هدم المجتمع المدني اللبناني لِـ "جدار برلين" البيروتي
لنحو 24 عاماً، كان على المواطنين اللبنانيين ألا يكونوا لبنانيين كي يدخلوا أكبر متنزه وغابة للصنوبر في عاصمة بلادهم بيروت. وبالتحديد، قبل السادس من يونيو/ حزيران من عام 2016. فلم يكن التنزه في حرش بيروت - أكبر مساحة خضراء في العاصمة - مسموحاً إلا للغربيين وأصحاب العلاقات الوطيدة مع ذوي النفوذ. لكن الأمر لم يكن دائماً كذلك، كما يتذكر زياد الحُرلي، وهو محام من بيروت يبلغ من العمر 30 عاماً. ففي يوم من أيام عام 1992، قام والده بقيادة السيارة من حي رأس النبعة إلى الحرش. كان ذلك في بداية عصر ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، وكان البيروتيون آنذاك يبدأون في التحرك بحرية مجدداً في أرجاء المدينة دون خوف من الحواجز القاتلة والقناصة الذين لا يرحمون. يقول الحرلي: "لم يكن هناك سياج حول المتنزه ... كانت الطرق موحلة ولم يكن هناك عشب في كل مكان. لكن رغم ذلك كان ذلك جيداً لأنه كان بإمكاننا اللعب، بينما كان آباؤنا وأمهاتنا يتنزهون تحت أشجار الصنوبر". موقع حساس في السادس من يونيو/ حزيران 2016، تم رفع حظر على الحرش دام 24 عاماً، وتمكن زياد الحرلي أخيراً من دخوله مجدداً واسترجاع شريط ذكرياته هناك. كانت هذه المساحة الخضراء المثلثة تقع على طول خطوط المواجهة الفاصلة بين حي عين الرمانة المسيحي وحيي رأس النبعة وطريق الجديدة السنيين والضاحية الجنوبية الشيعية.
هذا ويقول البعض إن موقع المتنزه الحساس هذا كان السبب وراء إغلاقه عام 1992. كما أن وجوده على تقاطع ثقافي وديني لا يشكل ميزة في مجتمع مقسم مثل المجتمع اللبناني، حيث يتم تعريف كافة التفاعلات السياسية والاجتماعية بحسب الانتماء الطائفي. لكن برغم ذلك، كان الناشطون المجتمعيون يعترضون بقوة على فرضية أن موقع المتنزه يمكن أن يقود إلى صراع طائفي. حول ذلك يوضح محمد أيوب، المدير التنفيذي لمنظمة "نحن" غير الحكومية التي قادت الحملة لإعادة فتح الحرش: "الحرش هو المكان الأمثل لمنتمي الطوائف المختلفة كي يتواصلوا ويختلط بعضهم مع بعض". ويتابع أيوب بالقول: "أحد أهدافنا في منظمة نحن هي الترويج للترابط الاجتماعي في المجتمع اللبناني. نحن بحاجة إلى فضاءات عامة وجسور ثقافية من أجل رعاية الاندماج الاجتماعي. والحرش يعتبر أحد تلك الجسور، فهو يوفر للناس مساحة ضرورية كي يلتقوا ويتحدثوا. هذا النمط من التواصل هو ما يروج للصحة العقلية والنفسية لدى المجتمع بأكمله". لكن إقناع بلدية بيروت بأن للمساحات العامة دوراً بنّاءً في مجتمعات ما بعد الحرب لم يكن أمراً سهلاً، فإعادة فتح الحرش كان ثمرة خمس سنوات من التخطيط الدقيق والدؤوب، من خلال عقد ورشات عمل وتنظيم احتجاجات وممارسة ضغط على البلدية والتفاوض مع الأطراف المعنية. اختبار "الشُقرة" حتى بعد إعادة فتح الحرش أمام العامة، فإن بواباته مفتوحة للبنانيين فقط خلال الأسبوع بين الثامنة صباحاً والثانية بعد الظهر. وإذا ما كنت تحاول المرور من مدخل المتنزه أثناء مساء صيفي حار، فإن الحراس الذين يرتدون زياً زيتوني اللون سيقومون بكل صفاقة بتحديد ما إذا كنتَ "أشقرَ" بما فيه الكفاية. وبينما يجلسون بكل خمول على كراسيهم المتناثرة تحت ظلال أشجار الصنوبر الطويلة، لا يسمح الحراس لأي أحد يرسب في "اختبار الشُقرة" بالدخول.
أثناء عطلة نهاية الأسبوع، تمتد ساعات فتح المتنزه إلى السابعة مساء، بينما يقوم الحراس بدوريات في دروبه الضيقة داخل عربات مصفحة ضخمة. في العام الماضي 2015، تبرعت منظمة غير حكومية بعدد من الدراجات الهوائية لطاقم الحراسة، ولكن الحراس لا يبدو أنهم مهتمون بتلك الدراجات. وبالفعل، يمكن رؤية تلك الدراجات ترزح تحت أكوام من الغبار قرب مدخل الحرش. يسمى حرش بيروت أيضاً بـ"جدار برلين"، وهو الاسم الذي منحته جوانا حمور، التي تبلغ من العمر 34 عاماً، للسياج الذي يفصل بين الجزء الجنوبي من المتنزه – الواقع تحت سيطرة القوات الشيعية – والجزء الشمالي الذي تسيطر عليه الحكومة. تقول جوانا، وهي عضوة في منظمة "نحن" ومسؤولة عن تنسيق المتطوعين صغار السن وعن توزيع المنشورات على زوار المتنزه في عطلة نهاية الأسبوع: "الجيل الأصغر من جيلي لم يكن يدرك أن هذه المساحة الخضراء كانت ملكاً للجمهور قبل إغلاقها في مطلع التسعينيات ... إذا ما عدنا بالزمن إلى الوراء، سنرى أن الحرش كان المكان المركزي في بيروت للاحتفال بالأعياد والمناسبات الرسمية، مثل عيد الفطر. لذلك، فإن هذا المكان كان معروفاً أيضاً باسم حرش العيد". تاريخ متقلب إن تاريخ الحرش يشبه تاريخ لبنان نفسه – فالجميع جاؤوا إليه وانتزعوا قطعة منه ومن ثم ذهبوا. وعلى مرّ قرون مضت، تم قطع أشجار الصنوبر لبناء السفن التي حملت جنود الحملات الصليبية. ثم جاء دور العثمانيين، الذين قرروا عام 1917 إزالة أشجار الصنور لبناء ملهى للقمار مكانها. أما الفرنسيون فقد كانت لهم مصالح أخرى وفضلوا بناء حلبة سباق على نفس الموقع. ففي عام 1921، تم إزالة المزيد من الحرش لبناء حلبة سباق للخيول. وفي أعقاب استقلال لبنان اندلعت الحرب الأهلية، التي كانت سبباً آخر لتراجع مساحة غابة الصنوبر، والتي ذكرها التاريخ عام 1696 بأنها كانت تشغل مساحة تقدر بـ1.25 مليون متر مربع، تقلصت إلى 300 ألف متر مربع عام 2016.
وعلى الرغم من كل هذه الخسائر، فإن النصر الذي حققته منظمة "نحن" في إعادة هذا الفضاء العام إلى سكان بيروت رفع من آمال حركة الحقوق المدنية الناشئة في لبنان. في هذا الصدد، يوضح غسان المصري، أحد الأعضاء المؤسسين للحملة الأهلية لحماية دالية الروشة في بيروت من الخصخصة: "هذه خطوات صغيرة تجاه أهداف أهم ... من خلال هذه الخطوات، بات الناس على دراية بالحاجة الماسة إلى التحرك من أجل المطالبة بحقوقهم. مطالبنا لا ترتبط فقط بدالية الروشة أو فضاءات عامة أخرى – نحن نقاتل ضد الفساد ومن أجل حقوقنا المدنية ومن أجل التغيير الاجتماعي".
منذ عام 2009، لم تُجر في لبنان أي انتخابات سوى الانتخابات البلدية، والتي أجريت في مايو/ أيار، والتي أبقت أصحاب السلطة التقليديين في أماكنهم. وفيما لا يستطيع النظام السياسي اللبناني الذي عجز طويلاً حتى عن اختيار رئيس للبلاد، تبنى الناشطون المدنيون طرقاً بديلة لإحداث تغيير في النظام الحاكم.
من جانبه، يشير محمد أيوب إلى أنه "من خلال حملة حرش بيروت، تمكننا من استحداث نموذج للتغيير في مجتمعنا ... استعادة الفضاء العام في بيروت هو تكتيك يهدف إلى تحقيق أهداف أكبر، ألا وهي إشراك مواطني بيروت فيما يحدث بمدينتنا". جنكيز م. فارزيترجمة: ياسر أبو معيلقحقوق النشر: موقع قنطرة 2016ar.Qantara.de