"فكرة الإسلام الألماني ليست بدعة ولا انحرافة غريبة"
تتولى الكنيسة في الديانة المسيحية وضع قواعد وأحكام واضحة ولكنها صارمة في بعض الأحيان. أمَّا في الإسلام -وخاصة لدى المسلمين السُّنة- فلا توجد مثل هذه السلطة المركزية. ولهذا السبب فإنَّ الأئمة المحليين يمثِّلون بالنسبة للمؤمنين أوَّل جهة يمكنهم الاتصال بها إذا كانت لديهم أسئلة واستفسارات أو شكوك من أي نوع. وهم ليسوا مجرَّد أئمة للصلاة فقط بل إنهم أيضًا مرشدون روحيون ومستشارون وموجِّهون ووسطاء ثقافيون. وبالتالي فإنَّ تأثيرهم على المؤمنين كبير أيضًا.
وحتى الآن كان يعمل وبشكل حصري تقريبًا في المساجد الألمانية -البالغ عددها نحو ألفين وخمسمائة مسجد- أئمة تعلموا وتخرجوا في الخارج ونشأ معظمهم هناك أيضًا. والآن قد يتغيَّر ذلك – بفضل تعليم الأئمة وتخريجهم في ألمانيا. والشاب إندير تشِتين هو إمام من بين ستة وعشرين إمامًا مسلمًا حصلوا في أوَّل دفعة تخريج أئمة على شهادة إمام من معهد الإسلام الألماني في مدينة أوسنابروك في شهر أيلول/سبتمبر 2023.
وفي هذا الحوار يشرح لموقع قنطرة لماذا وصفت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فايزر تعليم الأئمة في ألمانيا بأنَّه "نقلة نوعية في طريق الاندماج" وكيف يبدو تقبُّل الأئمة الجدُد لدى الجالية المسلمة وكيف يمكننا مواجهة الأئمة الذين نصَّبوا أنفسهم أئمة وباتوا ينشرون رسائل متطرِّفة في وسائل التواصل الاجتماعي.
السيِّد إندير تشِتين أنت أحد خرِّجي الدفعة الأولى من الأئمة الذين تعلموا في ألمانيا. فما هو أكبر فرق بينك وبين إمام تخرَّج من تركيا؟
إندير تشِتين: من أكبر الميِّزات أنَّنا نعرف واقع الحياة في هنا ألمانيا. وأوَّل مَنْ يستفيد من ذلك زوَّار المسجد الذين يتوجَّهون إلى أئمتهم باستفسارات وأسئلة وشكوك - بعضها أيضًا ذات طبيعة عملية جدًا. ونحن نفهم لغتهم ودارجتهم العامية ومزاجهم ومشاكلهم. ولكن في بعض الحالات قد يكون من المنطقي أيضًا إحضار أئمة من الخارج.
أئمة ليبراليون ولكنهم تابعون
متى على سبيل المثل؟
إندير تشِتين: توجد مساجد تعتبِر نفسها أيضًا جمعيات ثقافية تحافظ على اللغة والثقافة التركية. ومن المنطقي هنا دعوة إمام من البلد الأصلي. ولذلك يجب أن توضع دائمًا بعين الاعتبار احتياجات كلّ من جمعيات المساجد على حدة. كما أنَّ التعليم في تركيا غالبًا ما يكون أطول ومُعمَّقًا أكثر. بالإضافة إلى أفضل قارئي القرآن الذين يستطيعون تلاوة القرآن وتجويده بشكل خاص.
كثيرًا ما يُتهَّم الأئمة الأجانب بأنَّهم ينشرون هنا في ألمانيا رؤية محافظة عن الإسلام.
إندير تشِتين: هذا يتعلق بالمساجد والجماعات المحلية. ومع ذلك من المؤكَّد أنَّ هؤلاء الأئمة يجب عليهم الالتزام بمهام معينة. لقد عملتُ بنفسي في أكبر منظمة تركية جامعة في ألمانيا، هي الاتحاد التركي الإسلامي "ديتيب" DITIB. ومعظم الأئمة الذين تعرَّفتُ عليهم هناك كانوا يفسِّرون النصوص تفسيرًا معاصرًا جدًا.
ولكنهم لم يجرؤوا بعد ذلك على نقل هذه التفسيرات في خطبهم. وعندما كنت أسألهم عن السبب، كانوا يقولون إنَّ: جمهور المسجد لن يفهم ذلك - وفي أسوأ الأحوال يمكن للسلطة الدينية في البلد الأصلي أن تفصلهم من عملهم أو تنقلهم إلى جمهور مسجد أخرى.
لقد حصلت على شهادتك في شهر أيلول/سبتمبر الماضي 2023. ماذا حدث منذ ذلك الحين؟
إندير تشِتين: عمليًا لم يتغيَّر أي شيء في حياتي. فأنا ما أزال أعمل كمرشد روحي في السجن وأذهب إلى المدارس من أجل مشروع "لقاء للاحترام" Projekt Meet2Respect. وأقف هنا في هذا المشروع مع زميل حاخام أمام الطلاب لتلقي الأسئلة والإجابة عليها. ولكنني أشعر بثقة أكبر الآن لأنَّني إمام مُعْتَمَد ومتعلم.
كيف يبدو الوضع الوظيفي لدى الأئمة الآخرين المتخرِّجين في دفعتك؟
إندير تشِتين: يتساءل الكثيرون منهم كيف ستسير الأمور الآن. توجد حاجة كبيرة للمرشدين الروحيين المسلمين في المستشفيات وفي السجون وكذلك في الجيش الألماني. ولكن لا توجد عروض عمل بعد. صحيح أنَّنا قد حصلنا جميعنا الآن على شهادة إمام ولكن ما يزال بعضنا يعملون في وظائفهم السابقة: في مدراس أو كموظفين في المطار. وهذا ليس ما كنا نتمناه.
قالت وزيرة الداخلية نانسي فايزر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 إنَّ الهدف هو التخلي عن الأئمة المرسلين من الخارج و استبدالهم بشكل تدريجي.
إندير تشِتين: السؤال هو: من يدفع لهؤلاء الأئمة؟ لا توجد في ألمانيا ضريبة للمساجد مثل ضريبة الكنيسة. فجمعيات المساجد تفتقر إلى الموارد المالية اللازمة وغالبًا ما يكون العمل التطوعي هو الاحتمال الوحيد. ولكن ثمة أمل في التمكُّن من تمويل الأئمة العاملين بدوام كامل ودفع أجورهم من خلال مشاريع. أو تأسيس جمعية مركزية يمكن من خلالها توظيف الأئمة.
يخشى بعض المسلمين من "إسلام الدولة الألماني". فهل يتم تقبُّلك كإمام تعلم هنا في ألمانيا؟
إندير تشِتين: أنا أسمع هذا أيضًا لدى جماعتي الناطقة بالتركية: "نعم، بطبيعة الحال الدولة لا تريد المزيد من الأئمة القادمين من تركيا، بل تريد خلق إسلامها الخاص". غير أنَّني لا أجد فكرة فهم الإسلام المتأثِّر بالثقافة الألمانية فكرة منحرفة.
تمييز الدين عن الثقافة
هل يمكنك أن تشرح لنا ذلك بشكل أدق؟
إندير تشِتين: الثقافات لها تأثير على الدين. ولذلك يمكننا الحديث عن إسلام تركي ومغربي وفارسي وإندونيسي. والمشكلة هي أنَّ القيم الثقافية غالبًا ما يُساء فهمها باعتبارها من الدين – مثل القيود المفروضة على النساء.
وهذا يتعلق بالقيم التقليدية التي يتَّضح -عند النظر إليها بدقة- أنَّ لا علاقة لها بالدين. ولذلك من الممكن جدًا أن يتطوَّر فهم جديد للإسلام هنا في ألمانيا ومن شأنه أن يكون في البداية جديدًا على الظروف التركية والعربية ولكنه مع ذلك يمكن أن يكون له أساس وشرعية من المصادر الفقهية. والمهم فقط أن ينشأ هذا "الإسلام الألماني" من خلال نقاشات بين المسلمين وألَّا يُفرض بطريقة ما من الأعلى.
متى قرَّرت شخصيًا أن تصبح إمامًا؟
إندير تشِتين: واجهتُ في البداية أزمة هوية. وكنت أتساءل في فترة المراهقة: لمَنْ اِنتمائي؟ هل أنا مسلم أم لا؟ ومَنْ أنا وماذا أكون في الواقع؟ لم تكن أسرتي متديِّنة جدًا. ولكنني كنت أشعر بضغط في مجتمع الأكثرية: إذ يجب علينا الاندماج ولكننا في النهاية لا ننتمي للأكثرية. وهذا أثار لدي الشعور بأنَّني يجب أن أدافع عن شيء ما. وهكذا فقد بدأتُ أصبح في سنّ السابعة عشرة متدينًا أكثر.
تأهيل الأئمة لإسلام من أجل ألمانيا
هل تتمكن ألمانيا من توطين الإسلام فيها، بحيث يشعر مسلموها بأنهم مقبولون مع دينهم وأنهم إثراء لهذا البلد الأوروبي؟ سيدا سردار وَ ديغر أكال والتفاصيل.
التدين كاحتجاج
كيف تجلى ذلك؟
إندير تشِتين: في البداية فقط في سلوكي المعتاد: فقد كان الكحول مُحَرَّمًا وبدأت أصلي خمس مرات في اليوم. وكنت صارمًا جدًا مع نفسي. وفكَّرت على سبيل المثال أنَّني يجب أن أصلي جميع الصلوات التي لم أؤدِّيها عندما كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري. ولكنني لست نادمًا على هذه الفترة.
كثيرًا ما يُصنِّف المجتمع الألماني مثل هؤلاء الشباب كمتطرِّفون ولكنَّني أرى أنَّ هذا التطوُّر مهم حتى يستمر نضوج الشاب ويدرك بنفسه النقاط التي ربَّما كان مخطئًا فيها في الماضي.
لقد كان ذلك مختلفًا بالنسبة لي في فترة شبابي. فقد تمرَّدنا من خلال اتخاذنا موقف معارض للمجتمع. لماذا يختار الشباب المسلمون الطريق المحافظ؟
إندير تشِتين: لأنَّ الاتجاه السائد في المجتمع اتجاه غير ديني. وعندئذ يصبح الدين وسيلة من أجل التميُّز عن مجتمع الأكثرية. والمهم أوَّلًا بالنسبة لشاب مراهق ليس كونه جيِّدًا أم سيئًا بل أن يكون شخصًا على الإطلاق، وأن يلاحظ المجتمع وجوده.
وعندما يكون الإسلام هو الشر بالنسبة لمجتمع الأكثرية، فعندئذ فقط يكون المرء "مسلمًا" صحيحًا ويشعر بأنَّه قوي وخطير. في السابق كان "الأجنبي" -حتى لو وُلِدَ ونشأت هنا في ألمانيا- ما يزال في نظر مجتمع الأكثرية شخصًا غامضًا وربَّما خطيرًا، أمَّا الآن فقد أصبح يُنْظَر هذه النظرة في المقام الأوَّل إلى المسلم.
أئمة التيكتوك - إجابات في مقاطع فيديو مدتها عشر ثوانٍ
هل يصبح التطرُّف أقل حينما لا توجد أحكام مسبقة لدى مجتمع الأكثرية؟
إندير تشِتين: نعم، أنا أعتقد أنَّ المهاجرين سيكونون عندئذ أيضًا وعلى نحو متناقض أقل تديُّنًا. وسيرتدي الحجاب عدد أقل من النساء وسيذهب إلى المساجد عدد أقل من الناس.
أنت تتحدَّث عن وجود نوع من هوية احتجاجية لدى العديد من الناشئين والشباب. فهل يستغل ذلك الإسلاميون أيضًا من أجل تجنيد أتباع جدد؟
إندير تشِتين: هذا هو الشيء المحزن في الأمر. ويستغل الاهتمام بالدين أيضًا أئمة نصَّبوا أنفسهم على تطبيق تيك توك حيث ينقلون على قنواتهم صورة مشوَّهة تمامًا عن الإسلام وينشرون رسائل فظة. ويوجد لدى بعضهم عشرات الآلاف من المتابعين.
ماذا يقولون هناك مثلًا؟
إندير تشِتين: سألني ابني مؤخرًا ما هو رأيي في احتفاله بعيد ميلاده مع أصدقائه غير المسلمين. وقال إنَّ إمامًا على تطبيق تيك توك قد ادَّعى أنَّ هذا مخالف للدين. وأئمة التيك توك يقدِّمون على مثل هذه الاستفسارات والأسئلة اليومية إجابات قصيرة وبسيطة يمكن إعدادها في مقاطع فيديو مدتها عشر ثوانٍ.
وهم يتحدَّثون لغة الشباب ولكنهم ينقلون رسائل تعود إلى عصر مختلف. ومن ذلك مثلًا أنَّ المسلم لا يجوز له أن يتَّخذ من المسيحيين واليهود أصدقاء. وهم يستندون في ذلك إلى آيات من القرآن ينتزعونها من سياقها. وقنوات كهذه –مثل قناة "جيل الإسلام"– تقف أيضًا خلف المظاهرات التي يُطالب فيها بإقامة خلافة جديدة – وهذا أمر في غاية التطرُّف؛ ويجب أن يجعلنا نُفكِّر.
المسلمون تحت ضغط التبرير
وهل يصبح ذلك أسوأ الآن؟
إندير تشِتين: نعم. ومن الأسباب المهمة أنَّ المسلمين وخاصة الفلسطينيين يتعرَّضون الآن لاشتباه عام. وعندما يُعبِّر شخص ما عن تضامنه مع فلسطين، يقولون له: "أنتم على أية حال جميعكم معادون للسامية". والكثيرون لا يرغبون في التعرُّض لهذا الضغط الذي يريد إجبارهم على تبرير أنفسهم. وردًا على ذلك فهم يتَّخذون موقفًا متطرِّفًا.
ماذا يمكننا أن نفعل لمواجهة ذلك؟
إندير تشِتين: لقد كنتُ فكرتُ مرة في سبب سهولة الوصول إلى الناشئين والشباب بهذه الأسئلة: هل يجوز لي أن أتَّخذ من شخص ملحد صديقًا؟ وهل يجوز لي حلق شعري أصلع؟ وهل يجوز لي أن أتعالج عند طبيب يهودي؟
لم يطرح أبناء جيلي هذا النوع من الأسئلة. وأعتقد أنَّهم كانوا في الواقع يهتمون بسؤال مختلف، هو: كيف يمكنني أن أعيش كمسلم في ألمانيا؟ وكيف يمكنني أن أجد مكاني في المجتمع الألماني عندما لا تعود لديَّ أية صلة ببلدي الأصلي ولا أشعر أيضًا بأنَّني مقبول حقًا هنا؟
هؤلاء الناشئون والشباب يريدون ببساطة أن يشعروا بالاندماج والانتماء. وهذا شيء إيجابي ولكن يجب علينا أن نأخذ أسئلتهم على محمل الجد ونقدِّم لهم أجوبة مُقْنِعَة.
وتجميع هذه الأجوبة في مقاطع فيديو مدتها عشر ثوانٍ على تطبيق تيك توك.
إندير تشِتين: هذا سيكون بالتأكيد التحدي الأكبر. (يضحك).
حاوره: تيسيو لا ماركا
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024