لحن شرقي رنان وترجمة للأشعار
يتسم مهرجان بيتهوفن هذا العام 2023 كالعام الماضي بابتعاد مديره الفني الشاب عن النهج "النخبوي" الذي يراعي عمالقة الموسيقي الكلاسيكية في المقام الرئيسي. فقد فتح الطريق أمام الموسيقى التجريبية العصرية وجذب من خلال ذلك الشباب. أما كبار السن فيبدو أنهم ما زالوا في حاجة للتأقلم مع هذه المستجدات. تضمن المهرجان كذلك طلة سريعة على الموسيقى التحديثية في إيران وأفغانستان.
يشكل الكبار في السن في ألمانيا وغيرها من الدول الصناعية الهامة أغلبية عدد السكان على عكس الحال في دول ما يسمى عالم الجنوب أي العالم الثالث. والملفت للأنظار أن نسبة مشاركة الكبار في السن في الفعاليات الثقافية والفنية تبلغ في المتوسط 60 الى 80 بالمائة مما قد يدفع البعض للقول إن أغلب الحضور هم من سكان دور الكبار في السن.
لا شك أن عامل القدرة الاقتصادية يلعب هنا دورا هاما حيث أن معظم الشباب لا يستطيعون تحمل تكلفة بطاقات المسارح ودور الأوبرا والحفلات الموسيقية ذات النمط الكلاسيكي على الرغم من دعم الدولة لتلك الفعاليات مالياً.
فسح المجال للشباب
المدير الفني لمهرجان بيتهوفن ستيفين فالتر Steven Walter يبلغ من العمر 35 عاما وهو عازف مشهور بآلة تشيلو الموسيقية وقد تولى منصب الإدارة الفنية لمهرجان بيتهوفن قبل عام واحد فقط. جاء ستيفين فالتر بأجندة جديدة قوامها أولاً "تحرير" المهرجان من القيود التقليدية والمعايير النخبوية وثانيا فسح المجال للشباب بحضور معظم فعاليات المهرجان من خلال خفض تكاليف البطاقات لهم على نحو كبير.
أما بالنسبة للبرامج فقد عمد منذ العام الماضي 2022 إلى الربط بين الحفلات الموسيقية على النمط الكلاسيكي المعهود تقليديا في أوروبا وبين أنماط الموسيقى الحديثة التي يزداد الاقبال عليها من اغلبية الأجيال الشابة مثل الجاز والموسيقى التجريبية إلخ. فبالإضافة الى أعمال عمالقة الباروك مثل باخ وفالينتيني والعصر الكلاسيكي مثل بيتهوفن وموتزارت وهايدن وبروكنار والرومانسي مثل شوبيرت وشتراوس وشومان تضمنت أجندة المهرجان اعمالا موسيقية اما تجريبية أو بصيغة تكييف الموسيقى القديمة مع النماط العصرية.
مزج بين باخ وبيتهوفن
نجح عازف البيانو الشاب كيت أرمسترونغ الأمريكي من أصل تايواني في حفلته الموسيقية بالمزج بين باخ وبيتهوفن مع العلم بأن بيتهوفن ولد عام 1770 أي بعد 20 عاما من وفاة باخ. وقد تتلمذ على يد عدد من مشاهير عازفي البيانو مثل ألفريد برنديل، الذي اعتبر تلميذه -وهو في سن الثالثة عشرة- من أكثر عازفي البيانو نبوغا في العالم. فعزف في إحدى حفلات المهرجان مقطوعات ربطت بين كونسيرتو البيانو لباخ المسمى "أنغام من وحي مزاج متوازن"، وهي من أشهر وأقدم أعمال باخ، وبين عدة مقطوعات سونات أغلبها "مَرَح" لبيتهوفن.
على الرغم من اختلاف عَصْرَيْ باخ وبيتهوفن واختلاف أنماطهما الموسيقية بالتالي فقد خلق هذا التشابك الموسيقي انسجاما غير مسبوق. رأينا مثل هذا التواصل المتشابك لدى عازف بيانو آخر هو الأسترالي أنطوني رومانوك الذي ربط في حفل موسيقي واحد -دون أي توقف أو استراحة- بين قرابة 12 ملحنا قديما وحديثا. الجدير بالذكر أن بيتهوفن عشق موسيقى باخ واعتبرها إلهاما كبيرا لملاحمه الموسيقية الشهيرة مثل سمفونياته التسع المعروفة. وكان باخ قد ألف الكونسيرتو المشار إليه ليكون حافزا لأبنائه كي يصبحوا موسيقيين مثله. وبالفعل حقق ثلاثة من أبنائه نجاحا كبيرا كموسيقيين في عصري الباروك والكلاسيك.
برازيلية منحدرة من أصول سورية
عزفت الجوقة الرباعية الأمريكية بروكلين رايدر Brooklyn Rider مقطوعات موسيقية مستحدثة لبيتهوفن ولموسيقيين معاصرين مثل كلاريس أسد البرازيلية المنحدرة من أصول سورية واستضافت الجوقة عازف المندولين المشهور عالميا أفي أفيتال الذي أكسب العروض الفنية طابعا شرقيا متميزا حيث لوحظ تأثير نغمات العود على أدائه الموسيقي. من هنا جاءت أعماله الموسيقية مزيجا بين التراثين العربي واليهودي الشرقيين.
ومن ألمع نجوم المهرجان هذا العام الموسيقار أبيل سيلاوكوي Abel Selaocoe المنحدر من جنوب أفريقيا فقد قدم مع فرقته المكونة من موسيقيين أفارقة و بريطانيين وإيرلنديين مقطوعات أفريقية أصيلة رائعة اللحن ومقطوعات أخرى ربطت بين الكلاسيك الأوروبي والجذور الموسيقية الأفريقية على نحو انسجامي متقن أثار إعجابا ملحوظا من الجمهور الألماني. كما أثبتت الجوقة إتقانها المهني للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بعزفها جزءا من سمفونية للموسيقار النمساوي الشهير هايدن.
حضور فني شرقي
كان للشرق هذا العام 2023 أيضا حضور فني ولو متواضع. فقد جرت عدة حفلات فنية في إطار مشروع أُسس قبل أكثر من عقدين يسمى "في محط الأنظار" تناول هذا العام عروضا موسيقية وأدبية وشعرية على وجه خاص من أفغانستان وإيران. نُظِّم برنامج هذا العام تحت مظلة عدة مؤسسات معنية بالحوار بين الغرب والعالم الإسلامي من ضمنها "ديوان الشرق والغرب"، الذي أنشأه المايسترو المشهور بارنبويم وأستاذ الدراسات الإنكليزية الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
تضمن البرنامج عروضا موسيقية وأدبية متنوعة من أفغانستان وإلى حد ما من إيران وتمشى مع الخط الجديد الذي ينتهجه منظمو المهرجان حيث اتسمت العروض الموسيقية بتحديث تجريبي بعيد عن التراث الشرقي المعهود. وألقيت في تلك الأمسية قصائد شعرية متعددة أغلبها في اللغة الدَّرية -أوْ: الدارية- القريبة من الفارسية. وعلى الرغم من عدم إتقان الجمهور لهذه اللغة فقد جاء وقع الإلقاء إيجابيا بفضل اللحن الرنان وتقديم ترجمة ملخصة لمحتوى الأشعار. الجدير بالذكر أن البرتغال أعطت اللجوء لفرقة المعهد الأفغاني للموسيقى بعد منع حكومة طالبان ممارسة كافة أنواع الفنون كالموسيقى والغناء والرقص.
يبقى السؤال عالقا عما إذا وُفِّق المدير الفني للمهرجان ستيفين فالتر في الجمع بين الأشكال التقليدية والتجريبية في برنامج هذا العام. لكنه نجح مؤكَّدا في جذب الشباب نحو الفعاليات الموسيقية، فعلى عكس الحال في السنوات الماضية شكَّل حضور من هم أقل من 50 عاما من العمر نسبة عالية لا تقل عن 30 بالمائة.
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023