نصر حامد أبو زيد...أيقونة التفكير في زمن التكفير
من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة، أن معظم المفكرين الإصلاحيين والتجديديين المسلمين يحظون باهتمام عامة الجمهور في دول العالم الإسلامي وباهتمام الرأي العام الغربي ليس بسبب اجتهاداتهم الفكرية وإنجازاتهم العلمية المميزة، بل بالدرجة الأولى لأنهم يعايشون محنة العالم الإسلامي وعواقب "التفكير في زمن التكفير"، باعتباره أعم أعراض الجمود الفكري وتغييب العقلانية وهيمنة الغيبيات والنظرة الدوغمائية على الخطاب الديني، علاوة على توظيف الفقه الديني لخدمة أغراض سياسية.
وعلى ما يبدو يجب أن يتحول مصير هؤلاء المفكرين النقديين إلى تراجيديا خاصة، أو بتعبير آخر، يجب أن تتحول محنة الخطاب الديني إلى محنتهم الشخصية كي يتم إدراك أهمية هؤلاء المجددين. هذه المفارقة المحزنة مثلتها مسيرة أبو زيد الفكرية ومحنته الشخصية بامتياز، كما جسدتها من قبل معاناة الفيلسوف ابن رشد، الذي كان علماء الدين ووعاظ السلاطين في زمانه "يكفرونه" صباحا ومساء والناس يرمونه بالحجارة عقابا لأفكاره التنويرية!
في ختام احدى المناظرات الجدلية، رد فيلسوف التنوير فولتير على أحد نقاده قائلا: " أنا أرفض أفكارك وأطروحاتك جملة وتفصيلا، لكنني أول من سيدافع عن حقك في التعبير عنها في كل زمان ومكان".
وفي الواقع إذا عدنا إلى بدايات مسارات أبو زيد الفكرية، فإننا سنجد أن نقيض هذا الفكر العقلاني المستنير، أي الفكر الظلامي المتأدلج، هو الذي أدى إلى ملاحقة هذا العقل الاجتهادي، واتهامه "بالكفر" من قبل لجنة "علمية" لم يقرأ أعضاؤها كتبه أو لم يفهموا نتائج أبحاثه.
أعداء الفكر الاصلاحي النقدي لناصر أبو زيد لم يستطيعوا مواجهته فكريا وخطابيا، لذلك اضطروا إلى استقصائه "شخصيا". ملاحقوه، وعلى رأسهم أستاذ علم التفسير في جامعة القاهرة آنذاك، عبد الصبور شاهين، وظفوا فقه الإمام أبو حنيفة الساري المفعول في قضايا الأحوال الشخصية من أجل "تصفيته دينيا"، لأن هذه الفقه يشتمل على مبدأ الحسبة، الذي وُظف للتفريق بين أبو زيد وزوجته ابتهال يونس.
عوقب أبو زيد، لأنه رفض اختزال الدين الإسلامي وتحويله إلى مجرد أداة سياسية تخدم السلطات الدنيوية، وهو ما أكده بقوله: "خطابي يهدد خطاب الإسلامويين، لأني أحلله، وأكشف النقاب عن الخطأ والتلاعب في خطابهم السياسي. إنهم يعلمون أني لست مرتداً ويعرفون أنه لا يوجد في كتبي وأبحاثي أي دليل يدل على ذلك".
تجديد قراءة النص الديني ضرورة معرفية وحياتية
لم يشكك الباحث أبو زيد في لحظة ما في ألوهية النص القرآني وقداسته، كما ادعى الذين كفروه مرارا وتكرارا. الباحث المسلم أبو زيد، المؤمن بسمو قيم هذا الدين الحنيف، سعى إلى محاربة تشويه جوهر الدين الإسلامي، وأراد تحرير النص القرآني من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. كما أنه لم يقرأ النص القرآني قراءة معاصرة تهدف إلى تجديد العقل الفقهي فقط، بل تجاوز ذلك وأضاف إليه قراءات جديدة متعددة معرفيا وبعيدة جدا عن جملة القراءات الاستهلاكية.
تميز أبو زيد بتواضع العالم ونزاهته وبشجاعة الناقد المُجدد، فهو لم يرضخ لجبروت الإرث التكفيري والظلامي الذي لاحقه، كما أنه لم يفقد تفاؤله وإيمانه بمستقبل التجديد والإصلاح احتراما لقيم الدين الإسلامي السامية ورسالته الإنسانية، وشدد في آخر حوار له مع موقع قنطرة على أنه "شاهد على التغيير الحتمي في الخطاب الإسلامي، رغم كل الصعوبات والتضحيات التي يعايشها دعاة النقد والإصلاح".
رحل ناصر حامد أبو زيد، أيقونة التفكير في زمن التكفير،عن عالمنا في زمن الاختزالات الدينية والنكوصات المعرفية. لكنّ عزاءنا الوحيد يبقي متمثلا في تلاميذه وطلابه وطالباته وحملة أفكاره وقيمه التي عاش ومات من أجلها.
الكاتب: لؤي المدهون
حقوق النشر: قنطرة 2010
المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام
هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟