حقائب التسوق بدلا من لافتات الاحتجاج في ميدان تقسيم
يقول طالب المحاسبة ليفانت الذي يعيش مع والديه في حي بيرم باشا في اسطنبول "لم أستنشق في حياتي قبل ذلك الغازات المسيلة للدموع". ويضيف الطالب البالغ من العمر 20 عاما: "لكني لم أستطع أن أشرح لوالدي ما رأيته في متنزه غازي. سمعوا من التليفزيون أن كل من كانوا هناك من الإرهابيين. كان لدي الكثير لأحكيه لهم ومقاطع فيديو عديدة على اليوتيوب أريها لهم".
مثل هذه المقابلات هي التي أعطت المزيد من الثقل لكتاب "تقسيم في كل مكان" للصحفي دينس يوتشل ليصبح أكثر من مجرد تصوير لما حدث في صيف عام 2013 الاستثنائي الذي شهدته تركيا. قدم الصحفي البرليني المنحدر من أصول تركية ماراثوناً عبر المجتمع التركي إذ أجرى خلال إعداده للموضوع 96 مقابلة مع شخصيات تنوعت بين مشجعي كرة قدم ومديرات وأكراد وإسلاميين ومتحولين جنسيا وبائعي كباب. إنهم أناس يعكسون صفات أحياء متنوعة ومدن وأوساط معينة وبالتالي يقدمون صورة متكاملة لما يُقال بأنهم كانوا أكثر من 3.5 مليون متظاهر في متنزه غيزي.
وجوه متنوعة للمقاومة
سريعا ما تتضح في الكتاب الدوافع المختلفة التي أدت آنذاك بين ليلة وضحاها لاندلاع أكبر تظاهرات احتجاجية في التاريخ التركي الحديث. البعض جاء لإنقاذ الأشجار في متنزه غيزي أو لاستعادة جمهورية أتاتورك في حين أراد البعض الدفاع عن الإسلام "الحقيقي ضد الإسلام الذي يعتبرونه "زائفاً" والذي يقدمه رئيس الوزراء إردوغان، وفقا لرأيهم.
لكن البعض مثل أوغوز المنحدر من حي غيزي الفقير الذي يعد معقلا لليسار المتطرف، جاءوا إلى هنا ليفعلوا ما يفعلونه دائما وهو المقاومة. يقول أوغوز في كتاب يوتشل: "لا يوجد من يولي اهتماما كبيرا بالأشجار عندنا. مشاعر العدالة هي الأهم بالنسبة لنا فالشرطة تتعامل بعنف مع الناس والشعب يقاوم".
خلال جولة عبر ميدان تقسيم في شباط/ فبراير 2014 يقول الكاتب: "رغبت في الحكي عن هؤلاء الناس. من أين جاءوا وكيف يعيشون وكيف يريدون العيش". وأثناء محاولة اكتشاف كل هذه الأمور ووصفها، يبقى يوتشل ككاتب محايد قلما يظهر في الصورة وقليلا ما يقوم بالتقييم. يتخذ الكاتب خطا واضحا ويظهر إعجابه بما حدث الصيف الماضي في وطن والديه من خلال اختيار الشخصيات التي أجرى معها حوارات والمشاهد التي صورها في كتابه.
غياب الخط الفاصل
من يقف على مسافة واحدة من الأحداث أو ينتظر تقريرا محايدا من كتاب "تقسيم في كل مكان" فمن الأفضل ألا يطلع على هذا الكتاب، فدينس يوتشل في قلب الأحداث تماما مثل الأشخاص المتنوعين الذين زارهم وأجرى معهم مقابلات في الأشهر التي أعقبت الاحتجاجات. وتحول الصحفي إلى مشارك يتحرك في دوائر معينة ويعبر عن آراء محددة ويحاول مع الآلاف تفادي رشاشات المياه وقنابل الشرطة المثيرة للدموع وهو أمر يمكن للمرء أن ينتقده.
لكن يمكن أن يرى المرء في ذلك توضيحا لسبب القرب الشديد لهذا الكتاب من أحداث غيزي بشكل أكبر من أي تقرير موضوعي. وبعد أكثر من تسعة أشهر تفصلنا على الأحداث وصدور كتاب مكون من 224 صفحة يقول يوتشل: "لم يكن الأمر مجرد مظاهرة بل كان انتفاضة اجتماعية. عملت كصحفي لكن تعاطفي كان بالطبع مع هذه الحركة".
مظاهر خادعة
يخلو ميدان تقسيم اليوم من أي آثار للتوتر والعنف الذي شهده آنذاك فالمتجولون في الميدان ومنذ فترة طويلة عادوا لحمل حقائب التسوق بدلا من لافتات التظاهر كما يتجول بائعو السميط بالسمسم حاملين بضاعتهم التي تفوح منها الرائحة الطيبة. وفي متنزه غيزي المجاور تزدهر أزهار البنفسج التي زرعتها إدارة المدينة وكأن شيئا لم يحدث. دينيس يوتشل ليس الوحيد المتأكد أن هذه المظاهر كلها خادعة.
يسأل يوتشل في كتابه أحد الشباب عما إذا كان ما كتب عن متنزه غيزي كافيا. لكن الشاب الذي شارك في المظاهرات والذي يحلم بتدوين مشاهداته في يوم ما ينفي الأمر قائلا:"لا مطلقا".
"تخلى جيلي عن سلبيته. في الماضي كنا نتحدث فقط عن كرة القدم والحفلات أما الآن فنحن نتكلم عن السياسة (...). وبغض النظر عما سيحدث في المستقبل فإن كل حكومة ستسأل نفسها مستقبلا قبل كل خطة: ماذا سيقول الشعب عن الأمر؟ وعندما يرى الناس أن شيئا خاطئا يحدث فإنهم سيقاومون. الأمر كان مختلفا على كلا الجانبين في الماضي".
تاريخ اليسار التركي والأقلية الأرمنية ووضع المثليين والمتحولين جنسيا والأكراد والجيش ومشكلة الاستطباق في اسطنبول (حلول الأثرياء محل الطبقات المتوسطة في بعض الأحياء). كل هذا وأكثر يتعرف عليه قارئ كتاب يوتشل الذي يستحق القراءة والذي يقدم نظرة متنوعة لكل الأشياء التي تجعل من تركيا الحديثة مثارا للاهتمام ولكن في الوقت نفسه مصدرا لإشكاليات.
يسأل القارئ نفسه في بعض الأحيان عما إذا كان الكاتب قد ابتعد كثيرا عن نقطة انطلاقه الأساسية وهي ميدان تقسيم وأعطى الكثير من المعلومات التي لا يستوعبها كثيرا القارئ غير المتخصص والذي لا يعرف الكثير عن الوضع السياسي في تركيا.
لويزا زامان
ترجمة: ابتسام فوزي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014