لماذا اليمن مفاجأة "الربيع العربي" غير المتوقعة؟
كان اليمن مفاجأة "الربيع العربي" غير المتوقعة... لماذا؟... لأن الدارج في التفكير العربي العام أن اليمن وإن كان قد تحرر من الحاكمية الإمامية فإنه لم يتحرر بعد من ذهنية الثقافة القبلية المُطبِقة على الأذهان والأعيان.
وليس عبد الله صالح، في التحليل الأخير، سوى بطريرك واقعية سحرية بدوية. إن اليمن، السعيد في أسطورة الماضي المجيد، تعيس في واقع الحاضر المعاش، حيث نعثر على كيان يتشبه بمظاهر مؤسسات الدولة المعاصرة فيما هي في الصميم خطيفة مرتهنة للصراعات القبلية وثقافتها في الغزو والسلب. ومن معطيات الغرائبية اليمنية أن حكام اليمن الجنوبي النخبويين الذين اعتنقوا الماركسية اللينينية في سبعينيات القرن الفائت لم يجدوا في الواقع الاجتماعي ما يبرر مفاهيمهم الإيديولوجية عن الصراع الطبقي. فلا برجوازية ولا بروليتاريا ولا إقطاع يُذكر بالمعنى الماركسي.
ففذلك قائد الحزب ومنظِّره (عبد الفتاح إسماعيل) صيغة مُبتدعة تفترض وجود صراع طبقي يدور بين ( البدوتاريا) وَ (الرعوتاريا). هذا في حين كانت النخبة الحزبية الماركسية الحاكمة تتلبّس انتماءاتها القبلية والجهوية في تنافسها على السلطة. ولذا عندما تحول التنافس السياسي على النفوذ السلطوي بين القادة الرفاق إلى صراع عنيف عام 1986 كشف عن احتراب بين (قبائل ماركسية) بدأت بمذبحة دموية على طريقة التصفيات المافيوزية داخل اللجنة المركزية للحزب أسفرت عن مقتل 58 عضواً من القيادات العليا ثم تحولت إلى حرب ضروس بالأسلحة الثقيلة بين على أساس هوية الانتماء القبلي. وبالنتيجة قُتل ما يزيد على ستة عشر ألف يمني خلال عشرة أيام فقط.
مملكة إمامية زيدية قروسطية ومَس من التحديث الاستعماري البريطاني
وإذا كان اليمن الجنوبي قد مسه التحديث العصري في عهدة الاستعماري البريطاني (1849 ـ 1967) في مستعمرة عدن تحديدا من حيث التعليم والعمارة العصرية والإدارة الحديثة والنشاط التجاري للتصدير والصناعات الخفيفة، فإن اليمن الشمالي كان واقعاً في قبضة سلاطين مملكة إمامية زيدية (1918 ـ 1962) قروسطية يواجهون باستمرار أئمة متنافسين يتداعمون بقبائل متناحرة.
وكان من أبرز وسائل الإمام الحاكم لإحكام سلطانه استخدام "نظام الرهائن" المعروف في العرف القبلي عبر (العصور) حيث كان الإمام-السلطان يطلب من كل قبيلة منضوية تحت سلطانه أن تقدم أحد أبرز أعيانها أو شيوخها أو واحداً من علية قومها رهينة في قصره كنوع من الضمان لاستمرار ولائها وعدم تمردها أو خروجها عن طاعته.
وبهذا كان لدى الإمام يحيى حوالي أربع آلاف رهينة، انخفض العدد في عهد الإمام أحمد إلى حدود ألفين رهينة عام 1955. وكان الإمام إذا ما اضطر لمغادرة اليمن في رحلات خارجية وزيارات لدول أجنبية يصطحب معه بعض أهم الرهائن كي يكفل أمن حكمه أثناء فترة غيابه.
وكان العرف نفسه تفرضه القبيلة أو القبائل المنتصرة على القبائل المنهزمة. وفي تسعينيات القرن الفائت سلك الكثير من القبائل والعشائر مسلك اختطاف الأجانب رهائن لديها للضغط على الدولة في سبيل تحقيق مصالح قبلية عامة كالمطالبة برصف طريق أو توصيل كهرباء أو شخصية مثل المطالبة بإطلاق سراح متهم بجريمة قتل أو حتى بجنحة عادية بسيطة إذا كان مرتكبها ذا وجاهة قبلية. أو لتوفير تعيينات لأفرادها في وظائف ومناصب حكومية.
وقد تصل في غرائبيتها حد المطالبة باسترجاع رخصة قيادة مسحوبة من صاحبها ذي الشأن القبلي لمخالفته قوانين المرور على سبيل المثال المبتذل. وقد وصلت حالات اختطاف الأجانب وأغلبهم سياح إلى أكثر من 350 حالة منذ بداية التسعينيات. وتبرز قبيلة بني ظبيان بمسؤوليتها عن نسبة 70% من عدد حالات الاختطاف المذكورة. والعديد من حالات الاختطاف التي قامت بها بني ظبيان كانت لصالح مطالب أشخاص أو جماعات من خارج القبيلة استنجدوا بها كأنها روبن هود. وقد أطلقت سراح كل رهائنها بعد تحقق مطالبها دون أن يمسوا بسوء.
ومعروف أن كثيرين من الرهائن الأجانب تحدثوا بإعجاب عن معاملتهم من لدن خاطفيهم معاملة الضيوف في منازلهم والبعض منهم اعتبر فترة خطفه مغامرة سياحية مذهلة. لكن هذه الظاهرة سببت لليمن خسائر بمليارات الدولارات نتيجة الكساد السياحي وانسحاب المستثمرين سيما بعدما تحولت ظاهرة احتجاز الرهائن الأجانب من أسلوب العرف القبلي الناعم إلى الأسلوب الإرهابي بواسطة تنظيم القاعدة اليمني كوسيلة فعّالة لجني الأموال الهائلة وبالدولار، حيث تذكر صحيفة "نیويورك تايمز" الأمريكیة أن تنظيم القاعدة تحصل من عمليات الاختطاف منذ عام 2008 على حوالي 165 ملیون دولار.
إنه اليمن الذي أحدث اصطدام اقتصاد اجتماعه القبلي الريفي -بثقافته وتقاليده الجمودية- بضرورات العصر قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، بتأثير من مشروع عبد الناصر القوموي النهضوي الذي دعم ثوار اليمن الجمهوريين بسبعين ألف جندي وضابط في مواجهة القبائل المتحالفة مع الإمام البدر مدعومة من السعودية والأردن وبريطانيا.
في النهاية انتصر الجمهوريون خارجين باليمنيين من عصور الخرافة الإمامية. وخلال العقود بعد ذلك، رغم الانقلابات الدموية المتواترة، أظهر اليمنيون تكيفاً متطوراً مع مقتضيات العصر بشكل مذهل في مدخلات ومخرجات التعليم.
لكن الروح القبلية ظلت في ظل مقيل التاريخ الخامل حيث اجترار الوقت قاتاً ينقل من شدق إلى شدق، يسري خدره متعة نسيان وسعادة في خضم تضارب القديم المهيمن بالحديث الناهض.
إنه مخاض ضرورات ولادة يمن حديث بعد دفن تركة القديم الميت المتفسخ. إنه الميت ـ الحي (زومبي) الذي يفكر ويفقّه ويقضي ويحكم ويوجِّه طريقة الحياة والتفكير، فيما يتحرك في هوامش المجتمع والدولة تيارات عقلانية استنارية تجتهد في مقاربة معطيات التحديث (حتى لا نقول الحداثة) في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية.
ثم جاءت حرب توحيد شقي اليمن (الشمالي/ الجنوبي) في يمن موحد، التي في الوقت الذي اعتبرها غالبية اليمنيين الجنوبيين حرب منتصر وهو الشمال بقيادة العقيد علي عبد الله صالح على الجنوب المنهزم الذي تحول إلى إقليم مهمش مستلب في "حرب وحدة" هي في حقيقة الأمر غزوة قبلية ركزت السلطة العليا للدولة في حوزة حكم قبلي-عائلي بديكور ديموقراطي قبلي واقتصاد متدهور يعالج بالديون الخارجية، نتاجه تفقير المفقَرين ومزيد من نهب المتنفذين الفاسدين، حتى كانت انتفاضة الشبابية اليمنية في ما قيل إنه "ربيع عربي".
ثورة الشباب...خلاص من هيمنة الثقافة البطريركية الهرمة
كانت "الثورة اليمنية" انتفاضة شبابية تفجرت يوم الحادي عشر من فبراير 2011 (وهو يوم تنحي حسني مبارك عن السلطة وتسليمها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة).
ربيع الشبيبة العربية (أولاد وبنات) لم تكن انتفاضة محمولة، فقط، على الرغبة الإرادية في الخلاص من استبداد النظام السياسي، إنما كانت تستبطن، في عمق روحها التحررية، الخلاص من هيمنة الثقافة البطريركية الهرمة، وعلى الخصوص في اليمن.
وبالطبع سرعان ما ركبت القوى السياسية المعارضة التقليدية أمواج الانتفاضة الشبابية كمركمجين مهرة تسابقا على نيل السلطة. المائز في "الثورة اليمنية" أنها أكثر انتفاضات "الربيع العربي" شبابية تطلعاً إلى وطن لا قبيلة له.
والمذهل المشاركة النسوية المعارضة في الشوارع والساحات العامة في جمهرة هائلة تفوقت بما لا يقاس عن حجم المشاركة النسوية في ثورتي تونس ومصر وهما مجتمعان ذا تاريخ تنويري ونهضوي ثقافي-اجتماعي متأصل في تاريخ النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
نساء يحملن في دواخلهن جذوة "تحرر المرأة" رغم تلفحهن بالسواد
ورغم أن النساء اليمنيات المتظاهرات كنّ يتظاهرن منفصلات عن الذكور في شوارع وساحات خاصة بهن إلا أنهن كن يحملن في دواخلهن جذوة "تحرر المرأة" رغم تلفحهن بالسواد المطبق إلا أنهن كنّ في دواخلهن، روحاً وعقلاً، يشتعلن بالرغبة الإرادية في التحرر من الاستبداد السياسي كمقدمة للتحرر من الاستبداد البطريركي. فهن كن في معظمهن متعلمات: طالبات وخريجات جامعيات وموظفات وعاملات.
والآن. في بداية عام جديد (2018) يمضى أهل اليمن التعيس الذي كان سعيداً في قديم الزمن في مزيد من التعاسة المرعبة ضحايا الحرب المستعرة بين قبائل آل سعود الوهابيين المتحالفين مع القبائل السنية الشافعية مدعومين من الروم الجدد (الأمريكان) في مواجهة أعدائهم من قبائل الزيديين ورثة الحكامية الإمامية المنقرضة المدعومين من الفرس الشيعة وسندهم "حزب الله".... كل المعطيات تُشير إلى مزيد أبشع من الفوضى والخراب.
فرج العشة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018