العام والحوار العقلاني والمجتمع الديمقراطي بمثابة نسمة من الهواء العليل في وقت كان فيه الإسلاميون والحكَّام المستبدُّون في الشرق الأوسط يقمعون حرِّية التعبير عن الرأي بحجة أنَّهم يريدون "حماية الإسلام".

أتذكَّرُ حديثًا جيِّدًا دار بيننا حول إيران والسياسة الدينية خلال عشاء في منزل أحد الزملاء. لقد حاولتُ أن أعرض عليك أفكاري حول نشوء مجتمع "ما بعد الإسلاميين" في إيران. ويبدو أنَّك قد خضت هذه التجربة بنفسك خلال زيارتك إلى طهران في عام 2002 قبل أن تتحدَّث في وقت لاحق حول مجتمع "ما بعد العلمانية" في أوروبا.

ونحن في القاهرة رأينا في مفاهيمك الأساسية إمكانيات كبيرة للنهوض بفضاء عام عابر للحدود الوطنية وبحوار بين الثقافات. لقد أخذنا على محمل الجد جوهرَ نظريَّتك حول الفعل التواصلي، والتي يمكن بحسبها التوصُّل من خلال نقاشات حرَّة إلى الحقيقة وتوافق الآراء.

لكني الآن -وبعد نحو خمسة وعشرين عامًا من ذلك- قرأتُ في برلين -وبقدر كبير من القلق- بيانك الذي كتبتَه ونشرتَه بالاشتراك مع آخرين تحت عنوان "مبادئ التضامن". وروح هذا البيان تحذِّر الذين يُعبِّرون في ألمانيا من خلال بيانات واحتجاجات عن معارضتهم القصف الإسرائيلي الشديد لقطاع غزة ردًا على هجوم حماس غير المسبوق في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.

وبيانكم هذا يعني ضمنًا أنَّ مثل هذا الانتقاد لإسرائيل لا يجوز قبوله لأنَّ دعم دولة إسرائيل يُعتبر -بحسب تعبيركم- جزءًا أساسيًا من الثقافة السياسية الألمانية "التي تمثِّل فيها الحياةُ اليهودية وحقُّ إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان الحماية بشكل خاص". مبدأ الحماية الخاصة [لليهود] متجذِّر في تاريخ ألمانيا الاستثنائي، وهو كذلك بسبب "الإبادة الجماعية [لليهود] خلال الحقبة النازية".

الدور الألماني ذو الخصوصية

ومن المثير للإعجاب أنَّكم وكذلك الطبقة السياسية المثقَّفة في بلدكم تريدون الحفاظ على ذكرى ذلك الرعب التاريخي حيَّةً حتى لا يتعرَّض مرة أخرى اليهودُ (وأيضًا الشعوب الأخرى كما أفترض) لأهوال مشابهة.

بيد أنَّ صياغتكم للدور الألماني الخاص وتركيزكم عليه لا يتركان عمليًا أي مجال للحديث حول سياسة إسرائيل وحقوق الفلسطينيين. فعندما تخلطون بين انتقاد "أفعال إسرائيل" وبين "ردود الفعل المعادية للسامية" فإنَّكم تشجِّعون الصمت وتخنقون النقاش.

وبصفتي أكاديميًا لاحظتُ وبدهشة كبيرة أنَّ الجميع تقريبًا يصمتون عندما يُطرح موضوع فلسطين في المدارس والجامعات الألمانية التي من المفترض أن تكون مساحات حرّة للنقاش والاستفسار. وتكاد الصحف وقنوات الإذاعة والتلفزة الألمانية تكون خالية تمامًا من أي نقاش مفتوح وهادف حول هذا الموضوع.

وفي الواقع العديد من الأشخاص -ومن بينهم يهود أيضًا- فُصلوا من وظائفهم لأنَّهم دعوا إلى وقف إطلاق النار وأُلغيت فعاليَّاتهم وجوائزهم واتهموا بـ"معاداة السامية". فكيف يُفترض بالناس أن يفكِّروا في ما هو صحيح وما هو خطأ عندما لا يسمح لهم بالحديث بحرِّية؟ وماذا عن فكرتكم المشهورة كثيرًا حول "المجال العام" و"الحوار العقلاني" و"الديمقراطية التداولية"؟ [ديمقراطية تقوم على الحوارات العامة ومشاركة المواطنين في عمليات صنع القرار].

ومعظم النقاد والمتظاهرين الذين تُحذِّرونهم في بيانكم لا يشكِّكون أبدًا في مبدأ حماية حياة المواطنين اليهود. وأرجوكم عدم الخلط بين هؤلاء النقاد العقلانيين الذين ينتقدون الحكومة الإسرائيلية وبين النازيين الجدد اليمينيين المتطرِّفين أو غيرهم من المعادين للسامية الذين يستحقون الازدراء ويجب إدانتهم ومواجهتهم بحزم.

وفي الواقع إنَّ تقريبًا كلَّ بيان قرأتُه يدين ارتكاب حماس فظائع ضدَّ المدنيين في إسرائيل ويدين أيضًا معاداة السامية. وهؤلاء النقاد لا يُشكِّكون في ضرورة حماية الحياة اليهودية أو في حقِّ إسرائيل في الوجود، بل إنهم ينتقدون إنكار حقّ الفلسطينيين في الحياة وحقّ فلسطين في الوجود. وهذا شيء سَكَتُّم وصَمَتُّم عنه في بيانكم بشكل مأساوي.

ولا توجد في هذا البيان أية إشارة إلى إسرائيل كدولة احتلال أو إلى غزة كسجن مفتوح. ولم يُذكر فيه أي شيء حول هذا الاختلاف الفظيع. ناهيك عن ذكره المحو الروتيني للحياة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية. لقد أدَّى "الردّ الإسرائيلي" الذي تعتبرونه "مبرَّرًا من حيث المبدأ" إلى إلقاء ستة آلاف قنبلة على الأهالي العزَّل في غزة خلال ستة أيَّام بعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023؛ وقد أسفر هذا حتى كتابة هذه الرسالة عن أكثر من خمسة عشر ألف قتيل (سبعون بالمائة منهم من النساء والأطفال) وعن نحو خمسة وثلاثين ألف جريح وسبعة آلاف مفقود ومليون وسبعمائة ألف نازح. ناهيك عن قسوة حرمان الأهالي من الغذاء والماء والسكن والأمن والحد الأدنى من الكرامة. بالإضافة إلى تدمير البنيى التحتية الأساسية الحيوية. [تجاوز عدد القتلى في غزة لاحقاً بعد كتابة هذه المقال عشرين ألفاً في نهاية عام 2023 بحسب وزارة الصحة التابعة لحركة حماس].

البوصلة الأخلاقية ملتوية

حتى وإن كان الردّ الإسرائيلي قد لا يتوافق رسميًا مع معايير "نية الإبادة الجماعية" فإنَّ ممثِّلي الأمم المتحدة يتحدَّثون وبكلّ وضوح عن "جرائم حرب" و"تهجير قسري" و"تطهير عرقي". وما يقلقني هنا ليس السؤال حول كيف يجب الحكم على "أفعال إسرائيل" من منظور قانوني، بل السؤال كيف يمكن تفسير هذه البرودة الأخلاقية واللامبالاة التي أبديتموها إزاء مثل هذا الدمار. كم يجب أن يموت من الناس قبل أن يصبح مصيرهم جديرًا بالاهتمام؟ وماذا يعني في الواقع "الالتزام باحترام كرامة الإنسان" الذي تؤكِّدون عليه في بيانكم؟

يبدو وكأنَّكم تخشون من أن يؤدِّي الحديث عن معاناة الفلسطينيين إلى إضعاف التزامكم الأخلاقي بحياة اليهود. وإذا كان الأمر كذلك فمن المأساوي أن يرتبط تصحيح خطأ فظيع ارتُكب في الماضي بخطأ فظيع آخر يـُرتَكب في الوقت الحاضر.

وأخشى من أن تكون هذه البوصلة الأخلاقية الملتوية مرتبطة بمنطق الاستثنائية الألمانية التي تدافعون عنها. وذلك لأنَّ الاستثناية -وبحكم تعريفها- لا تسمح بتطبيق معيار عالمي واحد بل بمعايير تفاضلية يستحق بحسبها بعض الناس كرامة إنسانية أكبر والبعض الآخر أقل والبعض الآخر لا يستحقُّون أية كرامة على الإطلاق. وهذا المنطق يمنع الحوار العقلاني ويضعف الوعي الأخلاقي. فهو يخلق حاجزًا معرفيًا يمنعنا من رؤية معاناة الآخرين ويمنع التعاطف.

ولكن ليس كلّ الناس يستسلمون لهذا الحاجز المعرفي والجمود الأخلاقي. ولديَّ انطباع بأنَّ الكثير من الشباب الألمان لديهم آراؤهم الخاصة المختلفة تمامًا عن رأي الطبقة السياسية في ألمانيا حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وحتى أنَّ بعضهم يشاركون في المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني. وجيل الشباب بإمكانه الوصول إلى وسائل الإعلام ومصادر المعرفة البديلة وهو يمر بعمليات معرفية مختلفة عن الجيل الأكبر سنًا. ولكن معظم الشباب يلتزمون الصمت في المجال العام خوفًا من العقوبات الانتقامية.

يبدو الأمر وكأنَّ نوعًا من "المجال العام الخفي" قد بدأ ينشأ - ومن سخرية القدر أنَّ هذا يحدث في ألمانيا الاتحادية الديمقراطية وعلى غرار ما حدث في دول أوروبا الشرقية قبل عام 1989 أو ما يحدث اليوم في ظلّ الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط.

فعندما يؤدِّي التهديد والترهيب إلى خنق حرِّية التعبير عن الرأي في الفضاء العام يميلُ الناس إلى صياغة رواياتهم الخاصة البديلة حول القضايا الاجتماعية المهمة في السر، حتى وإن كانوا يتظاهرون نحو الخارج بتبنيهم وجهات النظر المعتمدة رسميًا. وبإمكان مثل هذا "المجال الخفي" أن ينفجر عندما تتوفَّر الفرصة المناسبة.

المركزية الأوروبية تعيق النقاش

عزيزي السيِّد هابرماس، نحن نعيش في أوقات مضطربة. وتوجد في مثل هذه الأوقات بالذات حاجة ماسة إلى الحكمة والمعرفة -والأهم من ذلك- إلى الشجاعة الأخلاقية من جانب المفكِّرين مثلكم. وأفكاركم الرائدة حول الحقيقة والفعل التواصلي والمواطنة العالمية والمجتمع العالمي والديمقراطية التداولية وكرامة الإنسان - ما تزال مهمة أكثر من ذي قبل. ومع ذلك يبدو أنَّ مركزيتكم الأوروبية والاستثنائية الألمانية ومساهمتكم في قمع النقاش الحرّ حول إسرائيل وفلسطين تناقض هذه الأفكار.

وأخشى من أنَّ المعرفة والوعي وحدهما قد لا يكفيان. ولنسأل سؤال أنطونيو غرامشي: كيف يمكن للمثقَّف أن "يعرف" من دون أن "يفهم" وكيف له أن "يفهم" من دون أن "يشعر"؟ وفقط عندما "نشعر" بمعاناة الآخرين من خلال التعاطف قد يكون هناك أمل من أجل عالمنا المضطرب بالأزمات.

ولنتذكَّر كلمات الشاعر والمتصوِّف الفارسي سعدي الشيرازي من القرن الثالث عشر:

"أبناءُ آدم بعضُهم مِن بعض،
في أصلهم خُلِقُوا مِن جوهرٍ واحد.
إنْ أصابَ الدهرُ أحدَ الأعضاء بألم،
استجابت له باقي الأعضاء بالاضطراب.
إنْ كنتَ لا تُبالي بمِحَن الآخرين
فأنت لا تستحق أنْ تُسمَّي آدميًا".

مع كلِّ التقدير والاحترام،

آصف بيات
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر:  مجلة نيو لاينز ماغازين / موقع قنطرة 2024
‪Qantara.de/ar‬

نُشِرَتْ هذه الرسالة أوَّل مرة في مجلة نيو لاينز ماغازين New Lines Magazine في الثامن من كانون الأوَّل/ديسمبر 2023.

آصف بيات هو كاتب وأستاذ لعلم الاجتماع يعمل في مركز "كاثرين وبروس باستيان للدراسات العالمية وعبر الوطنية" في جامعة إلينوي الأمريكية. وتركِّز أبحاثه الاجتماعية على قضايا من بينها المجتمعات المعاصرة في الشرق الأوسط. اشتهر بأفكاره حول "ما بعد الإسلاموية" ودراساته الدقيقة حول الفضاء الحضري والحياة اليومية ومسألة "كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط" (وهذا عنوان فرعي لكتابه الصادر عام 2013 بعنوان "الحياة كسياسة").