انحياز النقاش حول معاداة السامية في ألمانيا
قالت وزيرة الدولة للثقافة كلاوديا روت مرارًا وتكرارًا إنَّ العنصرية ومعاداة السامية يجب مكافحتهما كليهما معًا - مثلًا بحسب ما نقلت عنها صحيفة تاغيسْشبيعل في الثالث من حزيران/يونيو 2023. وهذا الطلب بقدر ما يبدو معقولًا بقدر ما يعتبر من الصعب تنفيذه. لقد بات الصراع بين هذين الهدفين واضحًا حتى قبل المذبحة التي ارتكبتها حماس في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وظهرت المعضلة منذ ذلك الحين بكلِّ وضوح.
من الواضح أنَّ اتهامات معاداة السامية وإلغاءات الفعاليات التي تناقشها وسائل الإعلام الألمانية تؤثِّر بشكل متزايد على الفنَّانين والمثقَّفين غير البيض، أي الأشخاص ذوي الألوان المختلفة. وتثير الانطباع بأنَّ هؤلاء الأشخاص يجلبون معهم معاداة السامية إلى مجتمعنا الألماني؛ ولهذا السبب من الأفضل أن يتم استبعادهم وتأديبهم.
والحالة الأولى المشهورة ضمن هذا السياق تتعلق بالمفكِّر الكاميروني أشيل مبيمبي، وهو منظِّر ومؤرِّخ لما بعد الاستعمار. لقد كان من المفترض أن يلقي كلمة في افتتاح مهرجان "رورتريناله" الثقافي في مدينة بوخُوم الألمانية. واعترض على ذلك فيليكس كلاين -وهو مفوَّض الحكومة الاتحادية الألمانية لمعاداة السامية- لأنَّ أشيل مبيمبي قارن -بحسب تعبير فيليكس كلاين- سياسات إسرائيل بالفصل العنصري في جنوب إفريقيا وهذا يتوافق مع "نمط معروف من معاداة السامية".
وعلى الرغم من أنَّ قضية أشيل مبيمبي هذه حدثت قبل ثلاث سنوات ولكنها تحدَّد حتى يومنا هذا الإحداثيات والخطوط العريضة لخوض النقاشات. وفي ذلك الوقت كان يبدو أنَّ لون بشرة المتَّهم لم يكن مهمًا. ولكن بالنظر إلى الخلف نلاحظ أنَّ هذا ملفت للنظر. وذلك لأنَّ توجيه اتهامات معاداة السامية إلى الأشخاص غير البيض بات الآن نمطًا متكرِّرًا.
صدفة أم عنصرية؟
وحدث في عام 2022 شيءٌ مشابه لبونافنتورا نديكونغ، وهو من الكاميرون أيضًا. فقد مثَّل محتوى منشوراته -أو كاد يمثِّل- على موقع فيسبوك حول حرب غزة في عام 2014 سببًا للقضاء على مستقبله المهني.
وبونافنتورا نديكونغ يعيش منذ عقود في برلين وكان قد تم تعيينه وقتئذٍ للتو رئيسًا جديدًا لبيت ثقافات العالم، ومقره في برلين. وعلى الرغم من الانتقادات الصاخبة تخلى السياسيون في ذلك الوقت عن إقالته من منصبه على الفور. ولكن تم تحذيره. ومن المثير للانتباه أنَّنا لا نسمع سوى القليل من بيت ثقافات العالم حول الصراع الحالي 2023 في الشرق الأوسط.
وإذا كان الأشخاص الفاعلون غير البيض أقل شهرة أو أقل حذرًا من بونافنتورا نديكونغ فإنَّ فرصتهم للتصدِّي لاتهامات معاداة السامية تكون ضئيلة. تم إلغاء حفل منح جائزة ليبِراتور LiBeratur الأدبية للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي -الذي كان من المفترض أن يتم في معرض فرانكفورت 2023 للكتاب وكذلك تم إلغاء الخطاب الذي كانت ستلقيه فيه- وذلك من دون التشاور مع هذه المؤلفة، وجاء هذا الإلغاء لأنَّ أقلية قليلة من نقَّاد الأدب قالوا إنَّهم اكتشفوا في روايتها كليشيهات معادية للسامية.
لقد كان ذلك في منتصف شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. والآن بعد نحو ستة أسابيع، لن تحصل الكاتبة شارون دودوا أوتو -المنحدرة من غانا وتعيش في برلين- على جائزة بيتر فايس الممنوحة لها من مدينة بوخُوم الألمانية. فبعد أن تحوَّل توقيعها على عريضة لمقاطعة إسرائيل من عام 2015 إلى فضيحة قرَّرت التنازل عن الجائزة واعتذرت. وقد رحَّب كتَّاب الصفحات الثقافية بذلك.
مستهدَفون من صائدي معاداة السامية
وحتى في عام 2019 عندما تم منح الكاتبة الباكستانية البريطانية كاميلا شمسي جائزة نيلي ساكس -من مدينة دورتموند الألمانية- قرَّرت هيئة التحكيم التراجع عن قرار منحها الجائزة بسبب اتهامها بدعم حركة مقاطعة إسرائيل وذلك بعد وقت قصير من الإعلان عن فوزها بهذه الجائزة. ومثلما حدث في حالة شارون دودوا أوتو فقد تم إطلاق الاتهامات الموجَّهه إلى كاميلا شمسي من خلال موقع إلكتروني معروف بمواقفه المعادية للإسلام والمسلمين. وهؤلاء المتهَمات هن بالذات ثلاث نساء بشرتهن ليست بيضاء وكما أنهنَّ غير ألمانيات: فهل هذه صدفة أم عنصرية؟
والحالة الأكثر شهرة كانت حالة المؤلف والناقد الفنِّي الهندي رانجيت هوسكوت الذي كان عضوًا في لجنة الاختيار من أجل معرض دوكومِنتا الدولي للفنون في مدينة كاسل الألمانية. فبعد أن اتهمته مرة أخرى صحيفة زود دويتشه تسايتونغ بالتوقيع على عريضة لمقاطعة إسرائيل (هذه المرة ضمن سياق هندي) طالبته إدارة معرض دوكومنتا بتقديم توضيح. ورانجيت هوسكوت الذي يعتبر أحد أهم المثقَّفين الهنود - لم ينتظر طويلًا ليعلن استقالته من اللجنة في رسالة رائعة وتستحق القراءة.
واستقال بعد ذلك باقي أعضاء اللجنة أيضًا. وقالوا في إعلانهم المحزن إنَّ "ألمانيا لا توجد فيها حاليًا مساحة لتطوير الأفكار الحرة". وهذا المعرض الفنِّي الذي كان يحظى سابقًا بشهرة عالمية أصبح مهدَّدًا بالسقوط إلى المستوى الإقليمي. وأصبحت تنتشر بالفعل فكرة إخضاع ألمانيا لمقاطعة ثقافية.
وهذا يأتي مناسبًا لليمينيين الجديد الذين يرغبون في رؤية بلدنا ألمانيا قد أصبحت أكثر إقليمية. لقد كان حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي أوَّل جناح برلماني بادر في عام 2019 إلى إصدار قرار البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاغ) الخاص بحظر حركة مقاطعة إسرائيل. والآن أصبحت أحزاب البوندستاغ الأخرى (باستثناء اليسار) متفقة في هذه المسألة.
اليهود متضرِّرون بشكل خاص
ويتضرَّر من الإلغاءات والرفض والإدانات باسم مكافحة معاداة السامية أيضًا وبشكل خاص أشخاص فاعلون يهود. فقد تم رفض تقديم المزيد من التمويل العام لمركز عيون الثقافي في منطقة نويكولن ببرلين -وهو مركز التقاء رئيسي لمشهد المهاجرين البديل- وذلك لأنَّه كان قد وضع مقره تحت تصرُّف جمعية "الصوت اليهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط". واعتبر ذلك وزيرُ الثقافة في حكومة ولاية برلين جو تشيالو "معاداةً خفيةً للسامية"، لأنَّ جمعية "الصوت اليهودي من أجل السلام العادل" قد تجرَّأت على رفض الصهيونية.
وهناك شخصيات يهودية أيضًا تم وصمها كثيرًا بأنَّها معادية للسامية وتم إلغاء فعالياتها. فقد تم إلغاء معرض للفنَّانة اليهودية الجنوب أفريقية كانديس بريتز في متحف سارلاند بمدينة ساربروكن الألمانية "بسبب تصريحات مثيرة للجدل حول حرب غزة".
وقامت الوكالة الاتحادية للتعليم السياسي بتأجيل ندوة حول ثقافة التذكير وإحياء الذكرى كان من المقرَّر إقامتها في بداية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2023 إلى أجل غير مسمى. وضحايا إلغاء هذه الندوة هم: الفنَّانة كانديس بريتز والباحث الأمريكي في شؤون المحرقة مايكل روثبرغ والعديد من الباحثين والأكاديميين الآخرين.
وأخيرًا يستحق الذكر ضمن هذا السياق عازف البيانو السياسي إيغور ليفيت الذي ورد في الإعلان عن نشر كتابه "بيت الموسيقى" من عام 2021 أنَّ "عمله يتجاوز الموسيقى: فهو يرفع صوته ضدَّ العنصرية ومعاداة السامية وكلّ شكل من أشكال كراهية البشر".
وفي التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 رفع صوته ضدَّ الكاتبة اليهودية الأميركية ديبورا فيلدمان التي تعيش في برلين، واصفًا إيَّاها بأنَّها "مدرسة قديمة معادية للسامية من بروكلين".
كيف يمكننا في ألمانيا فعل ذلك بشكل أفضل
وفي حين يتم في هذا النقاش استهداف نساء وأشخاص غير بيض ويهود بشكل متزايد فقد كان آخر رجل أبيض بارز تم اتهامه على نطاق واسع بمعاداة السامية هو السياسي الألماني هوبرت أيفانغَر. وكان ذلك قبل السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023، ولم يتم إلغاء هوبرت أيفانغَر - بل على العكس من ذلك. فقد حصل حزبه "الناخبون الأحرار" على نسبة 15.8 بالمائة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة بولاية بافاريا، وهي أعلى نسبة حققها على الإطلاق.
وتم تعيين هوبرت أيفانغَر للمرة الثانية نائبًا لرئيس وزراء ولاية بافاريا، وهو يُفكِّر في فكرة أن يخوض ممثِّلون عن حزبه الانتخابات على المستوى الاتحادي. وها هو آخر رجل ألماني أبيض واجه هذه الاتهامات ووصل إلى قمة حياته المهنية في ذروة المعركة الألمانية ضدَّ معاداة السامية.
يجب أن يكون واضحًا أنَّ شيئًا ما يجري بشكل خاطئ هنا. إذ إنَّ الصيغ المُتَّبعة حتى الآن لا يمكن من خلالها مكافحة العنصرية ومعاداة السامية معًا. وبدلًا من التباكي على ذلك: إليكم فكرة تعود إلى بونافنتورا نديكونغ. وكما أوضحنا فإنَّ معظم الاتهامات بمعاداة السامية مبنية على وجود "صلة بحركة مقاطعة إسرائيل". والفكرة الآن تقول: من الصحيح اتخاذ موقف ضدَّ مقاطعة إسرائيل ولكن يجب التخلي عن مقاطعة المقاطعين أو الأشخاص المقرَّبين من حركة المقاطعة.
ولا بدّ من كسر دائرة المقاطعة المتبادلة. وضمن هذا السياق لا بدّ من إعادة تأهيل "مبادرة الانفتاح على العالم GG 5.3" المكوَّنة من مؤسَّسات ثقافية وعلمية وقد تعرَّضت مؤخَّرًا لانتقادات كثيرة ولكنها تبقى واقعية. فهي ترفض حركة مقاطعة إسرائيل ولكنها تعارض أيضًا مقاطعة المقاطعين.
ما من شكّ في أنَّ هذا يتطلب الكثير من الانضباط الذاتي من جانب المؤسَّسة السياسية الألمانية الحالية ووسائل الإعلام التابعة لها. أمَّا توجيه أصابع الاتهام إلى أشخاص مختلفي الشكل ومختلفي الرأي فهو وسيلة لاكتساب الشعبية. ولكن مع ذلك إذا كان يجب ألَّا تكون مكافحة معاداة السامية والعنصرية معًا مجرَّد عبارة فارغة، فمن الأفضل التخلي عنها.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
شتيفان فايدنَر كاتب وباحث ألماني مختص في العلوم الإسلامية. صدر له مؤخرًا لدى الوكالة الألمانية الاتحادية للتعليم السياسي كتابٌ تحت عنوان: "المنطقة صفر - الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر"، عن دار نشر هانزَر، ميونِخ، سنة 2021.